المرحلة الخامسة: التسليم «أضواء

(شباب سائرون صوب يسوع برفقة تريز الصغيرة)

 

 

 


١ـ لنتأمل

١ـ ١ لا يسعنا الاستمرار في لعبة الثقة حتى النهاية بدون تسليم الذات الى الله، وبدون طرد كل خوف وقلق. هل سبق لك أن رأيت صغيرًا يرميه والده عاليًا في الهواء؟ إذا رأيت بأيّ طمأنينة وأيّ ارتياح يَدَعُ هذا الولد أباه يؤرجحه ولا يخاف أن يسقط أرضًا؛ حتى فكرة السقوط لا تراوده.

الطفولة الروحية هي من هذا القبيل. فهي تقوم على الاحتفاظ بالهدوء، وراحة القلب، أيًّا تكن المواقف الداخلية أو الخارجية. وهذا الوضع النفسي ليس  لامبالاة، وإنما هو ثمرة إيمان لا يتزعزع، وثمرة ثقة بأن الله إن كان يحبّنا لا يسعه أن يَدعَعنا نهْلك.

١ـ ٢ وعبر التاريخ المقدّس، جميع الذين دخلوا في حوار مع الربّ، وجب أن يكونوا قد سلكوا درب التسليم الى مشيئته. فإبراهيم ترك بلاده وقصد أرضًا مجهولة من دون أن يعرف الى أين يذهب. واضطر، كذلك، الى القبول يتقدمة ابنه اسحق ذبيحة، وهو الكفيل الوحيد باستمرارية ذرّيته. وموسى الذي كان يتلعثم، أرسله الله امام شعبه لينقذه من قبضة فرعون. وداود هبّ لمنازلة جولييت الجبّار ووسيلةُ دفاعه عن نفسه مقلاعٌ تافه يحمله في جيبه.

ولاحاجة بعد الى سرد العديد من أمثال الإنجيل كمثل تهدئة العاصفة، أو مثل بطرس يسير على المياه. إلخ... فكلّها أمثالُ مغامراتٍ مجنونةٍ لا فائدة منها ظاهريًا ولكنّها لا تتبدّل في نهاياتها. فهي دائمًا إيجابية، خلاصيّة: ذلك ان الله يقف عند هذه النهايات، يأخذ بنيه بين ذراعيه حتى عندما لا يراه هؤلاء البنون.

والمثل النموذج لحالة التسليم هذه، هو، بدون شكّ، المثل الذي يعطيه سيّدنا يسوع المسيح في اثناء آلامه: فيسوع المُعرّى من كل شيء والمتّكل على الله وحده دون اي شيء سواه من البشر، أمال ناظرَيه نحو أبيه هاتفًا: أبتاه، بين يديك اودع روحي.  (لوقا ٢٣/٤٦) وثقته لم تخنه. واعتُبِرَ، مذّاك أوّل القائمين من الأموات.

١ـ٣ وأنت مدعوّ، في حياتك، وبمناسبة أصغر ضيق وأكبر هلع، الى أن تكرّر إمالة هذه النظرة الطافحة بالحبّ والثقة صوب الإله الكلّي الطيبة والقدرة. وقلبك مدعوّ الى أن يشبه قلب الابن الوحيد. ودعوتك الأصيلة هي الى الانخراط في الطفولة الروحية لتصبحَ، في يسوع، إبن الملكوت. فلا تزعزعنّك تجارب الطريق. فإن لم يُردها الله لذاتها لأنه لا يحبّ أن يراك تتألّم، فإنه يسمح بها لكي تتعلّم الاتكال عليه. وضروريّ أن يفقد المرء توازنه من وقت لآخر، ليتمكّن من أن يكون في وضع تسليم مطلق. وهذا الأمر ليس بلعبة، إنه ضرورة حياتيّة: الله بحاجة الى ثقتك به ليخلّصك.

١ـ٤ وهناك مواقف تحيّرنا. فلا ندرك كيف يستطيع الله أن يحوّلها الى مصلحتنا في أثناء أويقات الظلمة النفسية هذه، لا يغرب عن بالك أن طرقات الرب ليست طرقُنا، وأن حكمته تفوق، الى ما لا نهاية، حكمتنا، لأنه ينظر من أعلى، بمنظار الأبدية. أيبقى هنالك أسئلة عالقة لا تجد لها جوابًا واضحًا؟ أتطلب النور ولا يضيء شيء؟ وربما كان واجبًا أن يحصل ذلك، وأن تستمرّ تحمل هذه الأسئلة في الظلمة. هكذا يمكنك أن تمنحه ثقة عمياء، وأن تترسّخ عميقًا فيه. وسوف ترى، من جهة أخرى، أن الأشياء غالبًا ما تتّضح بعد فوات الأوان. فتقول لنفسك: "عجبًا! أكان الرب هنا، وفي تلك اللحظة، ولم أنتبه لذلك". وهذا برهان على أنه دائمًا هنا. ومن أجل إبراز حالة التسليم هذه، لجأتْ تريز الى رسم صورة في غاية البساطة:

١ـ٥ لقد شبّهت ذاتها بطابة صغيرة بين يديّ الطفل يسوع. وهذا الطفل يمكنه أن يفعل بها ما يحلو له ويطيب: أن يُهملها، أن ينخرها بالدّبابيس، أن يلهوَ بها... لا فرقَ لديها، ولا يهمّها شيءُ...

هذه الاستعارة التي يمكن ان تبدو لطيفة وتافهة، تنمّ عن قوّة نفس هائلة، وعن إيمان بنقل الجبال. ولقد دوّنت تريز هذه الاستعارة، في الواقع، عندما قرّرت الدخول الى الكرمل، تمامًا بعد فشل مقابلتها مع البابا لاوون الثالث عشر. وبعد أن اسنتفذت كل الحلول البشرية. فبدلاً من أن تثور أو أن تفقد العزم، ارتدّت الى الإيمان وأسلمت أمرها الى الله. حينئذٍ حُلْحِلَتْ العقد، وخلافًا لكلّ توقّع، حصلت على الإذن الذي طال انتظاره. وفي أثناء كل تجربة من تجارب حياته نلمس ردّة الفعل الروحيّة إيّاها: التّسليم؛ أكان في مرضها المستعصي خلال طفولتها، أو في أثناء رياضة الاستعداد للنذور، أو طوال تجربة الإيمان المرعبة في أواخر أيّامها... الخ.

التسليم الدائم بالثقة!

أمامك طريق واضح المعالم... أيخيفك؟ هنا، أيضًا، استسلم، لأن النعمة وحدها يمكنها أن تتيح لك سلوك هذا الطريق، شرط أن تتكّل على هذه النعمة وتصمد...، بالثقة.

٢ـ ١ طابة يسوع الصغيرة

" منذ بعض الوقت، كنتُ قد قدّمتُ ذاتي للطفل يسوع ليتّخذني له لعبة صغيرة، وسألته ألاّ يستخدمني كلعبة ثمينة، ينظر إليها الأولاد دون أن يجرؤوا على لمسها، بل مثل كرة صغيرة لا قيمة لها، يقذفُ بها الى الأرض أو يرفسها برجله أو يثقبُها أو يهملُها في زاوية، أو يضمّها الى صدره، إذا ما طاب له ذلك. وبكلمة كنت أريد أن أُسلّيَ يسوع الصغير وأُفرّحَه، وكنت أريد أن أترك ذاتي ليحقّق رغائبه الصبيانية... ولقد استجاب دعائي..."

                            (مخطوط أ ص ٦٤ ي؛ الأعمال الكاملة ص ١٤١)

٢ـ ٢ العصفور الصغير

"يا يسوع، يا يسوع، إذا كان الشوق الى حبّك عذبًا الى هذا الحدّ، فما عساه يكون امتلاك هذا الحبّ والتنعّم به؟...

يا يسوع، إنيّ، حتى الآن، أفهم حبّك للعصفور الصغير، بما أنه لا يبتعد عنك... فما شئت من الزمان، يا حبيبي، سيبقى عصفورك الصغير بدون جناحين وبدون قدرة، وسيبقى عيناه تحدّقان اليك. يريد أن تسحَره بنظرك الالهي ويريد أن يصبحَ فريسة حبّك... وأملي أنّك، يا نسريَ المعبود، ستأتي يومًا ونأخذ عصفورك الصغير؛ وإذ تصعد به الى نار الحبّ، ستغوص به مدى الأبد في اللجّة المحرقة، لجة ذلك الحبّ الذي قدّم العصفور له ذاته ضحية."

                  (مخطوط ب/ ص ٥ ي وش؛ الأعمال الكاملة ص ١٩٣ـ ١٩٦)