المرحلة الثانية: تقدمة الذّات للحبّ الرّحيم «أضواء

(شباب سائرون صوب يسوع برفقة تريز الصغيرة)


 

 

 

 

١ـ لنتأمل

١ـ ١ إنّ المسيح يكشف شيئًا فشيئًا عن سرّه لمن يبحث عنه بشغف، لأن الصّداقة وحدها تتيح العلاقات الحميمة والبوح المتبادل بأسرار القلوب. لقد كشف يسوع لخادمته تريز عن حبّه المهمل، المهان، المنبوذ، وذلك منذ اللّحظة التي تملّكها فيها الحنان، وهي ترنو الى صورة يسوع المصلوب، ذات يوم أحدٍ من شهر تموز/ يوليو ١٨٨٧، وحتى مرحلة تجربتها الإيمانية المرعبة التي اختبرت بها، في داخلها، مأساة الكفر اللامبالاة الدّينيّة وتحجّر القلب.

١ـ ٢ وفي الواقع، أكثر ما يجرح قلب يسوع ليست الخطايا التي يمكن أن تُرتكب وإنّما رفض المرء صفحَ الله عنه، وعدم الاعتراف بضعفه الشخصيّ. ومسألة اعتراف المرء بضعفه ليست تبييض أعماله السيّئة، وإعطاءها حقّ الوجود في ملكوت الله؛ وإنما هي، بالأحرى، إدراكه أن السوء الأكبر يكمن في العناد بتبرير النفس، وإعلان حقّه بارتكاب الأعمال السيّئة، عندما يعي تمام الوعي أنه يرتكب خطأً ويفضّل البقاء على نقصه، بدل أن يكون رهن يدٍ تنتشل، بحجّة الاستقلالية والاكتفاء الذاتيّ، أي بحجّة الكبرياء. فما عسى المسيح يستطيع أن يفعل لنفس ترفض رحمته؟ لا يستطيع الكثير لأنه يحترم حرية مخلوقه. وما عسى الطبيب يستطيع ان يفعل للمريض الذي يأبى المجيء اليه ويرفض أن يكشف له عن جرحه؟ وما عسى الأم تستطيع ان تفعل لولدها إن لم يستغِث بها ولا يَبُحْ لها بوجعه؟ ليس بالشيء الكثير!

١ـ ٣ لا شكّ في أنّ الخطيئة مرض ولكن هناك مرض أخطر. وهو ان يرتاح المريض الى مرضه ويقبل به، في حين أن يسوع يتضوّر شوقًا ليؤمّن له، بقدرة حبّه المطلقة، وسيلة شفائه من هذا المرض وإنقاذه من خطر الموت. وهذا ما أرادت تريز الصغيرة أن تركّز الانتباه عليه. فهي توجّه الى النفوس كافّة هذه الرسالة عينها: "يسوع يرغب في الصّفح عنّا وفي شفائنا، فلنسلِّم أمرنا الى رحمته ولنقدّم ذواتنا لحبّه الرحيم". ويسوع فعلاً، قال: أنا لم آتِ من اجل الأصحّاء ولا من اجل الصالحين، وإنما من أجل الخطأة جئت.(مرقس ٢/ ٧).

١ـ ٥ فمن العبث، إذًا، أن ينتظر المرء ليصبح كاملاً فيتقدّم منه. هذا الانتظار قد يكون الوسيلة الفضلى ليخطئ هذا المرء الوصول الى يسوع. فلنتقدّم منه، خلافًا لما نتصوّر، ونحن حاملون خطيئتنا وثقل عاهاتنا. وهذا ما يريدنا أن نتقدّم به ليتمكّن من تطهيره وإلقائه عن كواهلنا. أتخاف التقدّم منه ويداك قذرتان؟ ثق بأن الكلمة الأخيرة ستكون لطهره. فبدلاً من أن يدنّس هو ستتطهّر أنت، شرط أن تتقدم منه بكل ما أنت عليه.

هذا هو السبب الذي حمل تريز على تقدمة نفسها للحبّ الرّحيم تقدمة علنيّة في التاسع من حزيران/ يونيو ١٨٩٥، لكي يأخذ يسوع على عاتقه كل ما هي عليه ويتعهّده. هذه التقدمة لم تتمّ بصيغة سحرية، إنّما هي تعكس استعدادًا دائمًا في قلب يفرغ سَعته كلّها لحبّ الله، ولنار قداسته المطهّرة.

١ـ ٥ بإمكانك، إن شئت، القيام بهذه المحاولة. فرويدًا رويدًا، ويومًا إثر يوم، وبقدر ما تضاعف التحديق إليه، وبقدر ما تعرّض نفسك لرحمته بالايمان والثقة، كما تتعرّض للشمس طلبًا للسمرة، ستفيد من أشعّة نعمته. ونوره سيصيبك بالدفء، وحضوره سيجتاح كيانك الى أن تتحول الى هذه النار الألهية، الى هذه الشمس، الى الحبّ الألهي... وشعلة حياتك، باتّحادها مع شعلة حياة يسوع، لا تودان تشكّلان سوى شعلة إلهية واحدة. وحين تقدّم له أجمل ما فيك وأحقر ما لديك، بمكنه أن يستولي عليك وتسلّم قيادة سفينة حياتك. وهذا ليس بحلم! تريز عاشت هذا الواقع، وعاشته، اقتداءً بها، جمهرة لا تحصى من النفوس الصغيرة التي لا تزال الناس يجهلونها. أتريد أن تكون في عداد هذه النفوس؟ إنّ هذا التأثير الإلهي المخصب الذي يصنع القدّيسين، والذي جعل القديس بولس يجهر عاليًا: فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ (غلا ٢/ ٢٠)، لا شيء خارق العادة فيه. وهذا التأثير غالبًا ما يظلّ متواريًا في ظلام الإيمان حتى ولو أعطيَ للبعض أن يشعروا به بشكل ملموس، كما شعرتْ تريز الصغيرة بنار تلتهمها في أثناء مشاركتها بدرب الصليب في ١٢ حزيران / يونيو ١٨٩٥، بعد خمسة أيام من تقدمة ذاتها. لقد شعرت فجأة بفورات حبّ تتخطّف نفسها.

واتّحاد الذات الكامل بالله يتمّ تدريجيًا ولا يتمّ بطرفة عين بإيماءة أصبع، وإنّما يومًا إثر يوم. وكن على ثقة بأن المحاولة ممكنة النجاح إن رغبت فيها. فالله سيُنجح الأمور إن بذلت كل ما في وسعك بإدارة طيّبة.

٢ـ لنستمع الى تريز

٢ـ ١ أعطيني لأشرب

" ذلك هو كل ما يطلبه يسوع هنا. انه لا يحتاج الى أعمالنا، بل إلى حبّنا فقط. فهذا الاله عينه الذي يُعلن أنه لا يحتاج الى أن يُخبرنا بأنه جائع، لم يخش من أن يستعطي بعض الماء من السامرية. لقد كان عطشان... وحينما قال: أعطني لأشرب، (يوحنا ٤/ ٦ـ ١٥)، فما كان يطلبه خالق المسكونة فإنما كان حبّ الخليقة المسكينة. لقد كان عطشان الى الحب. آه! إني أشعر، أكثر من أيّ وقت، بظمأ يسوع، فهو لا يلقى سوى ناكري الجميل وغير المبالين بين تلاميذ العالم؛ وقلما يجد، في صفوف تلاميذه، قلوبًا تستسلم اليه من دون تحفّظ، وتفهم كا حنان حبّه اللامتناهي."

(مخطوط ب ص ١ ش؛ الأعمال الكاملة ص ١٨٤)

٢ـ ٢ تريز تقدم للحبّ ذاتها للحبّ الرحيم

"في التاسع من حزيران / يونيو من تلك السنة، في عيد الثالوث الأقدس، منّ الله عليّ بأن أفهم، أكثر من أيّ وقت مضى، الى أيّ مدى يرغب يسوع في أن يكون محبوبًا.

كنت أفكّر في النفوس التي تقدّم نفسها ذبائح للعدل الإلهي، بغية إبعاد العقاب عن الخطأة وجذبه الى ذاتها. فبدَتْ لي تلك التقدمة كبيرة وسخّية، ولكنّي كنتُ أبعدَ من أن أَندفع الى القيام بها. وصرختُ من أعماق قلبي قائلة:" يا إلهي، أيكون عدلك وحده الذي يتقبّلُ النفوس التي تقدّم نفسها ذبيحة؟... ألا يحتاج حبّك الرحيم أيضًا الى ذلك؟... فإنه منبوذ ومجهول في كل ناحية، والقلوب التي ترغب أنت في إغداق هذا الحبّ عليها تميل على الخلائق تلتمس السعادة من مودّتها التعيسة، عوضًا عن الارتماء بين ذراعيك وتقبّل حبّك اللامتناهي... يا إلهي هل سيبقى حبّك المزدرى داخل قلبك؟ يبدو لي أنك لو وجدت نفوسًا تقدّم ذاتها ذبيحة لحبّك، لالتهمتها سريعًا. ويخيّلُ إليّ أنك تكون سعيدًا بألاّ تحبس أمواج الحنان اللامتناهي الكامنة فيك... و إذا كان عدلك، الذي يشمل الأرض، يرغب في أن يُستنفدَ، فما أحرى بحبّك الرحيم أن يتوق الى اضرام النفوس، بما أن رحمتك ترتفع حتى السماوات!... فيا يسوعي! فلأَكُنْ أنا تلك الضحية السعيدة. والتهم ذبيحتك بنار حبّك الإلهي!...

يا أمي الحبيبة، التي سمحت لي بأن أقدّم ذاتي هكذا لله، أنتِ تعرفين أنهار النِعم، بل محيطاتها، التي حلّت وغمرت نفسي... آه! منذ ذلك اليوم السعيد، يخيّلُ إليّ أن الحبّ ينفذ الى أعماقي ويكتنفني، و يبدو لي أن هذا الحبّ الرحيم يجدّدني في كل لحظة، ويطهّر نفسي ولا يدعُ فيها أثر للخطيئة. لا يمنني أن أخشى المطهر... وأعرف أني، من نفسي، لا أستحقّ حتى دخول موضِع التكفير هذا، بما أن الأنفس القديسة وحدها تستطيع دخوله. ولكني أعرفُ أيضًا أن نار الحبّ هي أشدّ تقديسًا من نار المطهر، وأعلم ان يسوع لا يستطيع أن يريد لنا آلامًا غير مجدية، وانه ما كان ليُلهمَني هذه الرغبات التي أشعر بها، لو لم يَشَأْ تلبيتها.

آه! ما أعذبها، طريق الحبّ!... ولكم أريد أن أجتهد لكي أعمل دائمًا إرادة الله بأكبر قدرٍ من الاستسلام!...

                                     (مخطوط أ ص ٨٤؛ الأعمال الكاملة ص ١٧٦ ـ ١٧٧)

٢ـ ٥ فعل تقدمة الذات

                                   [ ٩حزيران/ يونيو ١٨٩٥]

" يا إلهي أيّها الثالوث الطوباوي. أرغب في أن احبّك وفي أن أجعل من الآخرين يُحبّونك. وأرغبُ في أن أعملَ لمجد الكنيسة المقدسة وأنا أخلّص النفوس. وأرغب في أن أُتمّمَ مشيئتك إتمامًا كاملاً، وفي أن أصل الى درجة المجد التي أعددتها  لي، في ملكوتك. أرغب في أن أكون قديسة. ولكنّني أشعر بعجزي عن بلوغ القداسة؛ فأسألك، يا إلهي، أن تكون أنت، قداستي. إذًا، أنا واثقة انّك ستلبّي رغائبي. وأنا أعلم، يا إلهي، أنّك كلّما ازددت تصميمًا على العطاء زدتَ الرّغبة في طلب المزيد. فها إني أشعر في أعماقي برغبات لا تُحدّ، وبملء الثقة التمسُ منك أن تتنازل وتمتلك نفسي.

من اجل أن أحيا فعل حبّ تامّ، أقدّم نفسي أضحية محرقة لحبّك الرحيم، راجيةً إيّاك أن تلتمهمني ناره بلا انقطاع، وأن تُفيضَ في قلبي أمواجَ الحنان اللامتناهي المُحتَبِسَة فيك، ولأُصبحْ هكذا شهيدة يا إلهي!"

                                           (مختارات من فعل تقدمة الذات)

                                          (صلاة رقم ٦، الأعمال الكاملة ص ٩٥٩ ـ ٩٦٠)

٢ـ ٣ تريز تروي ظمأ ألهها

"وكان يخيّلُ إليّ أني أسمع يسوع يخاطبني، كما خاطب السامرية: أعطني لأشرب (يوحنا ٤/٧). لقد كان ذلك، بالفعل، تبادل حبّ حقيقيًا: أعطي النفوس دمّ يسوع، وأقدّم ليسوع هذه النفوس التي أنعشها نداه الإلهي. وبذلك  كان يبدو لي أنّي أروي ظمأه. ولكنّي كلّما سقيته، زاد عطش نفسي الصغيرة المسكينة.ذاك كان ذلك العطش المذيب الذي كان يُعطيني إياه يسوع كألذّ شراب من حبّه..."

                                    (مخطوط أ ص ٤٦، الأعمال الكاملة ص ١٠٨)

 

٢ـ ٤ استجابة تقدمة الذات

" حسنًا! كنتُ قد بدأتُ درب الصليب، وإذا بي أشعر فجأة بحبّ الله عنيف جدًا، بحيث إنني لا أستطيع تفسير هذا الأمر إلا بالقول كأني اُغرقت كلّيًا في النار. آه! يا للنار ولَعذوبتها في الوقت نفسه! كنت أحترق حبًّا وكنت أشعر بأنني بعد دقيقة، أو بعد ثانية، لم أكن لأستطيع أن أتحمل هذه الحدّة بدون أن أموت. وفهمت عندئذ ما يقوله القديسون عن هذه الحالات التي أختبروها في كثير من الاحيان. بالنسبة إلي، أنا لم أشعر بها غير مرة واحدة وغير لحظة واحدة، وبعدها سرعان ما وقعت من جديد في جفافي المعتاد."

                              (الدفتر الاصفر ٧ تموز/ يوليو؛ الأعمال الكاملة ص ١٠٠٨)