الله لم يصنع الموت «متفرقات

 

 

الله لم يصنع الموت

 

 

 

"إنّ الله لم يصنع الموت" (حك 1: 13) تفاجئنا هذه الآية من سفر الحكمة: إنّ الله لم يصنع الموت. نحن نعلم أنّ الله يحبّ خليقته، ونعلم أنّه لا يحبّ الألم والشرّ، وإن كنّا نعاني من الألم والموت فالله يحوّل كلّ ذلك إلى حياة وفرح.

 

أمّا أن نقرأ: ليس الله من خلق الموت فهذا يفاجئنا. من عادتنا أن نعزّي أنفسنا في الصّعاب وفي فقدان شخص عزيز قائلين: هذه إرادة الله، وكأنّ علينا أن نقبل خاضعين هذه الإرادة بلا نقاش، وإن تساءل المتألّم عن حبّ الله نقول: له حكمة نحن لا نفهمها. وها نحن نقرأ: لم يخلق الله الموت.  

 

لكي نفهم هذه الآية نحتاج أن نفهم ما هو الخلق وما هي إرادة الله. يقول سفر الحكمة في موضع آخر: "أنت يا الله تحبّ كلّ ما صنعت، فلو لم تحبّه لما صنعته، وكيف يثبت ما لم تدعه إلى الوجود؟" هذا هو الخلق: هو دعوة إلى الوجود.

 

يقول الكتاب إنّ الله خلق العالم بكلمته، وما هي هذه الكلمة؟ هي كلمة "كن"، دعوة إلى الوجود، "أريدك، أرغب فيك، أحبّك". لاحظوا أنّ كلماتنا أيضًا قادرة على الخلق: يمكنني بكلماتي أو بتصرّفاتي أن أدعو الآخر إلى الوجود، أن أقول له "كن"، أريدك، أحبّك... قد لا تكون كلماتنا بقدرة كلمة الله، قد لا تحيي الموتى ولا تحفظ الأحبّاء من الألم، بل أسوأ من ذلك، قد تكون كلماتنا معاكسة للخلق، حين أدعو الآخر لا إلى الوجود بل إلى عدم الوجود، حين أقول له "لا تكن" (مثلاً: ما قيمتك؟ أم لشو عيشتك؟) أو حين أقول "كن شيئًا لكي أحبّك" (كن عاقلاً، كن مهذّبًا، كن ذكيًّا، كن رجلاً...). كلماتنا تضع شروطًا على الحبّ لهذا كلماتنا تخلق وتدمّر معًا.

 

أمّا الله فيقول "كن" باستمرار، يدعو إلى الوجود في كلّ آن. ليس في الله نعم ولا، بل نعم لوجودنا، ونحن نلقي عليه صورتنا حين نظنّ أنّه مثلنا، فيه نعم ولا.

 

ولذلك فإنّ كلمة الله لا تفني كلماتنا، هذه الكلمات الضعيفة المهدّدة دائمًا بالحسد والغيرة، المهدّدة بالكذب والعنف. يروي الكتاب المقدّس كيف دخل الحذر بدل الثقة بين الله والإنسان بسبب كذبة: بسبب كلمة يسمّيها الكتاب "إبليس"، كلمة أقنعت الإنسان أنّ إرادة الله ليست دائمًا في صالحه، أنّه يدعوه إلى الوجود لكن "إلى حدّ ما". وهكذا دخل الموت في كلماتنا.

 

ولأنّ الله لا يفني حرّيّتنا ولا يفني كلماتنا، بل يعمل على إصلاحها، لم يدمّر الموت بل أرسل ابنه الوحيد "ليحبط أعمال إبليس"  كما تقول رسالة يوحنّا الأولى (3: 8). فكلمة الله وحبّ الله أقوى من الموت. ليست إرادة الله أن يموت الإنسان، لكنّ موت الإنسان لا يوقف كلمة الله الّتي تدعو إلى الوجود وتحيي الأموات.

 

وإنجيل (مر 5/ 21 - 43) يحمل لنا هذا التعليم نفسه. يقول يسوع ليائيروس: لا تخف، آمن فحسب. آمن! أي راهن على كلمة الله الّتي تريد الحياة وتصنع الحياة مهما ظهر من مظاهر الموت. الإيمان رهان، كرهان المنزوفة أنّ يسوع يشفيها. أحداث حياتنا، مثل كلماتنا، تحمل لنا صوت الله الّذي يدعو إلى الحياة، ولكنّها تحمل أيضًا "إبليس"، هذه الكلمة الكاذبة الّتي تدعو إلى الحسد وتقود إلى الموت، لأنّها تريد تشويه كلمة الله وإقناعنا أنّ حبّه لنا مشروط ومحدود.

 

الإيمان هو عودة إلى الثقة الأولى، إلى الرّهان على حبّ الله لنا في كلّ الظروف. يسوع راهن على حبّ الآب له في قلب الموت، وبإيمانه هذا جعل إيماننا ممكنًا. والصوت الّذي قال لإبنة يائيروس "قومي" هو صدى صوت الآب الّذي قال ليسوع "قُم"، وصدى الصّوت الّذي منذ البدء يقول: "كُن".

 

الله لم يخلق الموت. الموت هو الحياة بعد أن شوّهتها كلمة إبليس، الموت هو ما صنعته كلماتنا بالحياة، ولكنّ كلمة الله أقوى، ويُعطينا أن تصير حتّى كلماتنا مصدر حياة. فلنؤمن وحسب، ولتصر كلماتنا خلاّقة ومُحيية، وحين تأتي السّاعة الّتي فيها "يوضع سيّد هذا العالم خارجًا" أي ساعة الموت، فلنستقبلها بإيمان يراهن على أنّ كلمة الله الّتي خلقتنا وخلّصتنا وعلّمتنا هي أقوى من الموت.

 

 

 الأب داني يونس اليسوعيّ