البرّية ومواجهة الشّرّير «متفرقات

 

 

البرّية ومواجهة الشّرّير

 

 

 

 ليست البرّيَّة موضع لقاء الله فحسب، بل هي موضع مُواجهة الشرّير أيضًا 

 

فالعبرانيون، إذا أكلوا وشربوا من فيض عطايا الله، وقعوا في تجربة التذمُّر عليه وعدم الثقة به.

 

وهذا ما نُريد إظهاره من خلال مُواجهة يسوع للشرِّير في أثناء حياته الأرضيَّة بعامّة وفي البرّيَّة بخاصَّة، ثمّ لأنطونيوس، وسنُطبِّقه عـلى الحياة الرّهبانيّة والعلمانيّة.  

 

 

 

مُواجهة يسوع للشرِّير

 

يظلُ شخص يسوع المِثال الأعلى والنموذج الأسمى لمواجهة الشرّير. لذلك يمكننا أن نقرأ حياته من هذه الزاوية، قارئين قراءتَين مُتكاملتَيْن لها؛ أمّا الأولى فهي قراءة يوحنّا الإنجيليّ، وأمّا الثانية فهي قراءة الإنجيليِّين الإزائيِّين.

 

 

 

مُحاربة يسوع للشرِّير 

 

لقد بنى يوحنّا إنجيله على إظهار المعركة التي دارت بين يسوع والشرِّير. فإذا كان اليهود ورؤساء الكهنة والسّلطات الرومانيّة قد اضطهدوه وصلبوه وقتلوه، إلّا أنّه كان وراءهم محرِّضٌ، ألا وهو "سيِّد هذا العالم" و"القاتل" و"أبو الكذب"، كما سمّاه يسوع.

 

فهو الذي استخدمهم فدفعهم إلى قتله. وإنّ الآلام بوجه خاصٍّ هي تلك المعركة الحاسمة بين يسوع والشرِّير. ومن هذه الزاوية يجوز قراءة الآية الغامضة "قوموا نذهب من ههنا" (يو 14 /31) على النحو الآتي: "قوموا نذهب إلى مُقابلته"، أي إلى مقابلة الشرِّير للمعركة الحاسمة.

 

وفي هذه المعركة، انتصر الشرِّير حين نفـّـذ بيلاطس طلب اليهود ورؤسائهم فأسلم يسوع إليهم وإلى مشيئتهم، فاستهزأوا به وآلموه وقتلوه مصلوبًا. وإنّ صلبه وموته انتصار الشرِّير عليه، فقد حقَّق الشرِّير كلّ مشيئته كرئيس لهذا العالم وكأبي الكذب فوُفِّق كلّ التوفيق.

 

غير أنّ انتصاره هذا ما كان إلا ظاهريًّا، لأنّ الله حوَّل الموت إلى حياة والآلام إلى مجد، والفشل إلى انتصار. فغلب يسوع المسيح القائم الشرِّيرَ الذي كان يتظاهر بالغلبة، لذلك استطاع أن يقول:

 

"ثِقوا، إنّي غلبتُ العالم" (يو16/ 33).

 

"إنّ سيِّد هذا العالم آتٍ وليس له يدٌ عليَّ" (يو14 /30).

 

"اليوم دينونة هذا العالم. اليوم يُطرد سيِّد هذا العالم إلى الخارج. وأنا، إذا رُفعتُ من الأرض جذبتُ إليَّ الناس أجمعين" (يو12 /30 -32).

 

وإنّ المؤمن مدعوٌّ إلى أن يُجاهد في مُحاربة الشرِّير مع المسيح وعلى غراره. وقد وصف بطرس هذا الجهاد الروحيّ:  "إنّ إبليس خصْمكم كالأسد الزائر يَرودُ في طلب فريسة له" (1 بط 5/ 8).

 

ولِمقاومته، وصف بولس "سلاح الله" الذي يتسلّح به المؤمن في هذا الجهاد الروحيّ: "تسلّحوا بسلاح الله لتستطيعوا مُقاومة مكايد إبليس".

 

إذن انهضوا أو شُدّوا أوساطكم بالحقّ، وتدرّعوا بالبرّ وانتعلوا بالحميّة في إعلان بشارة السّلام، وتترَّسوا بالإيمان في كلِّ حال، فإنّكم تقدرون أن تخمدوا به جميع سهام الشرِّير المشتعلة. والبسوا خوذة الخلاص وتقلَّدوا سيف الـروح، أي كلام الله" (أف 6/ 10- 17).

 

فالسلاح المرجوُّ هو سلاح روحيّ، أي قوّة الله نفسه وانتصار المسيح ومعونة الروح للانتصار على الشرِّير. فهكذا يُتمِّم المؤمن انتصار يسوع المسيح على الشرِّير.

 

 

 

مُقاومة يسوع لتجارب الشرِّير

 

وثمّة وجه آخر لمواجهة الشرِّير، ألا وهو مقاومة تجاربه. فيذكر الإنجيل أنّ الرّوح القدس أخرج يسوع إلى البرّيَّة حيث كان "الشيطان يُجرِّبه" (مر 1 /12-13). وهناك ثلاث قراءات جائزة لتجارب البرّيَّة: القراءة الكتابيّة والقراءة الرّهبانيّة والقراءة الأنثروبولوجيّة. فنوردها هنا باختصار.

 

 

  القراءة الكتابيّة 

 

إنّ تجربة الخبز التي جُرِّب فيها يسوع، هي تجربة الشّعب العبرانيّ عينها، كما نذكر. وإنّ تجربة إلقاء يسوع نفسه لتحمله الملائكة، هي تجربة الشّعب عندما جرَّبوا الله في "ماسّة ومريبة". وأمّا تجربة السّجود للشيطان، فهي تجربة الشّعب عندما عبدوا عجل الذهب (خر32 /1-10) وعندما حاربهم العماليق (خر 17 /8 ت).

 

 

 القراءة الرُّهبانيّة 

 

يُقاوم الرُّهبان التجربة الأولى بنذر العفّة، بمعنى التسامي فوق كلِّ ما هو مادِّيٌّ عامّة وجنسيٌّ خاصّة.  

 

وإنّهم يُقاومون التجربة الثانية بنذر الطاعة، بمعنى عدم إخضاع الله لرغباتهم، بل بخضوعهم لله.

 

وإنّهم يُقاومون التجربة الثالثة بنذر الفقر، بمعنى التخلّي عن جميع الممتلكات والأرضيّات.

 

 

 القراءة الأنثروبولوجيّة  

 

ترمز تجربة الخبز إلى غريزة الامتلاك (AVOIR)، ذلك بأنّ الخبز يرمز إلى كلّ ما هو مادِّيّ. 

 

وترمز التجربة الثانية إلى غريزة الشُّهرة والنجاح والمجد الباطل (VALOIR)، ذلك بأنّ الرغبة في حمل الملائكة مَن يُلقي نفسه هي رغبةٌ في الظهور والسّمعة الطيِّبة ومديح الناس.

 

وترمـز التجربة الثالثة إلى غريزة التسلُّط على الآخرين لإخضاعهم (POUVOIR).

 

فالغرائز الثلاث هذه يستخدمها الشرّيّر ليُجرِّب الإنسانَ من خلالها في علاقته بالأشياء، وأيضًا بنفسه، وكذلك بالآخرين فإنّه يعرض عليهم قيَمًا ثلاث يبنون عليها حياتهم ويعتمدون عليها في حياتهم.

 

لقد جرّب الشيطان يسوع في البرّيّة، رمزًا إلى تجاربه له في أثناء حياته الأرضيّة. فعلى سبيل المِثال، قد جرَّب يسوع في شأن المجد الباطل والتسلّط على الآخرين عندما أراد الشّعب، بعد مُعجزة تكثيرالخبز والسّمكتين، "اختطافَه ليُقيموه ملِكًا"؛ ولكنّه "انصرف وعاد وحده إلى الجبـل" (يو6 /15).

 

 كما أنّ الشرّير جرّبه في الاستعانة بالملائكة عندما استلّ بطرس سيفه ليضرب خادم عظيم الكهنة، ولكنّ يسوع أمر بطرس بأن يُخمد سيفه وشرح له الموقف: "أوتظنُّ أنّه لا يمكنني أن أسأل أبي، فيمدّني الساعة بأكثر من اثني عشر فيلقـًا من الملائكة؟" (متى 26 /53).

 

وكذلك قد جرّبه الشرّير في النزول عن الصّليب ليؤمن به المشاهدون صلبَه؛ ولكنّه رفض هذا النجاح الرخيص الخسيس (متى 27/ 42).

 

 وهكذا أصبحت البرّيَّة رمزًا إلى المعركة بين الشرّير والإنسان، وأصبحت موضعًا رمزيًّا لسُكنى الشرّير. لذلك، ذهب أنطونيوس إلى البرّيَّة.

 

 

 

مُواجهة أنطونيوس للشرّير

 

         

 نتذكّر أنّ أنطونيوس أمضى سنين كثيرة في القبور. والمعروف أنّ القبور ترمز إلى انتصار الشّيطان على البشر الموتى، لأنّ الموت أجرة الخطيئة (روم 6/ 23)؛ فكأنّي بأنطونيوس يذهب لمحاربته في وكره. وكذلك نتذكّر أنّه توغّل في عمق البرّيَّة، وهي - كما رأينا - ترمز إلى سُكنى الشيطان.

 

فلماذا جعل الرّوح القدس أنطونيوس يترك المجتمع ويذهب إلى القبور ثمّ إلى البرّيَّة حيث الشّيطان وتجاربه؟

 

 مُحاربة أنطونيوس للشرّير  

 

ليلتقي الله كما سبق أن رأيناه.

 

وكذلك ليحارب الشرّير؛ فلماذا؟

 

علينا أن نعود إلى حال الكنيسة والمجتمع في ذلك الزمن. ففي تلك الحقبة، أوشك عصر الإضطهادات من النهاية، فاستقرّ وضع الكنيسة مدنيًّا واجتماعيًّا وسياسيًا، فأخذت الكنيسة تندمج في المجتمع حتّى كادت أن تُصبح "من العالم"، لا "في العالم" فحسب. فإزاء هذا الخطر، أسمع الرّوح القدس أنطونيوس دعوة يسوع المسيح له إلى أن يترك كلّ شيء ليتبعه؛ فتبعه بالفعل في القبور ثمّ في البرّيَّة والجبال.

 

 

وإنّ لهذا الوجه المشرق من دعوة المسيح لأنطونيوس – وهي اتّباعه – وجهًا آخر، ألا وهو مُحاربة الشرّير مع المسيح ومِثله، لأنّ الشرّير كان يعمل بضراوة في الكنيسة، لأنّها كانت تُصبح "من العالم" وتتمسّك بالأرضيّات والمادّيّات. فعندما أخرج الرّوح القدس أنطونيوس إلى البرّيَّة، كان ذلك في سبيل محاربة الشرّير وكره، والانتصار عليه من حيث يُهاجم الكنيسة.

 

 

ففي ما قبل، كان الشرّير يُحارب الكنيسة من خلال الاضطهادات المُوجّهة إليها، واستشهاد أبنائها أمانة لإيمانهم. وأمّا في عصر أنطونيوس، وقد هدأت الاضطهادات، فأصبح الشرّير يُحاربها من خلال الانغماس في العالم؛ ولذلك ألهم الرّوح القدس الكنيسة – في شخص أنطونيوس – أن تحيا الأمانة للإنجيل في شكل آخر، ألا وهو حياة البرّيَّة، حياة الإنفصال عن المجتمع، لا لأنّ المجتمع في حدِّ ذاته فاسد أو لا جدوى منه، بل ليتذكّر المسيحيّون أنّ مدينتهم الحقيقيّة ليست أرضيّة، بل سماويّة: "أذهب فبِع ما تملك وأعطه للفقراء، فيكون لك كنز في السّماء، وتعالَ واتبعني" (مر10 /21).

 

فعندما أسمَعَ الرّوحُ القدس أنطونيوس دعوة يسوع الحيّة هذه، كان يُسمعها للكنيسة كلّها من خلال أنطونيوس. ولذلك، فقد اعتبر أحد اللاهوتيِّين الروحانيِّين الشرقيِّين المعاصرين أنّ الحياةَ الرهبانيّة هي "الخيط الذهبيّ" (Fil d’or)، وأنّ الرّهبان هم "مُتجلّون" (Transfigurés)، أمّا حياة الاستشهاد فهي "الخيط القرمزي" (Fil de pourpre).

 

فاستمـرّت هكذا الكنيسة في شهادتها للمسيح. وبعدما كانت تشهد له بالكرازة والاستشهاد في عصر الرّسل، شهدت له في عصر الاضطهادات بالاستشهاد بشهادة الدّم، ثمّ في عصر السّلام القسطنطينيّ بالرّهبنة بشهادة الحياة؛ وممّا يُذكر أنّ أنطونيوس اختبر استشهاد الضمير (عدد47) في مواجهته للشرّير. وإنّ كِلا الاستشهاد والرّهبنة شهادةٌ بالحياة، لا بالكلام.

 

ولقد قال إغناطيوس الأنطاكيّ للمسيحيِّين الذين كانوا يُريدون أن يمنعوه من الاستشهاد :"لا تمنعوني من بلوغ النور"، ثمّ أضاف: "الآن، سأصبح إنسانًا". وبالفعل فإنّ الرّهبنة هي تحقيق لملء إنسانيّة الرّاهب.

 

وهكذا، فإن لم يعُد العالم يقاوم الكنيسة – بسبب زوال الاضطهادات – إلّا أنّ الكنيسة أصبحت هي تعارض العالم بفضل الرّهبنة التي عاشت جذريّة مُتطلّبات الإنجيل في البرّيَّة، بعيدة عن إرضاء العالم والانغماس فيه ومُسايرته التي تُؤدِّي بالكنيسة إلى فقدان مُلوحتها ونورها وحرِّيَّتها.

 

وعندما عاد الشرّير فهاجم الكنيسة من خلال اضطهاد الإمبراطور مَكسيمانُس لها، ثمّ من خلال بدعة أريوس – كما سبق أن ذكرناه – فلم يتردّد أنطونيوس في الذهاب إلى الإسكندريّة ليُشجِّع المسيحيِّين ويُقوِّيهم، مُحارباً هكذا الشرِّير الذي كان يقاوم الكنيسة بضراوة من نوع آخر. وبعد ذلك عاد أنطونيوس إلى جبال البرّيَّة ليُواصل مُحاربته الشرِّير في وكره المُعتاد.

 

 مُقاومة أنطونيوس لتجارب الشرّير

 

جرّب الشرّير أنطونيوس مِثلما جرّب الشعبَ العبرانيّ ويسوعَ نفسه، بل وكلَّ إنسان، في الأمور البشرّية التي يحياها البشر، ولا سيّما الغرائز الدفينة في طبيعتهم البشريّة. فنذكر منها:

 

 الطعام

 

جرّب الشرّير أنطونيوس – كما جرّب الشّعب العبرانيّ ويسوع نفسه – في غريزة الأكل: "الأطعمة ولذائذ أخرى من الحياة". 

 

ويروي أنطونيوس نفسه تلك التجربة بقوله للنسّاك: "كُنت صائمًا، فأتى إليّ ذلك المُخادع كراهب يحمل في يديه خُبزًا خياليًّا، ونصحني قائلاً: كُلْ وكُفّ عن العذابات الكثيرة، فأنت إنسان وسوف تمرض" وأضاف أنطونيوس قائلاً: "لكنّني أدركتُ حيلته، ولذلك نهضتُ للصّلاة".

 

فانتصر هكذا على تلك التجربة بفضل الصّلاة وعدم استسلامه للغريزة، وأصبح هكذا مِثالًا لجميع المسيحيِّين في ضبط شهوة الطعام بالأصوام وبالامتناع الحرّ عن بعض المأكولات.

 

  المال

 

ويروي أثناسيوس كيف جرّب الشرِّير أنطونيوس في غريزة الامتلاك: "ألقى (العدوُّ) قُرصًا فضِّيًّا كبيرًا وأمّا أنطونيوس، فقد أدرك كارِهَ الخير، فنظر إلى القرص ووبّخ الشّيطان الذي فيه (...) فاختفى القرص".

 

وبعد ذلك، "عندما تقدّم (أنطونيوس) في الطريق، رأى ذهبًا حقيقيًّا مُلقىً على الطريق؛ وأمام ذلك تعجّب من كمِّيَّة الذهب. ولكنّه عبر فوقها، وكأنّه يعبر فوق النّار، فلم يُرجع رأسَه إلى الخلف، بل أخذ يركض بسرعة حتّى يختفي المكان فينساه".

 

ومرّة أُخرى: "أظهر لي في البرّيَّة ذهبًا خياليًا حتى ألمسه وأنظر إليه"؛ لكنّ أنطونيوس قاوم التجربة: "كنت أرتِّل من كلِّ القلب، وكان ذلك يُذوِّب من شرّه".

 

وهنا أيضًا انتصر أنطونيوس على هذه التجربة بالصّلاة والمقاومة، فأصبح مِثالاً لجميع المسيحيِّين تتميمًا لوصيّة يسوع بالتخلّي عن المال والمُمتلكات. 

 

 الجنس

 

ولم ينجُ أنطونيوس"الشّاب" من تجربة الغريزة الجنسيّة، ولكنّه قاومها هي أيضًا بضراوة:

 

"فالشّيطان أثار فيه الأفكار القبيحة؛ وأمّا أنطونيوس فكان يُقاومها بالصّلاة. وجرّبه أيضًا مـن طريق الشّهوة، وأمّا هو فاحمرّ خجلاً، وحصّن جسده بالصّوم والصلوات.

 

ولكنّ هذا الشقيّ ظهر له في اللّيل كامرأة مقلّدًا جميع التصرُّفات النسائيَّة حتّى يخدع أنطونيوس؛ وأمّا هو فكان يفكِّر في المسيح، وفي نُبله المسيحيّ، وفي روحانيّة النفس، فأخمد جمرة خداع الشّيطان.

 

وإنّ العدوّ أشار إلى حلاوة اللّذة، ولكنّ أنطونيوس امتلأ غضبًا وحزنًا وأخذ يفكّر في تهديد النّار وألم الدود، مُقاومًا هذه الأمور". 

 

وقد كشف العدوُّ هُويَّته: "أنا هو صديق الزنى، أنا مَن ينصب فِخاخ الزنى ويُثير الشّهوة في الشباب؛ لذلك دُعيتُ روح الزنى. كم من الذين أرادوا الزهد خدعتُهم، وكم من الذين حافظوا على العفّة أقنعتُهم بشهواتي (...) وأعثرتُهم".

 

وأمام ضراوة تجارب الشرّير وكثرة مكايده هذه، "لم يُظهر (أنطونيوس) تكاسُلاً أو تراخيًا – لأنّه انتصر على الشيطان – كما أنّ الشيطان لم يتوقّف قطّ عن نصب الفِخاخ لكونه قد هُزم.

 

وكان (أنطونيوس) ينسك نُسكًا قاسيًا، لأنّه كان يعتقد أنّ الشّيطان، إن لم ينجح حتّى الآن في أن يخدع قلبه بلذّة جسديّة، فسيُحاول بوسائل أخرى أن ينصب له شركًا، لأنّ الشّيطان صديق الخطيئة.

 

لذلك كان يقسو على جسده ويزداد استعبادًا له، خوفًا من أن يقع في خطيئة مُعيّنة في حين أنّه انتصر على أخرى. فمن هنا أراد أن يتعوّد النسك القاسي".

 

فهكذا انتصر أنطونيوس على هذه التجربة بالصّلاة والتفكير في المسيح وفي يوم الدّينونة، وكذلك  بمقاومة الغريزة نفسها بقوّة المسيح فيه وقوّة إرادته، فأصبح هكذا مِثالاً لجميع المسيحيِّين.

 

   إنّ التجارب الثلاث هذه مُرتبطة بتجربة الشرّير الأولى ليسوع المسيح، تجربة الخبز الذي يرمز إلى الطعام (القراءة الكتابيّة) أو إلى الامتلاك (القراءة الأنثروبولوجيّة) أو إلى الجنس (القراءة الرّهبانيّة). ولقد جرّب الشرِّير أنطونيوس تجربَتَيْ يسوع الأخيرتَين أيضًا.

 

 

 المجد الباطل 

 

فلقد جرّب الشرّير أنطونيوس مِثلما جرّب يسوع تجربته الثانية عندما حرّضه على أن يُجرّب الله بإلقاء نفسه إلى أسفل، فيضطرُّ الله أن يُنقذه. يروي لنا أثناسيوس ما يلي:

 

"كان الربُّ يستجيب (زُوّار أنطونيوس) نظرًا إلى فضله. ولكنّ أنطونيوس لا يفتخر إذا استجاب الربُّ لطلبه، ولا يتذمّر إذا لا يستجب له، بل يشكر الربّ دائمًا ويحثُّ المتألّمين على الصّبر وعلى الاقتناع بأنّ شفاءهم لا يعتمد عليه، بل على الربِّ الذي يشفي مَن يريد.

 

فكان المتألّمون يقبلون كلمات الشيخ كشفاء لهم. وتعلّموا ألّا يفقدوا صبرهم، بل أن تطول أناتهم. والذين نالوا الشفاء تعلّموا ألّا يشكروا أنطونيوس، بل الربّ".

 

  

إنّ أنطونيوس لم يُجرِّب الله كما جرّبه الشّعب العبرانيّ في ماسَة (التجربة) ومريبة (التذمُّر)؛  فلم يفرض إرادته على الله، بل كان يعرض عليه صلاته من أجل زوّاره، تاركًا له التصرُّف كما يريد، مُقتديًا هكذا بيسوع الذي أخضع إرادته لإرادة الآب في بستان الزيتون. ولم يفتخر بما كان يتمُّ من شفاء عن يده، بل كان يردُّه إلى الله منبع الشفاء.

 

وعندما كان ينتصر على تجارب الشّياطين، كان لا ينسب انتصاره إلى نفسه، بل إلى الله:

 

"إن سُوري وحصني بالسّلامة هو إيماننا بالربّ"، الأمر الذي كان يجعل الشّياطين "تضحك على نفسها ولا عليه".

 

ولم يقع أنطونيوس في فخِّ المجد الباطل الذي يُهدِّد جميع البشر، بل أصبح مِثالاً لجميع المسيحيِّين، اقتداءً بالمسيح الذي تحمّل جميع ألوان الإهانات والاضطهادات.

 

 

 

 الكبرياء  

 

وعلى مِثال يسوع في التجربة الثالثة، جُرِّب أنطونيوس في الكبرياء: "ظهر مرّة شيطان طويل القامة جدًا بعظمة، وتجرّأ على القول: أنا هو قوّة الله، أنا هو العناية الإلهيِّة ماذا تُريد أن أعطيك؟".

 

 وأمّا ردُّ أنطونيوس فكان قاطعًا: "أمّا أنا فذكرتُ اسم المسيح وبصقتُ على (الشيطان) مُحاولاً لطمه، وأعتقد أنّني لطمتُه. وحالما سمع طويل القامة اسم المسيح، اختفى مع كلِّ مَن معه".

 

ولقد حاول الشرّير أن "يثنيه عن عزمه القويم"؛ إلّا أنّه فشل. كما حاول الشرّير أن يُجرِّبه بالكبرياء عندما كان يشفي المرضى؛ ولكنّ أنطونيوس كان يقول: "ليس هذا العمل عملي(...). فالشفاء عملُ المخلِّص الذي يصنع رحمة في كلِّ مكان".

 

 فكانت سِمة أنطونيوس ألا يتمثَّل بكبرياء الشرّير، بل أن يقتدي بتواضع يسوع: "كان ذا خلق حميد ونفس مُتواضة، وبالرّغم من عظمته، كان يحترم جدًّا قوانين الكنيسة،  ويُجلُّ الإكليرُس، فلم يخجل من إحناء رأسه للأساقفة والقساوسَة. وعندما كان يزوره شمّاس للمنفعة الروحيّة، كان يتباحث معه في ما ينفع، ويُوفِّر له فرصة للصّلاة؛ ولم يكن يخجل من أن يتعلَّم منه. وكان يطرح باستمرار أسئلة ويرجو أن يسمع آراء الإخوة".

 

ومن أقواله المأثورة في شأن التواضع، هذا القول: "رأيتُ فِخاخ العدوِّ مُنبثّة في الأرض كلِّها، فقلت مُتنهِّدًا: تُرى مَن يسلم منها؟ فسمعتُ صوتًا يُجيب: المتواضعون".

 

وختم أثناسيوس سيرة أنطونيوس بقوله: "إنّ الرَّبَّ والمخلّص يسوع يُمجِّد الذين يُمجِّدونه، ويقود الذين يُمجِّدونه إلى النهاية، لا إلى ملكوت السماوات فحسب، بل يجعلهم هنا معروفين في كلِّ مكان لمنفعة الآخرين، رغم أنّهم يختبئون ويُسرعون إلى الانسحاب والابتعاد". وبالتالي، فإنّ التواضع يُؤدِّي بالمتواضع إلى تمجيد المسيح وتمجيد النّاس له: "من وضع نفسه رُفع" (متى 23/ 12).

 

هكذا انتصر أنطونيوس على تجربة الكبرياء مُرجعًا كلّ فضل فيه إلى مصدره الحقيقيِّ وهو الله، فأصبح مِثالاً في التواضع لجميع المسيحيِّين، حتّى إنّ يوحنّا السلّميّ تحدّث عن "التواضع الكامل كلّ الكمال"، وإغناطيوس دي لويولا عن "التواضع المحبّ"، وهما راهبان تأثّرا بأنطونيوس.

 

 

 

 العودة إلى الماضي 

 

كلُّ ما سبق من تجارب، كان يتعلّق بحاضر حياة أنطونيوس الواقعيّة. ولم يكتفِ الشرِّير بهذا اللّون من التجارب بل جرّبه بتذكيره ماضيه، خاصّة وأنّ أنطونيــوس "في الأيّام الأولى من نسكه، صمّم على عدم العودة إلى الاهتمام بالأمور العائليِّة، وعلى عدم تذكُّر أقربائه، فركّز كلّ رغبته وغيرته على قوّة النسك".

 

وأمّا الشرّير، فعندما رأى "في هذا الشابّ كلّ ذلك العزم، أخذ يُقاوم كلّ ما يُصمِّم على فعله. ففي البدء، حاول أن يهدم حياة أنطونيوس النسكيّة، مذكِّرًا إيّاه بممتلكاته، وبالعناية بأُخته، وبمودّة أقربائه، وبمحبّة المال، وبالمجد الباطل، وبالأطعمة، وبلذائذ أخرى من الحياة".

 

فحاول الشرِّير أن يجعل أنطونيوس يحِنّ على ماضيه ليترك هذه الحياة، ولكنّه فشل. وعليه فقد أوصى أنطونيوس الرّهبان في خُطبته إليهم: "لا نُفكِّرنّ في العودة إلى الحياة الدنيويّة بعد أن بدأنا. (...) ولا نقُل إنّنا عتقنا في الحياة النسكيّة، بل لتزد حماستُنا يومًا بعد يوم، وكأنّنا نبدأ كلّ يوم".

 

هكذا انتصر أنطونيوس على تجربة العودة إلى الماضي، آخذاً  بالاعتبار إنذار يسوع: "ما من أحد يضع يده على المحراث، ثمّ يلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله"  (لو9/ 62)، ومُحقِّقًا اختبار بولس: "أنسى ما ورائي وأتمطّى إلى الأمام فأسعى إلى الغاية" (فل 3/ 13-14)، فأصبحَ مِثالاً لجميع المسيحيِّين عامّة والرّهبان خاصّة.

 

 

 

الخوف من المستقبل

 

ولقد أضاف أثناسيوس: "وأخيرًا ذكّره المُجرّب بصعوبات الفضيلة، وبما تتطلّبه من جُهد؛ وأظهر له كذلك ضُعف الجسد وطول الوقت؛ وأثار في ذهنه الأفكار القبيحة".

 

وكانت الشياطين تُلّح عليه: "لن تستطيع احتمال مكيدتنا"، وإزاء هذه التجربة، كان وعد الله واضحًا جليًّا: "سأكون لك عونًا على الدّوام". وهكذا انتصر أنطونيوس على تجربة الخوف من المستقبل، واثقًا بحضور الله  له في أثنائها، فأصبح مِثالاً لجميع المسيحيِّين، حتّى إنّ أحد الرّهبان المُتعبِّدين قال: "لا تسألِ الحُبّ إلى أين يذهب" (يوحنّا الصّليب)؛ فالرّجاء في الله، والثقة بعنايته الأبويّـة (لو12/ 22-32) وبحضور عمّانوئيل إلى انقضاء الدّهر (متى 28/ 20) وبقيادة الرّوح القدس (يو3/ 8 و21/ 18)، هي من مقوِّمات الحياة المسيحيّة في نظرتها إلى المستقبل.

 

ولقد اختبر راهب من القرن السّادس عشر الخوفَ عينه، فوصفه، مُتحدِّثًا عن نفسه، في صيغة الغائب، على النحو التالي: "خطرتْ بباله فكرةٌ لازمتْه فأزعجتْه، مُصوِّرة له صعوبة حياته تلك، كأنَّ قائلاً يقول له في أعماق نفسه: "كيف ستقدر على احتمال هذه العيشة طوال السنوات السبعين الباقية من عُمرك؟". ولكنّه أجاب داخليًّا بقوّة شديدة، وقد شعر بأنّ هذه الفكرة صادرة عن العدوِّ: "أيُّها الشقيُّ، هل في قدرتك أنت أن تعِدني بساعة واحدة في الحياة؟" وهكذا انتصر على التجربة واستعاد الطمأنينة" (إغناطيوس دي لويولا- الذكريات الشخصيّة – العدد20).

 

وعليه، فإنّ الشرِّير ينقل المُجرَّب إلى الماضي أو إلى المستقبل، ليُبعده عن حياته الحاضرة والتزاماته الحاليّة. والحقيقة أنّ الكثافة البشريّة والواقع الإنسانيّ هما في الحاضر، لا في الماضي ولا في  المستقبل.

 

ذكر أثناسيوس فعلاً سبع تجارب عاشها أنطونيوس. والمعروف أنّ رقم 7 يرمز إلى الكمال، أي إلى الكلِّيَّة، بمعنى أنّ التجارب التي مرّ بها أنطونيوس لم تنحصر في التي ذكرها أثناسيوس، بل تجاوزت العدد المذكور لتتناول جميع ألوان التجارب التي يمكن الإنسان – أي إنسان – أن يعيشها.

 

 

 

  معنى التجارب الروحيّ 

 

إنّ هذه النماذج ممّا عاناه أنطونيوس من تجارب الشرِّير، تُظهر لنا كيف واجهها روحيًّا ونُسكيًّا، بالصلاة وذكر اسم يسوع، بالجُهد والتقشُّفات، أي بالوسائل الروحيّة والوسائل الإنسانيّة – فانتصر عليها. وفي الواقع، فإنّ "هذا الانتصار هو انتصار المُخلِّص في أنطونيوس".

 

فلقد تحقّق هدف أنطونيوس من محاربة الشرِّير في وكره، لأجل خلاص الكنيسة من فخاخه المنصوبة لها في ظروفها الجديدة في ظلِّ انتهاء الاضطهادات. ولم يُحاربه أنطونيوس وحده، بل كان الربُّ يسوع هو الذي يُحاربه، وقد أشرك معه أنطونيوس في هذه المعركة. فإن كان الرّوح قد قاد أنطونيوس إلى البرِّيَّة، فلكي يُواجه الشرِّيرَ - مِثل يسوع المسيح ومعه – فينتصرعليه – بقوّة يسوع المُخلِّص -. هذا هو وجهُ مواجهةِ الشرِّير الكنسيُّ والانتصار عليه.

 

   وأمّا الوجه الشخصيُّ الخاصُّ بأنطونيوس كمؤمن وناسك في البرِّيَّة، فيصفه أثناسيوس بأنّ الربّ كان "يعمل معه"، و"لم يَنْسَ صراعه، فأسرع إلى نجدته"؛ فعندما سأل أنطونيوس: "أين كُنْتَ؟ لماذا لم تظهر في البدء كيما تُريحني من العذاب؟"، أتاه صوت يقول له: "كنتُ هنا، يا أنطونيوس، ولكنِّي كنتُ أنتظر جِهادك"؛ وهذا ما كان يدفع أنطونيوس إلى مزيد من الصلاة والنسك بلا تكاسل ولا تراخٍ.

 

ومن جرّاء هذه الخبرة الروحيّة والنسكيّة الطويلة والمُضنية قال أنطونيوس في أحد أقواله المأثورة: "لا يستطيع أحدٌ أن يدخل ملكوت السّماوات من دون التجارب".

 

وأضاف: "اِرفعِ التجارب، فلا يخلص أحد".

 

هكذا أصبح أنطونيوس من خلال التجارب، ومُقاومته لها، بقوّة الله فيه وبِجُهده، وانتصاره عليها بإيمانه وبإرادته "الرّجل القوّي" الذي يتحدّث عنه الإنجيل (متى 1/ 29)، وصار "مُشابهًا لله" بحسب قول أثناسيوس (عدد 5)، إذ إنَّه اقتدى بالمسيح في مُقاومته الشرِّير، وانتصر انتصار المسيح وكما قال فيه يوحنّا كاسِّيانُس، استطاع أن يهتف هُتاف بولس: "لا أحيا أنا، بل المسيح يحيا فِيَّ" (2قور 4/ 10).

 

 

 

فإن كان لتجارب الشرِّير وجهٌ مُضْنٍ – بمقاومتها – إلّا أنّ لها وجهها المُشرق – بالتشبُّه بالمسيح والاتِّحاد به والاشتراك في انتصاره - ؛ فللتجارب معنى مزدوج إذاً، وهي تقترب هكذا من مفهوم "الأزمة" في اللغة الصينيّة التي تُكتب بحرفين اثنين، أحدهما يعني الدّمار وخطر الموت، وثانيهما الفرصة السّانحة والانفتاح على حياة جديدة.

 

فالتجارب هي بمثابة أزمة، ولكنّها أزمة نُموِّ ونضوج على الصعيد النفسيّ والروحيّ، وبهذا المعنى فإنّها ضروريّة للأنسان عامّة وللمسيحيّ خاصّة لكي ينمو وينضج، فما من تقدُّم في الحياة الروحيّة بدون تجارب وأزمات وصعوبات التي هي محكٌّ حقيقي يُبرز قدرة الشّخص على تحمُّل المشقَّات، وروحَ مقاومته للشدائد، وقوّةَ إيمانه، وثِقَته بمعونة الله.

 

 

 

الخاتمة

 

        

  تتضمّن مواجهة الإنسان للشرِّير بُعدين، أحدهما مقاومته وثانيهما محاربته.

 

فأمّا البُعد الأوّل، فهو بُعد حياة المؤمن المسيحيّة الشخصيّة، فهو يُقاوم تجارب الشرِّير سواء أكانت تجارب داخليّة أم خارجيّة، جسديّة أم نفسيّة أم روحيّة...

 

وأمّا البُعد الثاني، فهو بُعد حياة المؤمن المسيحيّة الكنسيّة، فهو لا يكتفي بأن يقاوم تجارب الشرِّير  بل إنّه يُحاربه مع المسيح في الكنيـسة من أجل خلاص العالم.

 

ويتحدّث اللّاهوت المُعاصر عن "هياكل الخطيئة" (structures de péché)، أي جميع ألوان خطايا المجتمع البشريّ الجماعيّة: الحروب والعنصريّة، الظلم والفساد، الاستبعاد والاستغلال، العنف والإرهاب ...، على جميع الأصعدة: السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة...

 

فجميعها تستدعي مُحاربتها، وبالفعل مُحاربةَ الشرّير الذي يُحرِّض البشر على اقترافها في مُختلف المجتمعات البشريّة.

 

هذا هو وجه مُحاربة الشرِّير المُعاصر، وهو لا ينفي إطلاقـًا محاربة الخطيئة الكامنة في قلب الإنسان، فالخطيئة هذه هي مصدر "هياكل الخطيئة".

 

 

 

 

"معنى البرِّيَّة لزماننا الحاضر"

الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ