المرحلة الرابعة: الثقة «أضواء

 

 

 

 

 

١ـ لنتأمل

١ـ١ تريز لا تدع قدراتها على الاهتداء وإتيان البطولات تخدعها. فهي تدرك جيّدًا، بفضل خبرتها الشخصيّة، عجزها عن بلوغ القداسة بقواها الذاتية؛ وهذا العجز يشبه تمامًا عجز المقاومة السلبيّة في الطبيعة البشرية عن الارتفاع. وهي تشبّه ذاتها بعصفور أصغر وأضعف من أن يحلّق كالنّسر صوب الشّمس. وأمام القدّيسين البالغين قمّة القداسة، قمّة جبل الحبّ، تشبّه نفسها بحبّة رمل حقيرة، ضائعة بين ما لا يحصى من مثيلات في قعر الوادي. يا لَصَفاء هذه الرؤية!

١ـ ٢ أَيعني كلّ هذا أنّها تستسلم وتتخاذل، وأنّ ثبوتَ عجزها يطفئ رغباتها الكبرى في القداسة، هذه الرغبات التي تصل الى حدّ الرغبة في الاستشهاد؟ وهل يقودها اتّضاعها الى مأزق ويصبح مصدر كبتٍ لنموّها الرّوحيّ؟

لا! ستبحث تريز عن طريق صغير بمنتهى البساطة والسرعة قد يُمكِّنها من من تجاوز إعاقة ضعفها. فتسأل نفسها عن كيفيّة اللّحاق بمن تحبّ، بيسوع إلهها، رغم فقرها. ألم يقل: إن كان أحدكم صغيرًا جدًّا، فليأتِ إليّ (أمثال ٩/٤)؛ هذه الطريق عثرت عليها بوقوعها ذات يوم على هذه العبارة في الكتاب المقدّس: كمن تعزّيه أمّه كذلك أعزّيكم أنا. وفي حضني أحملكم وعلى ركبتيّ أدلّلكم (إشعيا ٦٦/١٣). وهكذا، بثقة جريئة، لاهوتيّة، توكّلت تريز على يسوع وراهنت بكامل رصيدها عليه.

ويسوع وحده، ووحده دون سواه، سيدفع بها الى الأمام، سيعزّز قواها. فلا فائدة من صعود كلّ درجات سلّم الكمال الشّاقة. يكفي أن تستقلّ المصعد. وهذا المصعد ليس سوى ذراعَي يسوع الرفيقتين.

١ـ ٣ لقد أُقرّ المبدأ وتمّ الاكتشاف! وسوف يكون لهذا الاكتشاف طوال القرن العشرين، دويٌّ وجَلجَلة في قلوب كل هذه النفوس الصغيرة التي أنتَ في عدادها:" الثّقة و لا شيء غير الثقة يقود الى الحبّ".

وهذه الثّقة ليست، كما يسهلُ الاعتقاد، مجرّد قصورٍ ذاتيّ، وشكلاً من أشكال التراخي الروحي، وتخاذلاً أو استقالةٌ أمام الواجبات والمسؤوليات المسيحيّة؛ بل، خلافًا لذلك، هذه الثقة تفترضُ إرادة طيّبة مصمّمة كل لحظة. والواقع يُثبت أن على الطفل أن يرفع يديه لتنحنيَ أمّه وتضمّه الى صدرها. ولكي يقرّر يسوع رفع ولده حتى القداسة، يجب أن يرى هذا الولد يحاول دون هوادة رفع قدمه الصغيرة ليعلوَ درجة السلّم الأولى. هاتان الذراعان الصغيرتان الممدودتان، وهذه القدم الصغيرة المرفوعة، هي جهودك التي تقوم، بها كلّ يوم، وهي جهود إرادتك الطيّبة المصمّمة، وأعمالك الصالحة، وأمانتك المُرهفة، ورغبتك الثابتة في عدم خيانة يسوع، وفي الاسجابة لحبّه بأعمال ملموسة على قياس قواك وحالة وضعك الحياتيّ.

يا له من استعداد نفسيّ دقيق: ان نعرف أنّ أعمالنا لا نفع منها، وان نتابع القيام بها ليتمكّن يسوع من إخصابها ومنحها أن تؤتي ثمارها!

١ـ٤ ولكي نرسّخ وضع الثقة هذه وتحديدَه، لِنَسْتَعِدْ، إن شئت، مثل التلاميذ الذين يصطادون عند شاطئ البحيرة. لقد عملوا طوال الليل من دون أن يحصلوا على سمكة. وفي الصباح أرسلهم يسوع ثانية، وحسب قوله، امتلأت شباكهم بلحظة. وكان لهذا السيناريو أن يجري بغير اتّجاه وبأربعة أشكال مختلفة:

١ـ سيناريو أول

لا ثقة للرسل بيسوع. فيرفضون الاصغاء لكلامه ويعدلون عن الصيد. ما عسى النتيجة أن تكون؟ الشباك فارغة. وهذا يشبه كل هذه اللحظات التي تفقد فيها الشجاعة لأنك لا تؤمن بكلامه وطيبتة وقدرته اللامتناهية.

٢ـ سيناريو ثانٍ

لا يتّكل الرسل إلاّ على قواهم ويصرّون على الاعتقاد بأنهم سيُفلحون لوحدهم. ما عسى النتيجة أن تكون؟ الشّباك تبقى فارغة. وجه الواقع هذا يتكرّر كلّ مرّة تحاول فيها أن تكون كاملاً في حياتك الروحية يقوّة ساعديك. ولا شكّ في أنّك تتصرّف هكذا كُرمى يسوع، كي تُفرح قلبه، ولكنّك تبالغ في محاولتك بدون مساعدته. فماذا لديك ممّا لديك لم تنله منه؟

٣ـ سيناريو ثالث

للرسل ثقة كبرى بيسوع، ويؤمنون بأنه قادر على صنع العجائب. ولكنّهم يرفضون التعاون وإيّاه. فعمل الصّيد متعِبٌ، متعِب. إنهم يقبعون في قعر سفينتهم، مكتوفي الأيدي، وينتظرون أن يهبط عليهم رزقهم من السماء من دون أن يكلّفوا أنفسهم العناء. ما عسى النتيحة أن تكون؟ الشباك تبقى فارغة. في مثل هذه الحالة تجد تقاعسك  الرّوحي. ففي نفسك تقول: "سنرى غدًا". وبانتظار هذا الغد، لا يسعُ يسوع أن يفعل فيك.

٤ـ سيناريو رابع

الرسل يسخرون من كلّ شيء. إنّهم سئمون. فلا شيء يعلق في أذهانهم أو يهمّهم أمره. ما عسى النتيجة أن تكون؟ الشباك تبقى فارغة. حذارِ إذًا. فأكثر ما يجب أن تخافه هو موت الرغبة فينا. ترى جيّدًا أنّ المشهد الإنجيليّ، كما عُرضَ لنا، يجسّد بدقةٍ وصوابيةٍ كيف يجب أن تعاش الثقة.

٢ـ لنستمع الى تريز

٢ـ ١ المصعد الالهي

"تعلمين، يا أمّي، إني قد رغبت دومًا في أن أصير قديسة. ولكني، للأسف، وجدتُ دائمًا، عند مقابلة نفسي بالقيدسين ، أن بينهم وبيني من الفرق ما يوجد بين جبل تناطح قمّته السماوت، وبين حبّة رمل تطأها المارّة. وبدل أن تفتر عزيمتي، قلت في نفسي: ليس من شأن الله أن يُلهم رغبات يستحيل تحقيقها. فبوسعي إذًا، رغم صغري، أن أتوق الى القداسة. يستحيل عليّ أن أكبر: لذا عليّ أن أحتمل ذاتي كما أنا مع كل نقائصي. ولكنّي أريد أن أبحث عن وسيلة للذهاب الى السماء، بدرب صغير قصير مستقيم، بدرب صغير جديد جديد. فنحن اليوم في عصر الاختراعات: لا حاجة بنا الآن الى أن نرقى درجات سلّم. ففي دور الأغنياء، يحلّ المصعد محلّ السلّم لمنفعة اكبر. فأنا بدوري أودّ لو أجد مصعدًا للارتفاع الى يسوع، لأني أصغر كثيرًا من أرقى سلّم الكمال المضنية. وقد بحثت في الكتب المقدسة عن دليل يرشدني الى هذا المصعد، موضوع رغبتي. فقرأتُ هذه الكلمات التي نطقت بها الحكمة الأزلية: من كان صغيرًا، فليُقبلْ إليّ (أمثال ٩،٤). فأقبلتُ، وقد حَزِرتُ اني وجدتُ ما كنت أبحث عنه. وأردت ان أعرف، يا إلهي، كيف تعامل الصغير الذي يلبّي نداءك، فواصلتُ بحثي، وهاك ما وجدت: كما تدلّل ألأم طفلها، كذلك أنا أعزّيكم، وفي حضني أحملكم، وعلى ركبتيّ أدللّكم                   (إشعيا ٦٦/١٣و١٢)  آه! لم يحدث قط أن فرّح نفسي كلام أحنّ وأرقّ! فالمصعد الذي ينبغي أن يرفعني الى السماء إنما هنا ذراعاك، يا يسوع! ولهذا فلست بحاجة الى أكبُرَ، بل على العكس من ذلك، عليّ أن أظلّ صغيرة بل أن أصْغُرَ أكثر فأكثر. يا إلهي! لقد تجاوزت انتظاري، فأريد أن اتغنّى بمراحمك."

                              (مخطوط ج ص ٢ـ ٣؛ الأعمال الكاملة ص ٢٠١ـ ٢٠٢ )

٢ـ ٢ الثقة تنال كل شيء

" يا يسوع! مَن لي بأن أحدّث جميع النفوس الصغيرة بتنازلك الفائق الوصف... وأنا أشعر بأنّك لو وجدتَ، على فرض محال، نفسًا أوهنَ وأصغرَ من نفسي، لطاب لك أن تغمرها بأفضال عظمى أيَضًا، إذا ما استسلمت بثقة تامة الى رحمتك اللامتناهية."

                               (مخطوط ب ص ٥ ش؛ الأعمال الكاملة ص ١٩٦)

٢ـ٣ قليل من الارادة الطيبة

في أحاديث القديسة مع مبتدئاتها نجد أنفس التعاليم. روت إحداهنّ، قالت: تولاّني القنوط إذ تأملت نقائصي، فقالت لي الأخت "تريز الطفل يسوع":

"تذكّرينني بالطفل في عهده الأول إذ بدأ يقف على رجليه ولكنه لا يستطيع المشي. يريد أن يدرك أعلى السلم ليلاقي أمّه، فيرفع قدمه الصغيرة كي يصعد الدرجة الأولى؛ ولكن عبثًا؛ فهو يقع دائمًا بدون أن يستطيع التقدم. الا كوني هذا الطفل الصغير فارتفعي؛ بممارسة الفضائل كلّها قدمك الصغيرة لترقي سلم القداسة ولا تتوهمي أنك تستطيعين أن ترقي حتى الدرجة الأولى... كلا. على أن الله لا يطلب منك إلا حسن الإرادة. فمن أعلى هذا السلّم ينظر إليك بحبّ، ولا يلبث أن تقهره جهودك الضائعة فينزل هو نفسه، ويضمّك بين ذراعيه ويخطفك خطفًا يدوم مدى الأبد الى ملكوته حيث لن تفارقيه. ولكن إذ انقطعت عن رفع قدمك الصغيرة فإنه يتركك طويلاً على الأرض". وقالت أيضًا: " الوسيلة الوحيدة للتقدم سريعًا في طريق الحبّ هي أن يبقى الانسان صغيرًا. هكذا فعلتُ؛ لذلك أستطيع أن أنشد مع أبينا القديس يوحنا الصليب:

"بانخفاضي الى أسفل وأسفل

ارتفعتُ الى أعلى وأعلى،

فأدركتُ غايتي."

                                      (من قصيدة ٩: وثبة حب من الأعمال الصغرى ص ٢٣)                         

                                      (النص من نصائح وذكريات ١)