عظة البطريرك الراعي - دير مار مارون عنايا «متفرقات

 

 

 

 

"حينئذٍ يتلألأ الأبرار كالشّمس في ملكوت أبيهم" (متى 13: 43).

 

 

 

1. بإيمان وفرح في القلب توافدنا للصّلاة على ضريح القدّيس شربل، قدّيس لبنان، الّذي يعطّر بقداسته أرجاء هذا الدّير، كما يعطّره القدّيس مارون أبو الطّائفة المارونيّة الّذي يكرّم فيه، ويكرّمه القدّيس شربل ببلوغه ذروة روحانيّته النّسكيّة. في هذا الدّير لبس شربل الشّاب، ابن الثّلاث وعشرين سنة، ثوب الإبتداء. وفيه عاش كاهنًا ستّ عشرة سنة، قبل ان ينتقل إلى محبسة القدّيسَين الرّسولَين بطرس وبولس على قمّة عنّايا، حيث راح يسمو في محبّة الله الكاملة بالزّهد والتّجرّد والصّلاة، بعيدًا عن الأنظار، متخلّيًا عن كلّ خيرات الدّنيا، مدّة ثلاث وعشرين سنة حتّى وفاته ليلة ذكرى ميلاد ابن الله إنسانًا في 24 كانون الأوّل 1898، فكان موتُه ميلادَه في السّماء. وقد أشعّ من قبره نور طيلة أسبوع كعلامة إلهيّة أنّه "يتلألأ مع الأبرار كالشّمس في ملكوت الآب" (متى 13: 43).

 

 

 

2. يسعدني أن أهنّئ باسمكم إخوة القدّيس شربل الرّوحيّين، أبناء الرّهبنة اللبنانيّة المارونيّة الجليلة، وعلى رأسهم قدس الرّئيس العام الأبّاتي نعمة الله الهاشم مع الآباء المدبّرين ورئيس هذا الدّير العامر. ونرفع الصّلاة معكم ومعهم ومع صاحب المعالي سيزار ابي خليل، وزير الطاقة ممثّل رئيس الجمهوريّة، ومع سيادة راعي الأبرشيّة وسيادة السّفير البابوي والسّادة المطارنة وهذا الجمهور من وزراء ونوّاب ومسؤولين مدنيّين وعسكريّين وإداريّين، ومن المصلّين الّذين توافدوا من قريب ومن بعيد.

 

 

 

 

3. لقد أتينا لنصلّي من أجل لبنان، دولة وشعبًا ومؤسّسات، كي ينعم بالإستقرار السّياسي والاقتصادي والأمني، ومن أجل كلّ واحدٍ وواحدة منّا، كي يعيش الالتزام بالإيمان ومقتضياته في حياتنا المسيحيّة اليوميّة.

 

 

 

عاش القدّيس شربل منقطعًا بالكلّية عن العالم، بما فيه وجه أمّه الّتي أعطاها موعدًا في السّماء، عندما جاءت لتتفقّده في الدّير، حال دخوله. لكنّ الله جعله قدّيسًا عالميًا يخاطب قلوب جميع النّاس والشّعوب، من مختلف الجنسيّات واللغات والديانات والثّقافات، ويحمل إليهم وجه لبنان ورهبانيّته وكنيسته. إنّه، إذا جاز التّعبير، "سفير" لبنان وكنيستنا المارونيّة وسائر كنائسنا المشرقيّة، لدى جميع الدّول.

 

 

 

 

4. يعلّمنا القدّيس شربل شجاعة القرار وبطولة الالتزام به. فعندما كان شابًا في بقاعكفرا قريته، قرّر أن يعطي قلبه كاملاً لله بالصّلاة والمسلك الصّالح. في الواقع، عندما كان يذهب ليرعى بقرته، كان يخلد للصّلاة في مغارة، سمّيت في عهد شبابه "مغارة القدّيس". وعندما دخل دير سيّدة ميفوق ثمّ دير عنّايا بعمر ثلاث وعشرين سنة، كان قراره أن يكون بكلّيته لله. فكانت سنتا الابتداء في هذا الدّير دخولاً في عمق روحانيّة الحياة الرّهبانيّة، والتّعرّي من الذّات.

 

 

 

ولمّا انتقل إلى دير القدّيسين قبريانوس ويوستينا في كفيفان لدراسة الفلسفة واللاّهوت على يد من سيصبح بدوره القدّيس نعمة الله كسّاب الحرديني، ساعدته العلوم الإلهيّة على ارتقاء سلّم الفضائل. وبعد رسامته الكهنوتيّة في 23 تمّوز 1859 في كنيسة الصّرح البطريركي في بكركي، عاد للتّو إلى دير مار مارون عنّايا هذا، حيث أشعّ ببطولة نذوره الثّلاثة الطّاعة والعفّة والفقر، وسائر الفضائل الأخرى. ذلك أنّه قرّر وصمد في قراره. وهو في ذلك المثل لنا جميعًا والمثال.

 

 

 

 

إنّ أسوأ ما في أيّ إنسان أو مسؤول هو عدم اتّخاذ القرار، أو التّأرجح فيه، أو الرّجوع عنه عند أوّل صعوبة أو مصلحة أخرى، سواء في الحياة الزّوجيّة أم في الحياة الكهنوتيّة والرّهبانيّة، أم في الحياة السّياسيّة. ولكلّ واحدة من هذه الحالات نتائجها الإيجابيّة وثمارها عند الالتزام، وتداعياتها السّلبيّة في عدمه. الجميع من الدّاخل والخارج ينتظرون قرار تأليف الحكومة، لأنّ في كلّ يوم تأخير تداعيات كبيرة وخسائر جسيمة في الاقتصاد بكلّ قطاعاته. وفي عمل المؤسّسات والإدارات، وفي ثقة الشّعب بالمسؤولين. إنّ التشبّث بالحصص وحصرها بكتل، مع إقصاء أفرقاء آخرين، وأشخاصٍ ذوي كفاءة من المجتمع المدني غير الحزبي والسياسي، لا يبرّران التأخير على حساب الخير العامّ، بل ويتناقضان مع المعايير الدستوريّة العامَّة، ومع روحيَّة الدستور اللبنانيّ ونصّه، ويهملان اهتمام المجتمع الدّولي والمساعدات الماليّة المقرّرة في مؤتمر باريس CEDRE في 6 نيسان الماضي، من أجل الإنماء الاقتصادي وإصلاح البنى التّحتيّة ولاسيّما الماء والكهرباء.

 

 

 

 

5. ويعلّمنا القدّيس شربل فضيلة التّجرّد، بترفّعه عن المادّة وعن مغريات الدّنيا وشهواتها في زمن تخنقه الرّوح المادّية والاستهلاكيّة والفساد وكسب المال بالطّرق غير المشروعة، والرّغبة الجامحة إلى الغنى بشتّى الوسائل. والأدهى من ذلك أن يكون الاغتناء من خزينة الدّولة، ومن ممارسة الظّلم على المواطنين بفرض خوّات ومال من أجل إجراء معاملات إداريّة مستوفاة أصلاً رسومها والضرائب.

 

 

 

 

إنّ فضيلة التّجرّد، الّتي نتعلّمها من القدّيس شربل هي ضمانة الحرّية الداخليّة ومصدرها. فالحريّة هي كبرى عطايا الله للإنسان، لأنّها تساعده على النّمو الشّخصي، وعلى الاغتناء بالفضائل الرّوحيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة وعلى النّضج النّفسي. هذا التّجرّد كوّن شخصيّة القدّيس شربل، وجعله أغنى النّاس لأنّه اغتنى بالله. هذا ما يؤكّده لنا الرّب يسوع في الإنجيل: "كلّ من يترك بيوتًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أمًا أو امرأة أو بنين أو حقولاً لأجل اسمي، ينال عوض الواحد مئة، ويرث الحياة الأبديّة" (متى 19: 29). إنّه كلام تحقّق بالمطلق في القدّيس شربل الّذي يمتلك اليوم البشريّة جمعاء، من دون أن يمتلك شيئاً من حطام الدنيا.

 

 

 

6. للّذين لا يشبعون من جمع أموال الدّنيا، قال الرّب يسوع: "إحذروا الطّمع كلّه، لأنّه ليس بكثرة المال حياة". وشبّههم بذاك "الغنيّ الجاهل" الّذي عندما أغلّت أرضه غلاّت كثيرة راح يهدم أهراءه القديمة ويوسّعها ويخزن فيها قمحه وغلاّته، ويقول لنفسه: "يا نفسي لكِ خيرات وفيرة موضوعة لسنين كثيرة، فاستريحي وكلي واشربي وتنعّمي" فقال له الله: "يا جاهل في هذه الليلة تُنزع نفسُك منك، وهذا الّذي أعددته لمن يكون؟". ويستنتج الرّب الأمثولة قائلاً: "هكذا هي حال من يدّخر لنفسه الذّخائر، ولا يكون غنيًا بالله" (لو 12: 15-21 ).

 

 

 

7. من هذا الباب "يدخل إصلاح كلّ مؤسّسة أكانت العائلة أم الكنيسة أم المجتمع أم الدّولة؛ ومنه يدخل القضاء على الفساد المعشعش في قلب الإنسان الّذي لا يعرف فضيلة التّجرّد، ولا يمتلك قدرة الإرادة على كبح شهوات عالم الخطيئة الثّلاث: شهوة العين، وشهوة الجسد، وكبرياء الحياة" الّتي كتب عنها يوحنا الرّسول ( 1يو 2: 16).

 

 

 

إنّ مهمّة محاربة الفساد عسيرة لإنّها لا تنحصر فقط بمراقبة الأفعال وضبطها، بل تتعداها إلى تربية القلوب والنفوس على كبر النفس وشبع العين، وعلى فضيلة التجرّد التي تغني هذه القلوب والنفوس. الأمر الّذي يقتضي وجود مع أشخاص في الوزارات والإدارات العامة متحلّين بهذه الفضيلة، أحرار في نفوسهم وكبار في قلوبهم.

 

 

 

8. إنّنا نكل نفوسنا إلى الله، الّذي "منه كلّ عطيّة صالحة"، ونلتمس، بشفاعة القدّيس شربل، شجاعة القرار وبطولة الالتزام به، وفضيلة التّجرّد الّتي تغنينا بالقيم الرّوحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة. فنرفع، معه ومع الأبرار المتلألئين في الملكوت، نشيد المجد والتّسبيح للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 

 

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي - دير مار مارون عنايا

الأحد 15 تموز -  عيد القديس شربل مخلوف

موقع بكركي