السجود أمام القربان المقدّس: لماذا نسجد؟ ولمن نسجد؟ «أضواء

 

يتساءل البعض لماذا نسجد؟

لكي نفهم هذا التقليد  - وغيره من تقاليد الكنيسة - يتوجّب علينا الرجوع دومًا إلى ربّ هذه الكنيسة، وهو "إله الحبّ"، لأنّ الكنيسة تعبد إله واحد، الله المـــُحبّ.

ثمّة تعابير مختلفة يُخال لنا إنّها التعابير الأفضل والأسمى عن الحبّ، أوّلها: هو في الممارسة الجنسيّة، لأنّ في ذلك الفعل المقدّس يقدّم الشخص ذاته إلى الآخر. هذا جميل ورائع، لكن لا يصح أن يكون ذلك التعبير "الأسمى" عن الحبّ، لأنّ الإنسان يمرّ بأوقات وظروف لا يمكنه أن يقدّم خلالها هذا التعبير، على سبيل المثال: في حالات الحزن، أو في التقدّم في العمر، أو حتى جرّاء إعاقة معيّنة. فلو حصرنا التعبير الأسمى عن الحبّ في الممارسة الجنسيّ فقط، بذلك نكون ضمنيًا قد أقصينا فئة كبيرة من إمكانية أن تعيش الحبّ الأسمى.

وقد يُخال لبعضنا الآخر، أنّ أسمى تعابير الحبّ هو أن نُعطي ما عندنا، ما ننتج أو ما نُثمر. لكن المشكلة هي ذاتها، فأحيانًا كثيرة لا نملك شيئًا لنُعطيه، وقد نصل أحيانًا إلى وقت نكون فيه عاجزين عن العطاء. وبهذه الطريقة نكون قد أقصينا عن الحبّ، مصدر الحياة الوحيد، كلّ من هم ليسوا بقادرين على العطاء.

لذلك نتساءل مجدّدًا: ما هو التعبير الأفضل عن الحبّ؟

للإجابة على هذا السؤال، يمكننا أن نتصوّر ابنًا في غيبوبة، ونطرح على أنفسنا السؤال التالي: ما الّذي تقوم به الأمّ وهي تجلس إلى جانبه طوال الوقت؟

يأتي الناس ليقنعوا هذه الأمّ بالتخلّي عن ملازمتها فراش "حبيبها"، لتقوم بشيء "نافع"، مثل الاهتمام بباقي الأطفال. وقد تقوم الأم بتلك الواجبات، ولكن بسرعة فائقة، كي تعود إلى جانب ابنها، ونتساءل مجددًا هنا: هل تحبّ الأمّ طفلها الّذي في الغيبوبة أكثر من الباقين؟ بالطبع لا، لكن هنا تجد نفسها بشكلٍ أعمق، تجد في ذاتها مصدر الحبّ بصورة أنقى، لكن لماذا؟ لأنّها هنا، بجانب ابنها الغائب عن الوعي، تعيش التعبير الأسمى عن الحب، لا بل قمّة التعبير ألا وهي "الحضور"، الحضور العقيم، حضور لا يعرف الانتاج، حضورٌ صرف.

والإفخارستيا هو هذا الحضور الصرف، هو الله الحاضر. ونعود ونتساءل لماذا الحضور الصرف هو أسمى تعابير الحبّ؟ لأنّ قمّة الحبّ هي الموت! والحضور الصرف ما هو إلاّ موت، فأن أكون حاضرًا دون أن أقوم بشيء، يعني أن أكون ميّتًا، لكن بإرادتي واختياري. أموت من أجل الآخر، واختار أن أكون حاضرًا من أجله. لذلك الحبّ في حقيقته هو طلب ذلك الحضور. يقول جبران خليل جبران عن الحبّ: "الحبّ، هو عندما يجلس اثنان مع بعضهما البعض بصمت". أي أن أقبله بذاته دون أن يعود عليّ بالفائدة بشيء. في تلك اللحظة أعي أنّني أُحبّه.

هذا ما نضعه أمام أعيننا عندما نقوم بالسجود. في الواقع، يُعطينا الله ذاته : هو حاضر لأجلي. فأهم وأكبر تعبير عن حبّه، هو أن يكون مائتًا من أجلنا، فهو اختار أن يكون معنا لأنّه يُحبّنا. ومن المهمّ في السجود في حضرة الربّ أمام القربان المقدّس، أن أترك حضور الرب يُنبّهني إلى أهم الأمور فيّ، ألا وهو حضوري. ولذلك فمن المهمّ في السجود أن أقضي الوقت لأكون حاضرًا فقط أمام الربّ، أن أقول أنا هنا، دون "إنتاج" التسابيح والترانيم والصلوات. ان أحضر لمجرّد الحضور. أحضر بكلّ كياني: " أنا بمعنى أنا، حزين، سعيد، حائر ..." تمامًا كما أنا. لا أتنكّر لما أنا عليه. ليس السجود أمام القربان المقدّس بتأمّل زن "ZEN" (التأمّل الهندوسي)، الّذي يدعوني إلى أن أفرّغ ذاتي من ذاتي. بل أكون ذاتي بكلّ ما تحمله أمام الله، أحمل تاريخي بكلّيته فأضعه أمام قربان المقدّس وأقرّبه للربّ.  فأهمّية السجود، أنّني أعود واتذكّر قيمتي الأساسيّة، أعود نوعًا ما لأطهّر نفسي من كلّ الأفكار الّتي كانت تحضّني على أن أرى قيمتي من منظور الانتاج والعطاء، وبقدر ما أعطيه تزيد قيمتي عند الله، لأعود وأجد قيمتي الحقيقية، وهي في ذاتي، كما أنا، قدرتي على أن أقبل الحب، وعلى أن أحب.

قد يساعدنا بعض الشيء أن يكون ثمّة صلاة تحضيريّة، مزمور، ترنيمة، موسيقى هادئة، تسبق فعل السجود، لكن لا تكون هذه الصلاة محور "حضورنا". ومهمّ أيضًا عدم الدمج بين رتب التوبة، والسجود، لأنّ الأولى تبغي الاعتراف بالخطايا أمام هذا الحبّ، أمّا الثانية فهي تبغي الحضور أمام الله بخطايانا. فهنالك فخ أن أنظر إلى خطاياي دون أن أنظر إلى ربّي "الحبّ الّذي يغمرني". فالسجود هو وقت ذلك الحبّ الكبير السامي، الّذي يُحبني مع خطاياي، وقد يكون من المناسب أن أقوم برتبة التوبة في وقتٍ لاحق، ونعيش حينها التوبة بملئها.

الأب زكي صادر اليسوعيّ.