يوم الخلق الجديد «متفرقات

 

 

 

 

 

 

يوم الخلق الجديد

 

 

هو يوم الخلق الجديد، هو يوم المنطق الجديد، يوم التحديّ والدّعوة إلى التّتلمذ الحقّ. هي صعوبة منطق القيامة وأهمّيته: لا ضمانات ملموسة، وحده كلام الرّب يكفي، والقبر الفارغ يشهد.


في مسيرة النسوة نحو القبر تلك الصبيحة (مرقس 16 /1-8) نجد درب تتلمذنا للمعلّم القائم من بين الأموات:


- مثل النساء، نسير حاملين في حياتنا طيوبًا نجعلها على جسد يسوع التاريخيّ. نفتّش عن يسوع نلمسه، نتكلّم معه، يشفي أمراضًا، يعطينا أجوبة على أسئلتنا وحلولاً لأمراضنا المستعصيّة. نبحث عن يسوع صانع المعجزات والمتكلّم أشياء جديدة.

 

نسير نفس طريق اليوم السّابق، يوم الدّفن، رأينا أين وضعوه، ونأتي اليوم لنكمل مسيرة الدّفن. لقد أتت النساء لتبكين يسوع، فعاينّ مجد قيامته وهربنَ مرتعدات. كم من المرّات نبقي يسوع راقدًا في ظلمة قبورنا، نؤمن به، نحبّه، نكرّمه ببضعة صلوات ونطيّبه برائحة بخور، إنّما نحيا كأشخاص لا يؤمنون بالقيامة.

 

يبقى يسوع في نطاق العاطفة، في إطار الذكريات الجميلة، في واقع الخوف ربّما والوسواس، ونبقى خارج القبر واقفين، نرفض التصديق. فيسوع الميت هو رجل سهل، غير متطلّب، نحبّه ونكرمه، ونبقيه ميتًا، أمّا المسيح القائم من بين الأموات فهو المعلّم المتطلّب، يدفعنا دومًا إلى التضحية، لا يقدّم لنا دربًا سهلة بل يقودنا إلى حياة جهاد وبطولة، إلى حياة التتلمذ، إلى القداسة. هذه الدّرب تتطلّب تضحيات، وممنوعة فيها أنصاف الحلول.


- لقد كنّ سائرات في الطريق يتساءلن مَن علّه يزيح لهنّ الحجر عن باب القبر. لم تذهب النّساء إلى يسوع بمنطق القيامة، بل بمنطق ضعف وتردّد إزاء العائق الّذي يفصلهنّ عن جسد يسوع. "مَن علّهُ يساعدنا واليوم صبيحة عيد، والشّمس لم تشرق بعد، والحجر كبير جدًّا".

 

في مسيرة النسوة نحو القبر بصيص رجاء، لقد ذهبن مترجّيات أنَّ أحدًا ما سوف يزيح الحجر. هذا الأحد لم يكن بالنسبة لهنّ الرّب ذاته، بل إنسان آخر يقدّم حلولاً عابرة. كنّ يبحثن عن هذا الأحد والرّب عينه كان قد قدّم الحلول.

 

كم من المرّات نحن أيضًا على دروب حياتنا نفتّش عن الخلاص يأتينا من البشر، من قوّة الإنسان أو المادّة أو الجمال أو السّلطة، لنزيح أحجار المشاكل العظيمة عن قلوبنا، فنفشل في إيجاد من هو قادر، ونكتشف أنّ الرّب كان يعمل، وهو القادر على إعطاء الحلّ. الرّب لم يفتح باب القبر ليُعيد إغلاقه من جديد، الرّب يُعطي الحلّ الجذريّ والنهائيّ وهو وحده القادر على إزالة حجر الموت عن عقولنا وقلوبنا.


- القيامة دعوةٌ لقبول ما لا يُفهَم على نور العقل، هي دخول في علاقة مع إله قائم من بين الأموات يتحدّانا لا لنؤمن بقيامته فحسب، بل لنحيا واقع القيامة في حياتنا اليوميّة. إن كنّا نؤمن بربّ قائم من بين الأموات، فلا بدّ أن نعلن واقع القيامة هذا في حياتنا اليوميّة.

 

أن أحيا القيامة كلّ يوم يعني أن أنتصر على الخوف من المجهول يكبّلني، يعني أن أعلم أنّ الشرّ والموت لم تعد لهما الكلمة الأخيرة، أنّ الآلام التي أعانيها في هذا الزمان هي وسيلة قداسة، فأنا أؤمن بمعلّم تألّم، تشوّه، أهين، عومل مثل مجرم ومات بين لصيّن، معلّم قاسى قمّة قلّة العدالة وهو البريء المُطلق، تُرك وحيدًا معلّقـًا على خشبة ووُهب قبر يوضع فيه لأنّهم لم يكن يملك موضع يتكئ عليه الرّأس في حياته.

 

لقد عانى المعلّم قلّة العدالة الإجتماعيّة، ورأى أمّه تتألّم تحت الصّليب، وانتصر وأقامه الآب في اليوم الثالث. هذه هي القيامة التي يدعونا السيّد لأن نحياها في حياتنا الخاصّة عالمين أنّ كلّ آلام هذا الدّهر لا قيمة لها بالقياس مع المجد المزمع أن يتجلّى فيها حين نتّحد بقيامة يسوع. هي ليست دعوة إلى الإنتظار، إنتظار العالم الآخر، بل هي قيامة نبدأ بعيشها في هذا العالم، في واقعنا، نحوّل من خلالها العالم من واحة عنف وألم وصليب إلى مكان قيامة وسلام، حبّ ومغفرة.


- القيامة هي دعوة إلى التتلمذ بمنطق جديد، فالملاك أبلغ النساء أنّ الرّب يسير أمام التلاميذ إلى الجليل. التلميذ هو الكائن الّذي يسير خلف المعلّم، يقتفي آثاره ويعتنق مبادئه ويبشّر بتعليمه. الرُّسل ساروا خلف الرّب حين دعاهم لإتّباعه عند ذلك الشاطئ على بحر الجليل، والآن يدعوهم من جديد إلى ذلك الشاطئ، يقول لهم أنّه لا يزال المعلّم، وأنّه يسير في المقدّمة، فهو يسبقهم إلى الجليل، إلى مكان اللقاء الأوّل، حين أجاب التلاميذ على دعوة الرّب وتبعوه.

 

المسيح القائم هو هو المسيح الّذي دعاهم، وانطلاقه إلى الجليل هي رسالة واضحة لهم أن مهمّتهم لم تنتهِ بعد، لقد ابتدأت: يدعوهم إلى السيّر خلفه على طريق الألم والقيامة، للوصول الى قمّة حالة التتلمذ بواسطة الإيمان والحبّ والثقة.


- لقد أعلن الرّب من خلال قيامته أنّه ليس كسائر المعلّمين، بل هو معلّم صادق للكلمة التي قطعها، لقد جاء يعطي التلاميذ معنى جديد لوجودهم، وهذا المعنى لا يمكن أن يتمّ خارجًا عن منطق القيامة والإنتصار على الشرّ والألم.


- لقد أعلن لهم أنّه الله وابن الله، لم يعد بإمكانهم الظّن أنّه مجرّد مخلّص زمنيّ، أو قائد عسكريّ أو صاحب تيار سياسيّ، هو الله الخالق وابن الله الآب. لقد طلب منه الصّالبون آية ليصدّقوا: سألوه أن ينزل عن الصّليب فأعطاهم آية أعظم، أية الخروج من القبر. نزوله عن الصّليب كان إعلان لفشله، لكان بدا ساحرًا يهرب من الألم ومن التضحيّة، أمّا خروجه من القبر فأظهر أنّه الله الواهب الحياة، قام وأقام معه المقبورين كلّهم، وأعطوا للأحياء رجاء جديدًا بأن بعد أبواب القبر استمرار وقيامة.


- لقد أعلن المسيح من خلال قيامته أنّه السيّد القادر أن يخلّصنا، لا من ظلم الرومانيّين والمحتلّين، إنّما من أقسى عبوديّة نعانيها، عبودية الخطيئة والموت. بقيامته لم يخلّص المسيح ذاته، فهو لا يحتاج إلى خلاص، بل خلّصنا كلّنا، وأعطانا غلبة على الخطيئة والموت، بقيامته أقامنا من حالة يأسنا الوجوديّ وفتح لنا أبواب الرّجاء.


- لقد ألقى الرّب على عاتقنا، كتلاميذ له، أن نحافظ على مصداقيّة قيامته، فعالم اليوم لا يُمكن أن يؤمن بإله قائم يحيا تلاميذه حالة خطيئة ولا يميّزهم شيء عمّن لم يتعرّفوا على المسيح. قيامة يسوع هي علامة وُضعت على جبيني وكنزًا أوكله الرّب إليّ لأحافظ عليه، فكيف أحافظ على قيامة الرّب في حياتي وفي حياة الآخرين؟


- القيامة هي دعوة لنا لنعلن الرّب القائم لإخوتنا البشر. أمام جديد هذا الحدث هربت النِّسوة صامتات، لم يخبرن أحدًا بما حدث. لا إمكانيّة لتعايش بين الخوف والإيمان، إن كنت أؤمن أنّ المسيح قد قام، وأنّه يشركني في قيامته، فما من أمر يخيفني، لا الموت ولا الألم ولا الإضطهاد ولا الظلم الإجتماعيّ ولا الفقر ولا الأمراض، فهي كلّها شرور نسبيّة تعبر ويبقى الإنسان القائم من بين الأموات، متّحدًا بيسوع القائم.

 

لا يمكنني أن أؤمن وأصمت، فالإيمان ينتج الإعلان، ليملك منطق القيامة المسكونة كلّها ويعلم الجميع أنّ المسيح قد قام حقّاً: قام المسيح فعلاً، ويقوم من جديد حين أتخطّى لحظات فشلي ويأسي. يقوم اليوم حين أعرف كيف أحوّل صلبان حياتي من آلة عذاب ويأس إلى وسيلة خلاص، يقوم المسيح في حياتي حين تنتصر فيّ روح المغفرة، فالمعلّم فوق الصّليب خاف على صالبيه وطلب لهم الرَّحمة، علم أنَّ قلبهم قد عمي بسبب حقدهم وجهلهم، عذّبوه فأحبّهم وقتلوه فغفر لهم.

 

منطق القيامة هو منطق المغفرة، منطق الحوار، منطق عدم رفض المختلف، منطق القيامة هو أن أعلم أنّ الربّ قد دعاني لأبشّر الجميع، لا سيّما من هم سبب تعاستي، بأن يسوع هو ملك، عرشه صليب، وقدرته الرّحمة وبرنامج ملكه خلاص الجميع ليقوموا معه ويشاركوه الملكوت.


هو ملك المجد، القائم منتصرًا، له تسجد كلُّ ركبة، وتمجّد كلّ شفة ويعلن كلُّ لسان أنّ يسوع هو الرّب، الرّب الذي قام وغلب الموت وأعطانا الخلاص.


للرّبِّ القائم المجد والإكرام إلى دهر الدّهور.

المسيح قام حقاّ قام.

 

 

الأب بيار نجم ر.م.م.