الترقّب والانتظار «متفرقات

 

متى يصير انتظاري كمثل انتظار الرّقباء للصبح؟!

 

 

 

 

 

ماذا أحيا اليوم؟ هل من أملٍ يحركّني؟ هل من رجاءٍ يسكنني ويلوّن حياتي بالمعنى والفرح؟ هل لديّ انتظار لشيءٍ ما أو لتحقيق مشروعٍ جميلٍ يراودني؟ هل أترقـّب مجيء أحدٍ أو عودته بعد طول غياب؟

 

 

 

للإجابة على هذه التساؤلات، لربما من المفيد أوّلاً أن نتذكّر أنّه من أصعب الخبرات التي نعيش وأكثرها إيلامًا خبرة فقدان المعنى لحياتنا ولكلّ ما نعمل؛ خبرة فقدان الأمل والرّجاء والدخول في حالة من اليأس الظاهر أو المبطّن الذي يقودنا شيئًا فشيئًا، إن لم نتدارك أسبابه ونعالجه بحزم، إلى نوعٍ من العقم والموت الباطنيّ حتّى ولو بدا علينا في الظاهر أنّنا أحياء كثيرو الحركة والنشاط! إنّها حالة من يعيش بلا انتظارٍ لأي شيءٍ مرتقب وبالأخص أيضًا لأي شخصٍ يجيء ويحضر الله معه!

 

 

 

وعلى صعيد الإيمان، كم هي مؤلمة الخبرة حينما نشعر أنّ الله صار غائبًا، أو أن تأخرّه في المجيء إلينا أفقدنا الرَّجاء به! كم يصبح كلّ شيءٍ تافهًا، كم نشعر بالضياع والحزن والتشتت! تحضرني هنا كلمات فيروز حينما ترنّم بإيمانها السَّاطع: "مهما تأخّر جايي"! إنّها كلمات تدعونا لعدم الاستسلام لليأس وفقدان المعنى، بل للعيش في حالةٍ من الترقـّب والانتظار المستمرّين في قلب غياب الله الظاهر أو تأخّره في المجيء إلينا خصوصًا في ما نعانيه من أزمات في عالمنا المتخبّط اليوم.

 

 

ولكن هل غاب الله فعلاً ونهائيًا؟ ألسنا نحن من نغيّبه عنا بشكلٍ أو بآخر؟! وماذا يا ترى لو كان الله يأتي لزيارتنا في كلّ وقتٍ ولا نريد التعرّف إليه، لأنّه يأتينا بشكلٍ لا ننتظره؟!

 

 

 

حينما سأل بطرس يسوع الذي كان سيترك رسله بعد وقتٍ قريب ليذهب في طريق الحبّ حتى الموت، إن كان يوجّه كلامه له ولرفاقه حول ضرورة السَّهر الباطنيِّ في انتظاره وترقـّب مجيئه، أجابه يسوع بسؤالٍ يدعوه من خلاله ليكون لا مدبّرًا أمينًا وحكيمًا على ذاته وبرامجه وأمور بيته الخاصّ وحسب، بل ليُدرك رسالته كرسولٍ وراعٍ حقيقيّ يبذل نفسه ويعطي بأمانةٍ وحكمة ما أودعه إيّاه من أسرار محبّته في خدمةٍ مجانيّة متفانية لأحبائه الآخرين.

 

 

بهذه الدّعوة يكشف لنا يسوع ما كان يسكنه ويحرّكه هو شخصيًا: الانتظار والترقـّب بالنسبة إليه ليسا حالة يعيشها وحسب بل هما عملٌ متجسّد "في كلّ وقت" يعبّر عن محبّته التي لا حدّ لأمانتها للآب ولنا، وحكمته "الجنونيّة" المسكوبة على الصّليب ليهب لحياتنا الملء والمعنى.

 

 

 

في الواقع، يسوع وحده هو "الوكيل الأمين الحكيم" الذي يُعطي حياته وكلمته طعامًا حقيقيًا يهب الحياة لكلِّ من ينتظره ويترقـّب مجيئه. يسوع وحده هو "العبد" الذي لم يكن يجد المعنى لحياته والطعام لشخصه إلّا في التفاني حبًّا حتى الموت طاعة ً لأبيه الذي غدا أيضًا "سيّده" الذي ينتظر أوامره ويترقـّب مشيئته "في كلِّ وقت".

 

 

كم سيكون بطرس وسائر الذين أقامهم يسوع لخدمة "خدّامه" الأحباء، سعداء ومغبوطين حقـًّا، إذا ما "عرفوا مشيئة الآب سيّدهم" الأوحد، وأخذوا يخدمونه "بأمانةٍ وحكمة" باحثين بعونه عن حضور ابنه الحبيب في كلِّ إنسان ومترقـِّبين مجيئه بالأخصّ "في إخوته الأصاغر"، وما أكثرهم في عصرنا الآن!

 

 

 

كم سيكون بطرس ورفاقه مغبوطين مطوبين حقـًّا، إن تعلّموا – خصوصًا من أخطائهم ونكرانهم – كيف يكسرون لأولئك الأصاغر خبز الكلمة الحلوة ويجودوا عليهم بأسرار المحبّة المحيية الخلاّقة! وبالعكس كم يستحقّ بطرس ورفاقه الضّرب والخزي إن راحوا يستغلّون مسؤولياتهم ومناصبهم – على غرار من لم يعرفوا السيّد بعد – ليعبثوا بالإخوة الأصاغر ويستخدموهم لمصالحهم الشخصيّة ونزواتهم المتقلّبة!

 

 

 

 

الأب غسان السهوّي اليسوعي.