المرحلة السادسة: المحبّة الأخويّة «أضواء

(شباب سائرون صوب يسوع برفقة تريز الصغيرة)


 

 

 

 

١ـ لنتأمل

١ـ١ التسليم ثروة ثمينة جدًا، واستقبال اللحظة الآتية بتقدمتها للربّ الرحيم هو أسلم طريق ممكن أن يكون. و تسليم المقود الى يسوع يجلب السّلام الأكبر! ولكن للذهاب الى أين، ولأيّ غاية، ولماذا؟ هذا تساؤل يمكنك بكل حق طرحه على نفسك. وأن يسلّم المرء أمره، وأن يقبل بالظلمة، ذلك لا يعفيه من السؤال العام عن المعنى. ففي مثل هذه الحال  أجابت تريز على هذا السؤال مباشرة بدون لفّ ودوران: يسلّم المرء نفسه لكي يحبّ، ويحبّ حتى الجنون وحتى اختراق السقف، كما يُقال.

وأنت تعلم أن هناك ألوانًا من الحبّ مختلفة. ولهذا السبب لا تُعير هذه الكلمة أيّ قدر، وتحذرُها، وتشعر عند سماعها بضيق. ففي اعتمادها الكثير من الالتباس والسطحية والمغايرة بالمعنى أحيانًا.

١ـ٢ لذلك فلنكن واضحين! هناك ثلاث طرائق نحبّ بها:

الطريقة الأولى: هي حبّ "إيروس" (Eros) (الغرائزي). هذه الطريقة تُحدث انفعالاً يُثير المشاعر. ويُقال لها أيضًا: حبّ الشعور الذي يهزّ القلب. هذا اللون من الحبّ ليس سيّئًا. ولا مجال للشك فيه مسبقًا. إلاّ أنه غير كافٍ: والسبب أوّلاً، أنه يتبدّل بدون هوادة حسب أهواء المزاج لا يعرف الثبات والاستمرار. ومن ثمّ، لأنه يميل الى جعل المرء يتمحور على ذاته وعلى الانفعالات التي تنتابه. فإذا اكتفينا بهذا اللون من الحبّ لن نذهب بعيدًا، ولن نتجاوز حدود أنفنا لأن الشخص الآخر يكون غائبًا عن بالنا.

وطريقة الحبّ الثانية هي حبّ "فيليا" (philia)، حيث الشخص الآخر يحتلّ، بالتحديد، مكانًا أكبر من سابقه، وهذا اللون هو أكثر تجرّدًا. ويدعى، أيضًا، " حبّ الصّداقة" لأنه يدفع بالقلب صوب البحث عن خير الآخر دون سواه. ويقوم على العطاء بدون انتظار أيّ مقابل. وبهذا الحبّ ننتقل الى صعيد آخر، ونحن غير مرغمين، ولكن لأن للآخر قيمة أكبر من قيمتنا في نظرنا. وأنت تعلم، انه ليس من السهل البقاء دائمًا على الاخلاص وعلى حبّ الآخر بحب "فيليا"، وبخاصة عندما يكون الحبّ "الإريوسي" في حالة ركود؛ وإنّما، مع ذلك، يبقى لون هذا الحبّ من اجمل الوسائل للتعبير عن حبّ أصيل.

والطريقة الثالثة  من الحبّ هي الحبّ الذي يقال له: " أغابي (agape)  والشائع باسم "الحبّ ـ المحبّة". وهذا الحبّ يتميّز بتفوّق تساميه تساميًا لا يحدّ له قياس. وبتعبير ملموس: هو حبّ العدوّ الذي يدعو يسوع اليه، الحبّ الذي لا قيد له و لا شرط، والذي لا يجيز لعائق أن يتغلّب عليه. أو استنادًا الى مثل آخر، هو شبيه بحبّ مكسيميليان كولب لجلاّديه داخل زنزانة الموت في "أوشفيتز" (Auschwitz) وهو يفدي بحياته أبَ عائلة.

١ـ ٣ الى لون الحبّ الثالث هذا، تحديدًا، تقود الطريق الصغيرة، طريق تريز، بفضل التسليم المنبثق عن فعل تقدمة الذات للحبّ الرحيم! فعندما تسلّم نفسك الى يسوع وتهبه إيّاها، تصبح على ما هو عليه: تحبّ الآخرين حبًّا جنونيًّا. وعندما تضع ذاتك تحت تأثيره، وترتمي في أتون حبّه، تدخل سرّيًا في شراكة حبّه الذي لا يُحدّ.

١ـ٤ وللوصول الى مستوى هذا الحبّ، ليس من الضرورة البحث عن وسائل خارقة العادة، وإنهاء الحياة على الأرض كما أنهى حياته مكسيميليان كولب. فكلّ إنسان له نعمته الخاصة وطريقه الخاص. وبإمكانك أن تحيا هذا التحليق، وهذا التجاوز المطلق لطاقات قلبك البشريّ المتواضع، في التّخفّي اليوميّ، بطريقة مستترة، بسيطة جدًا، وإنما ليست أقل كثافة وفعالية. تمامً كما كانت تفعل تريز التي كانت، في كل مناسبة، تحيّي ببسمتها الأجمل أختًا كانت تجدها ثقيلة الظلّ. ولم تكن الابتسامة تخفي أيّ خبث، وإنّما كانت نتيجة إرادة حبّ يحلّق على علوّ مئة ألف قدم فوق مستويات حبّ الشعور السُّفلية: ألا وهو"الحبّ ـ المحبّة".

١ـ ٥ وهنالك ألف طريقة و طريقة لعيش هذا الحبّ الذي لا يقيّده شرط:

_       أن تحتمل نقائص الآخرين بصبر وعطف.

_       أن تقبل بأن لا يرى الآخر دائمًا ما يجول في خفايا قلبك، وبألا يفهمك، وبأنه قد يظلمك.

_       أن تحلّل المواقف والعلاقات بأكثر إيجابية ممكنة، وتنظر بتفاؤل مقرونًا بعطف ينجّي القريب.

_       الاّ تحكم على الآخرين، وألا تدينهم بقسوة، بل عاتبهم بلطفٍ عندما يسنح الظرف.

_       أن تفضل ألف مرّة، قبول الملامة من الآخرين على أن توجّه إليهم، أنت، الملامة.

_       أن تجيد التعبير عن عرفان الجميل وعن اللّطف، مبادلةٌ للحبّ الذي يمنحك إيّاه أخوك أو أختك، وأن تجعل نفسك كلاّ للكلّ في استعداد للخدمة، وفي نوعية إصغاء يحملان الآخر على مقاسمتك أتراحه أو أحزانه.

_       أن تنفتح، وتهب ذاتك، وتشعّ عندما تتملّكك شهوة الانغلاق على مرارت حياتك، والإنزواء استسلامًا الى أفكار قاتمة.

_       أن تتنازل عن حقوقك، وعمّا تتطلّبه من الآخر لكي تصبح حرًّا في العطاء بروح الخدمة المجّانية.

_       أن تعدل عن روح السلطويّة وعن تلك الرغبة الدائمة في إعطاء الأوامر لمن يحيطون بك.

_       أن تنميّ فيك محبّة مبدعة تعرف كيف تتبيّن مسبقًا رغبات الصديق، وكيف تلبّي هذه الرغبات.

_       بكلمة، وحسب قول تريز، أن تحاول دائمًا،"إسعاد الآخرين".

١ـ٦ يا لها من لائحة مزعجة! لربّما تشعر، وأنت تقرأها، بفقدان التوازن، فتقول لنفسك بعد تفكير: "هذا أمر جنونيّ"! وأنا أوافقك: هذا جنون! وإنما مع ذلك، في أعماق نفسك، لو نزعت الغطاء قليلاً عن ردّات فعلك الأولى، لَتبيَّنتَ أنّ كل شيء فيك يتحرّق توقًا الى هذا الجنون. فقلبك، مثل قلب تريز، مشحون برغبات هائلة، لا شطآن تحدّها، مترامية ترامي الأوقيانسات. أنتَ تريد أن تحبّ حتى ينقطع نفسك، لأنك مدعوّ الى أن تحبّ حبّ "أغابيا"، حبًّا يصل الى حدّ بذل حياتك.

١ـ٧ واعلم أن هذا لم يكن ليوجد في داخلك. لو لم يكن الله قد دسّه هناك. فهو الله من أودع صدرك رغبات الحبّ هذه التي لا حدود لها، لا ليحبسك في يأس من العجز، ولكن لتطلب منه بحرّية أن يأتي ليتمّمها ويحقّقها فيك. لأنه وحده إله يعرف كيف يحبّ على قياس إله حبًّا لا لامتناهيًا. وهذا يفترض فقط قليلاً من التواضع، ومن قبول عدم قدرتك، ومن الثقة، ومن الرجاء الأعمى، ومن تسليم أمرك الى من يبغي أن يهبَك كل شيء: إيّاه نفسه، الحبّ بالذّات!

١ـ ٨  وهنا يكمن مفتاح السّعادة الحقيقيّة. فتريز التي عانت الكثير بدافع الحبّ، وخاصّة في أواخر حياتها، تركت لك شهادة لا أجمل منها، وهي على سرير مرضها: " لستُ بنادمةٍ على أنّي وهبتُ ذاتي للحبّ". ولقد تركَتْ لك، بعدُ، وعدًا: وعدًا بأن تشفع لك فتجعل السماء تغدق على نفسك كما على نفس أخواتها، مطرًا من النّعم، مطرًا من بتلات الورود، مطرًا كفيلاً بأن يجعل قلبك يدفق حبًّا.

٢ـ لنستمع الى تريز

٢ـ ١ تريز مدعوة الى حبّ جنوني

 "عندما أمر الربّ شعبه بأن يحبّ كل منهم قريبه مثل نفسه، لم يكن يسوع يومئذٍ قد جاء الى الأرض. وقد كان يعلم حقَّ العلم أيضًا مدى محبّة الانسان لذاته، فلم يكن بوسعه أن يطلبَ من خلائقه محبّة أعظم للقريب. ولكن لما أعطى يسوع رسله وصية جديدة، أي وصيّته الخصة به، كما يذكر لاحقًا، لم يوصهم بحبّ القريب كحبّهم لنفسهم فقط، بل أن يحبّوا القريب كما يحبُّه يسوع، وكما سيحبّه الى منتهى الأجيال...

آه! يا رب، أعرف أنك لا تأمر بما هو مستحيل، فإنك أدرى مني بضعفي ونقصي. وتعلم جيّدًا أني لن أستطيع أبدًا أن احبّ أخواتي مثلما تحبُّهنّ أنت، ما لم تحبُّهنّ، أنت نفسك، فيّ، يا يسوعي. فإنك لم تعطِ وصية جديدة إلا لأنك تريد أن تمنحني هذه النعمة. آه، ما أشدّ حبّي لهذه الوصية لكونها توليني الضمانة بأن إرادتك هي أن تُحِبَّ فيّ جميع الذين تأمرني بأن أحبّهم!...

أجل، إني أشعر بأني عندما أكون مُحِبَّةً، يكون يسوع وحده الفاعل فيّ. وكلما ازداد اتّحادي به، زادت محبّتي لجميع اخواتي."

                              (مخطوط ج ص ١٢ ش؛ الأعمال الكاملة ص ٢١٤)

٢ـ ٢ تريز تحبّ بتجرّد

"قد لاحظت (وهذا أمر طبيعي) أن أكثر الراهبات قداسة يحظَيْنَ بأكثر قدر من المحبة. فالجميع يسعى للتحدّث إليهنّ، وتُقدّم لهنّ خدمات من دون أن يطلبنها؛ وهذه النفوس القادرة على تحمّل التقصيرات والخشونات يجدنَ ذواتهنّ مُحاطات بمودّة الجميع. فنستطيع أن نطبّق عليهنّ قول أبينا القديس يوحا الصليب: أُعطيتُ الخيرات كلّها، يوم لم أبحث عنها بغرور.

أما النفوس الناقصة، على العكس، فلا يسعى إليها أحد. لا شكّ في أن الجميع يعاملونها في حدود اللياقة الرهبانيّة، ولكنهم يتجنّبون صحبتها مخافة أن يُسمعوها كلامًا مكدِّرًاـ وإذ أقولُ "النفوس الناقصة"، لا أقصد النقائص الروحية فحسب، بما أن أعظم النفوس قداسة لن تبلغ الكمال إلاّ في السماء؛ لكني أقصد النقص في التقدير وفي التربية وسرعة التأثر لدى بعض الطباع، وكل الأمور التي تجعل الحياة حلوة. اعلم ان هذه العلل الأخلاقية لا أمل في شفائها؛ ولكني أعلم أيضًا أن أمي لن تتوقّف عن العناية بي، وتحاول التخفيف عني، حتى لو بقيتُ مريضة حياتي كلّها.وهاك النتيجة التي استخلصها من ذلك: عليّ أن اسعى في الفرصة وفي أوقات الفسحة الى صحبة أقلّ الأخوات تحبُّبًا إليّ، وأن أقوم حيال هذه النفوس الجريحة بخدمة السامري الصالح. فغالبًا ما تكفي كلمة أو ابتسامة لطيفة لأن تنعش نفسًا كئيبة. إلا أني لا أرمي أبدًا الى هذا الهدف من ممارسة المحبة، لأني أعرف ان الإخفاق سيعتريني سريعًا: فربَّ كلمة قلتها بنيّة صالحة تُؤَوّلُ تأويلاً معاكسًا. لذلك.، فلكي لا أضيّع وقتي، أريد أن أكون لطيفة مع الجميع (ولا سيما مع أقل الأخوات لطفًا)، وذلك بغية إرضاء يسوع والتجاوب مع المشورة التي يعطيها في الانجيل بهذه العبارات تقريبًا: إذا صنعتَ وليمةً، فى تدعُ أصدقائك ولا... أقرباءكَ... لئلا يدعوك هم أيضًا، فتكون قد نلت جزائك... بل ادعُ الفقراء والزَمن والكسحان...، لأن أباك الذي يرى في الخفية يجازيك. (لوقا ١٤/١٢ـ ١٤؛ متى ٦/٤)."

                                 (مخطوط ج ص ٢٨ ي؛ الأعمال الكاملة ص ٢٣٤ـ ٢٣٥)

٢ـ ٣ حب تريز ليس حبّ الشعور

"هناك في جماعة الدير أخت موهوبة بإزعاجي في كل الأمور. فكانت تصرّفاها وأقوالها وطبعها تبدو لي مزعجة جدًا. ومع ذلك فهي راهبة قديسة ولا بدّ أنها مرضية لدى الله؛ وإذ لم أشأ الاستسلام الى الكراهية الطبيعية التي كنت أشعر بها تجاهها، قلت في نفسي إن المحبة يجب الا تقوم على المشاعر، وإنما على الأعمال. عندها سعيتُ جهدي لكي أعمل لهذه الأخت ما كنت سأفعله لأحبّ شخص لديّ. فكل مرة كنت ألتقيها، كنت أصلي الى الله من أجلها، وأقدّم له جميع فضائلها واستحقاقاتها. وكنتُ أشعر بأن ذلك يرضي يسوع؛ فليس من فنّان لا يحبّ تلقّي الثناء على أعماله. ويسوع، فنّان النفوس، هو سعيد عندما لا نتوقف عند الظاهر، بل ننفذ الى المقدس الحميم الذي اختاره له مسكنًا، ونُعجبُ بجماله. ولم اكن أكتفي بالإكثار من الصلاة من أجل تلك الأخت التي كانت تسبّب لي كلّ هذا الصراع، بل كنت أحاول أن اؤدّيَ لها جميع الخدمات الممكنة. وعندما كانت تراودني تجارب الردّ عليها بجوابٍ جاف، كنت أكتفي بأن أبتسم لها أعذب ابتسامة، وأسعى الى تغيير مجرى الحديث. فقد قيل في كتاب                    الاقتداء بالمسيح:" أن ندعَ كل امرئ في ما يشعر خير من التوقّف على المنازعة."

وغالبًا، عندما كنت أتغيّب عن الفرصة، (وأقصد خلال ساعات العمل) وتضعني علاقات الخدمة على درب هذه الأخت، وعندما تصبح صراعاتي بالغة العنف، كنت أهرب مثل جندي فار. وبما أنها كانت تجهل تمامًا ما كنت أشعر به نحوها، فلم تشكّ يومًا في دوافع سلوكي هذا، وظلّت متيقّنة من أن طبعها يرضيني. وذات يوم، في أثناء الفرصة، وجهّت إليّ ما يقارب هذه الكلمات، وهي بغاية السرور: "هلاّ قلتِ لي، يا أختي تريز الطفل يسوع، ما الذي يجتذبك إليّ لهذا الحدّ؟ فكلّ مرّة تنظرين إليّ، أراك تبتسمين؟" آه! إن الذي كان يجتذبني هو يسوع الكامن في عمق نفسها... يسوع الذي يحوّل الى عذوبة ما هو أشدّ مرارة. فأجبتها أني كنت أبتسم لكوني مسرورة برؤيتها (وطبعًا لم أكن أضيف أن الأمر كان من الوجهة الروحية)."

                                   (مخطوط ج ص ١٣ـ ١٤؛ الأعمال الكاملة ص ٢١٦)