العذراء مريم والإصغاء «أضواء

 

عبر تاريخ الخلاص يعطينا الكتاب المقدّس أمثلة ووقائع عديدة حول سماع أو رفض كلمة الله، فمن الأشخاص من قبل الكلام وعمل به ومن الجماعات من رفض وأصمّ أذنيه. ولكن بين الذين أحسنوا الإصغاء يعطي الكتاب في عهده الجديد مكانة مميّزة جدّا إلى من عرّفت عن ذاتها في أوّل كلامها " أمة الربّ" التي تريد أن تعمل حسب قوله أي أن تصغي إلى ما يقول وتتمّ فيها مشيئته. ولأنها قبلت كخادمة أن تموت عن ذاتها لتنفّذ إرادة من اخضعت له نفسها بكلّ طواعية وسخاء أصبحت أمّا له. ولم يكن موقف مريم كلاميا.

ولكن مريم التي أخذت على نفسها أن تعمل بحسب كلام الربّ إليها ستبقى أمينة لهذا الموقف طيلة حياتها وبشكل مطلق لا يراوده تردّد مهما اشتدّت الظلمة وكثرت الصعاب. وهذا ما يؤكّده لنا موقفها الأمين والكامل في الساعات الأخيرة لحياة وحيدها على الأرض حيث يظهرها لنا القدّيس يوحنا بقوله:"وكانت هناك واقفة عند اقدام الصليب مريم أمّ يسوع"(يو 25:19 ). وهذا ما عبّرت عنه نسيبتها عنه اليصابات منذ البداية حين قالت:"طوبى للتي آمنت بما قيل لها من قبل الربّ"(لو 45:1 ). أي أنّ مريم قبلت المغامرة مع الله بدون تحفّظ حتى ولو انّها لن تدرك بعد كلَ أبعاد هذه المغامرة وما يخبّئه لنا الزمن الآتي." وأنت سينفذ سيف في نفسك" (لو35:2) ولكن مريم آمنت بشكل لا يقبل  الشكّ أبدا لأنّ الله القدير( لو49:1 ) والذي أظهر رحمته من جيل إلى جيل للذين يتّقونه(لو 30:1) يستحقّ أن يمنحه الإنسان المخلوق كلّ ثقته.

وفي إصغائها وقبولها لقول الربّ وارادته تعبّر مريم عن انفتاح كلّ الكائن على الله. وتعبّر أيضا بأنها هي المخلوق وبأنّ الله هو الخالق والذي من حقّه أن يكون السيّد المطلق على خليقته. تعترف مريم في موقفها هذا بأن المخلوق هو اللاشيء وأن الخالق هو كلّ شيء. وفي قبولها أن تكون هذا الفراغ وهذا اللاشيء استحقّت مريم أن تكون ممتلئة من الروح القدس وبأن المولود منها يكون ابن الله"(لو35:1 ). إن هذا الفراغ وهذا العدم تمَ ملؤه من قبل الله. وليست هي التي تعيش من بعد بل الروح القدس هو الحيّ والربّ المحيي فيها.

ولكن هذا الفراغ وهذا العدم عند مريم لا يعني اللاوجود. إنّه الفراغ المعقود بقرار حرّ. قبلت أن تكون "الأمة" أن تكون الفراغ، أن تكون العدم فكتب الله الآب كلمته بقوّة روحه على هذا العدم فأصبحت أمّ الابن وموضوع عمل الثالوث. وقي قبولها بطواعية أن تكون اللاشيء أي أن تكون ما هي الحقيقة أيّ المخلوق أمام الخالق، تكرّس مريم عهدا جديدا يولِّد الحياة بعكس حوّاء الأولى التي عصت وأصمّت أذنيها عن سماع كلام الخالق فكرّست عهدا يولِّد الموت. وبحقّ تدعى مريم أمّ الحياة وحوّاء الجديدة. ويالتالي لا يكفي أن نقول بأن في سماعها لكلمة الله أصبحت أمّاً وأخاً للإبن بل تكون مريم في إمّحائها الإختياري قد جمعت بين الخالق فكرّست عهدا يولِّد الموت. وبحقّ تدعى مريم أمّ الحياة وحوّاء الجديدة. وبالتالي لا يكفي أن نقول بان في سماعها لكلمة الله أصبحت أمّا وأخا للإبن بل تكون مريم في امحائها الإختياري قد جمعت بين الخالق والمخلوق.

فهي بحقّ تدعى أمّ الله لأن في أحشائها تمّ الجمع بين الطبيعتين الإلهية والإنسانيّة. ويمكننا أن نقول أكثر من ذلك بأن في إمحائها الإختياري والكامل أصبح الله كلّ شيء في مريم وأدخلها هكذا في حقيقته الإلهية كرمز للكنيسة والخليقة جمعاء التي "تنتظر بفارغ الصبر تجلّي أبناء الله"(رومه19:8 ) فتكون العذراء في إنتقالها ودخولها في سرّ الله باكورة الخليقة التي سوف تخضع كلّها للمسيح وفي النهاية يخضعها المسيح للآب " حيث يكون الله كلّ شيء في كلّ شيء" (1 كورنتس  28:15 )

إذ تحتفل الكنيسة بابتهاج في هذه الأيام بعيد إنتقال  العذراء مريم بالنفس والجسد إلى السماء، فهي تشهد منقادة في ذلك بنور الروح القدس، على صحّة مواعيدها معلّمها وصدق كلمته:"من سمع كلامي وآمن بمن أرسلني فله الحياة الأبدية ولا يأتي للدينونة بل إنتقل من الموت إلى الحياة" (يو 45:5)، إذ لم تعد العذراء مريم هي التي تعيش بل في إنفتاحها عل كلمة الله وتأمّلها لها (لو19:2 )، قد تحوّلت إلى هذه الكلمة. وكلّ من نظر إليها لا يرى فيها إلاّ الكلمة المتجسدة والإنجيل المعاش وهي بالتالي نموذج لكلّ من يريد أن يكون أباً أو أمّاً أو أخاً للكلمة وهي أيضا نموذج الكنيسة المتأمّلة بالكلمة والمتغذّية منه لنتحول إليه ونولده، على مثال مريم، إلى العالم ونحقّق حضور "العمّانوئيل"، الله معنا، المتعطّش عالمنا إليه وإلى أمّه أكثر من أيّ شيء آخر. وهكذا بقدر ما تكون الكنيسة الإصغاء أي مريم أي الخادمة فهي تسير نحو الإمتلاء ومعها تحمل الخليقة كلّها إلى تمام كمالها ودخولها في سر: الله الثالوث مروراً بهذا السبيل الأرضي المعرّج ووصولا إلى المدينة المقدّسة، أورشليم السماوية حيث:" يسكن الله والناس في بيت واحد فهم يكونون له شعبا وهو لهم إلها" (رؤيا 3:21 ).

ونحن كيف نصغي وإلى من ينبغي أن نصغي؟ ألم نوجد اليوم في عصرنا وفي كنيستنا في أزمة إصغاء؟ إن يسوع وأمّه هما القدوة لنا في هذا الفنّ. فالإصغاء عندهما هو التنكّر للذات والتجردّ عن الذات وأخذ صورة العبد والخادمة ( لو 38:1 ) لتتميم إرادة الآب التي تترجم بحبّه للإنسان وخلاص الإنسان." وأصبح شبيهاَ بإخوته البشر في كلّ شيء ما عدا الخطيئة". وهكذا يكون المصغي الأول هو الله الذي يسمع أنين وثقل خطيئته التي سببت له الألم والموت فينزل من عليائه ليخلّص الإنسان متجرداً عن ذاته آخذاً صورة عبد. والإصغاء عند الله هو أن يصبح واحدا مع الإنسان ليخلّص الإنسان ويحسّ بكلّ ما لديه وفيه. والإصغاء هو عيش الفراغ من الذات لكي ننفتح على الآخر ونعيشه كما هو.

إفرحوا مع الفرحين وأبكوا مع الباكين"(روما 15:12). إنّ العائق الأكبر للإصغاء هو بالدرجة الأولى "الأنا" مع كل ما تتطلب من إهتمام. ولا بدّ من أن نسكت فينا متطلّبات الأنا مع كلّ ما يرافقها من تشويش ونعيش الفراغ الداخلي لكي نتمكن من الإنفتاح على الآخر والإصغاء إليه، وفي هذا شفاء للذات وتفهّم للآخرين الذين يحتاجون إلينا  وإلى المسيح الحيّ فينا. وفي هذا الموقف من المحبّة نحو الآخرين، إذ فيهم يوجّه اليوم الله نداء إلينا، نصبح أخاً وأباً وأمّاً لليسوع الذي نولده بحياة من يصغي إليه ونعيش أفكاره وآماله وهمومه ونصبح واُّياه شخصاً واحداً كما فعل المسيح معنا. ومتى أحسنّا الإصغاء إلى من هو  بقربنا نصل من خلاله إلى إكتشاف الله إذ حسب قول البابا يوحنا بولس الثاني: أنّ طريق الكنيسة إلى الله هو الإنسان .

(من حياتنا الليتورجية)