كلمة قداسة البابا بمناسبة عيد القربان المقدس «متفرقات

 

 

 

تساعدنا كلمة الله اليوم على اكتشاف إثنين من الأفعال البسيطة والأساسيّة في الحياة اليوميّة: يقول ويعطي.

 

 

 

 

 

القول. في القراءة الأولى، ملكيصادق يقول: "على أَبْرامَ بَرَكَةُ اللهِ العَلِيّ، وتبارَكَ اللهُ العَلِيّ" (تك 14، 19 - 20). إنّ قول ملكيصادق هو تبريك. يبارك إبراهيم، الذي فيه ستتبارك جميع عائلات الأرض (تك 12، 3؛ غلا 3، 8). فكلّ شيء يبدأ من البركة: فمن كلمات الخير تولد قصّة الخير. يحدث الشيء نفسه في الإنجيل: قبل تكثير الأرغفة، يسوع يباركهم: "فأَخَذَ الأَرغِفَةَ الخَمسَةَ والسَّمَكَتَيْن، ورَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، ثُمَّ بارَكَها وكَسَرَها وجَعلَ يُناوِلُها تَلاميذَه لِيُقَدِّموها لِلْجَمع" (لو 9 ، 16). إنّ البركة تحوِّل الخمسة أرغفة إلى طعام لعدد هائل من الجمع: فالبركة تصير شلالاً يتدفّق منه الخير.

 

 

 

 

 

 

لماذا البركة هي أمر جيد؟ لأنّها تحوّل الكلمة إلى عطيّة. فعندما تبارك، أنت لا تفعل شيئًا من أجل نفسك، إنّما من أجل الآخرين. أن تبارك لا يعني أن تقول كلمات طيّبة، ولا تعني التفوه بكلمات المناسبات؛ أن تبارك يعني أن تقول خيرًا ، وأن تقوله بمحبّة. هكذا فعل ملكيصادق، قائلًا خيرًا بإبراهيم، بطريقة تلقائيّة، دون أن يطلب منه أبراهيم شيئا أو أن يقدّم له أي شيء. هكذا فعل يسوع، مظهرًا معنى البركة من خلال توزيع الخبر مجانًا. كم من مرّة نحن أيضًا حصلنا على البركة، في الكنيسة أو في منازلنا، وكم من مرّة سمعنا كلمات أسعدتنا، أو رُسِمت على جباهنا علامة الصليب... لقد أصبحنا مباركين في يوم المعموديّة، وننال البركة في نهاية كلّ قدّاس. إنّ الإفخارستيا هي مدرسة البركة. يمنحنا الله خيرًا، نحن أبناءه المحبوبين، وهكذا يشجّعنا على المضي قُدمًا. ونحن نبارك الله في جماعاتنا (مز 68، 27)، بإعادة اكتشاف طعم الحمد الذي يحرّر القلب ويشفيه. نذهب إلى القدّاس بيقين أنّ الربّ سيباركنا، ونخرج منه لنبارك، ولنصير بدورنا قنوات خير في العالم.

 

 

 

 

من المهم أن نتذكّر، نحن الرّعاة، أن نبارك شعب الله. أيّها الكهنة الأعزّاء، لا تخافوا من أن تباركوا، فالرّبّ يرغب في قول الخير لشعبه، وهو سعيد أن يجعلنا نشعر بمحبّته لنا. فالمبارَكون فقط بإمكانهم أن يبركوا الآخرين بنفس مسحة المحبّة. من المحزن أن نرى اليوم مدى سهولة التفوه بكلمات اللّعن، والتحقير، والسَّب. فنحن الغارقين في زحام الحياة، نثور ونتهجّم على كلِّ شيء وعلى الجميع. وفي كثير من الأحيان للأسف يبدو أنّ من يصرخ أكثر هو الأقوى، ومن يغضب أكثر هو على حقّ ويحصل على التأييد. دعونا ألّا نسمح لأنفسنا بأن تسيطر علينا الغطرسة، وبأن يغزونا الحنق، نحن الذين نأكل الخبز المقدّس الذي يحمل معه كلّ حلاوة. إنّ شعب الله يحبّ الحمد، ولا يعيش بالتذمّر؛ لقد صُنع من أجل البركة، لا من أجل التذمّر. فنحن أمام القربان المقدّس، أمام يسوع الذي صار خبزًا، أمام هذا الخبز المتواضع الذي يشمل الكنيسة بأكملها، علينا أن نتعلّم مباركة ما لدينا، وتسبيح الله، علينا أن نبارك ماضينا لا أن نلعنه، وأن نعطي كلمات الخير للآخرين.

 

 

 

 

الفعل الثاني هو إعطاء. "القول" يتبعه "العطاء"، كما هو الحال بالنسبة لإبراهيم، الذي باركه ملكيصادق، فـ"أَعْطاه أَبْرامُ العُشْرَ مِن كُلِّ شَيء" (تك 14 ، 20). وكذلك يسوع الذي، بعد أن بارك، أعطى الخبز ليوزع، وبالتالي كشف عن أجمل المعاني: ليس الخبز مجرّد منتجًا استهلاكيًّا، بل هو وسيلة للمشاركة. في الواقع، وبشكلٍ مدهش، نتحدّث في معجزة تكثير الأرغفة عن التكثير. إضافة لذلك، الأفعال المستخدمة هي "التكثير، والعطاء، والتوزيع" (لو 9، 16). باختصار، في هذه المعجزة لا يتمّ التركيز على فعل التكثير، إنّما على فعل المشاطرة. إنّه أمر مهم: يسوع لا يقوم بأعمال سحريّة، فهو لم يحوِّل الأرغفة الخمسة إلى خمسة آلاف ثمّ يقول: "الآن قوموا بتوزيعها". كلا، يسوع يصلّي أوّلا، ويبارك تلك الأرغفة الخمسة، ويبدأ في كسرها، ويثق في الآب. إنّ تلك الأرغفة الخمسة لا تنتهي أبدًا. هذا ليس سحرًا، إنّه الثقة في الله وفي رعايته.

 

 

 

 

 

إنّ العالم يلهث دائمًا وراء زيادة الأرباح، وزيادة حجم التداول ... نعم، ولكن ما هو الغرض من كلّ هذا اللهث؟ هل هو العطاء أم الأخذ؟ المقاسمة أم التكديس؟ إنّ "اقتصاد" الإنجيل يتزايد من خلال المشاركة، يُشبع من خلال التوزيع، إنّه اقتصاد لا يلبّي شراهة الفئة القليلة، إنّما يمنح للعالم الحياة (يو 6، 33). فعمل يسوع لا يقوم على الأخذ بل على العطاء.

 

 

 

 

إنّ ما يطلبه يسوع من تلاميذه هو أمر هامّ للغاية: "أَعطوهُم أَنتُم ما يَأكُلون" (لو 9 ، 13). دعونا نتخيّل الخواطر التي جالت بعقل التلاميذ: "ليس لدينا ما نطعم به أنفسنا وعلينا أن نفكّر في الآخرين؟ لماذا يجب علينا إطعامهم، إن كانوا قد جاءوا للاستماع لمعلّمنا؟ إن كانوا قد جاءوا بلا طعام ليعودوا إلى بيوتهم، أو ليعطونا المال كي نشتريه لهم". إنّها ليست خواطر خاطئة، لكنّها ليست خواطر يسوع، الذي لا يسمع لهذه الأفكار: أَعطوهُم أَنتُم ما يَأكُلون. إنّ ما لدينا يثمر إذا قدّمناه - هذا ما يريد يسوع أن يقوله لنا -؛ ولا يهمّ إذا كان قليلًا أو كثيرًا. فالربّ يفعل أمورًا عظيمة من خلال صغرنا، كما فعل بالأرغفة الخمسة. إنّه لا يقوم بالعجائب عبر أفعال مبهرة، وإنّما عبر أشياء متواضعة، فيكسر بيديه، ويعطي، ويوزّع، ويشارك. إنّ قدرة الله هي التواضع، قدرة مصنوعة فقط من الحبّ. والحبّ يفعل أشياء عظيمة عبر الأمور الصغيرة. تعلّمنا الإفخارستيا هذا: ففي الخبز المكسور يوجد الله. إنّ القربان المقدّس الذي نتناوله ينقل لنا فكر الله، البسيط والأساسيّ، الخبز المكسور والمُقَسَّم، وهذا يقودنا إلى إعطاء أنفسنا للآخرين. إنّه الترياق ضدّ الـ"أنا آسف، لست معنيًّا"، وضدّ "لا وقت لديّ، وليس بإمكاني، وليس من شأني".

 

 

 

 

 

في مدينتنا المتعطشة للحبّ والعناية، والتي تعاني من التدهور والإهمال، وأمام العديد من المسنّين الوحيدين، وأمام العائلات التي تعاني من صعوبات، والشباب الذين يكافحون من أجل كسب الخبز وإطعام أحلامهم، يقول الربّ لك: "أَعطهم أَنتَ ما يَأكُلون". بإمكانك أن تجاوبه: "لدي القليل، أنا غير قادر". هذا ليس صحيحًا، فقليلك في نظر يسوع هو كثير، إذا كنت لا تحتفظ به لنفسك، وإذا خاطرت بتقديمه. إنّك لست بمفردك: لديك الإفخارستيا، خبز الطريق، خبز يسوع. إنّنا سنتغذّى اللّيلة أيضًا بجسده المُقدَّم لنا. فإذا استقبلناه بقلوبنا، فإن هذا الخبز سيفجِّر فينا قوَّة المحبَّة: سنشعر بأنّنا مباركون ومحبوبون، وسنحتاج إلى أن نبارك ونحبّ، انطلاقًا من هنا، من مدينتنا، ومن الدُّروب التي سنسافر عليها الليلة. سيمشي الربّ في شوارعنا ليقول لنا خيرًا وليشجعنا. كي يطلب منّا أيضًا أن نكون بركة وعطيّة للآخرين.

 

 

 

 

 

 

 

خلال القدّاس الإلهيّ

بمناسبة عيد القربان المقدس

الأحد 23 يونيو / حزيران 2019

 

 

موقع الكرسي الرسولي.