تأمّل 2: أريد أن أكون قدّيسة «أضواء

 

 

 

 

أحداث أليمة تطبع النفس بجراح لا تُنسى

في الثاني من تشرين الثاني عام١٨٨٧ شهدت إليزابيت، بشكل دراميّ وفاة والدها المفاجئ الذي قضى نحبه ضحيّة نوبة قلبيّة بين ذراعيها. أي اضطراب أحدثت هذه الميتة المفاجئة في نفس هذه الابنة؟ حُكمًا لقد كان هذا الاضطراب عميقًا، بالغ الأثر. بعد عشرة أعوام، وبمناسبة ذكرى هذا الغياب ذكرت هذا الحدث في قصيدة:

"أبتاه، منذ سنوات عشر،

اغتالك الموت الظالم!

فخلّفت أرملتك دامعة، منتحبة،

وابنتيك وهما بعد صغيرتين؛

وفارقت نفسُك الأرض،

مطرحَ النفي والبؤس،

لتعود الى حضن الله،

 في مدينة السماوات الجميلة.

هنا، بين ذراعيّ الطفلتين،

هاتين الذراعين اللتين طالما داعبتاك،

جرى نزاعك الخاطف،

آخر معارك الحياة

هذه النهدة الأخيرة الطويلة، الطويلة!...

يا حامي طفولتي،

يا من عرفت كيف تسهر ثابتًا

على ابنتيك الصغيرتين،

أَعدُك صادقةً بأن الأعوام

لن تمحو من ذاكرتي

ذكرى أبٍ محبوب

دعاه يسوع

هو، بعد، فتىً، الى المجد الأبدي!"

طريق الكامل يبدأ بخطوة

لقد تشرّبت إليزابيت حتى قبل دخولها الى الدير بروح الرهبانية الكرمية التي تتميز بالفرح وببساطة القلب، وهما أثران تتركهما " علاقة الصداقة مع الله". وقد تأثرت كثيرًا بتريزا الأفيلية خاصة بعد مطالعتها كتابها طريق الكمال.

وقد شعرت إليزابيت في أعماقها باندفاع لا يُلجم لتنال حصّتها من آلام المسيح وعذاباته بكل ما في قلبها وفي كيانها من قوى. فذات يوم حَرمت نفسها خفية من الفطور.

يا له من قصد موفّق! :" أه، كم أنا سعيدة لتمكّني من تقدمة هذه الإماتة الصغيرة ليسوعي". لكن أمّها سرعان ما تبيّنت الأمر فوبّختها توبيخًا قاسيًا. وإذا كانت إليزابيت قد حُرمت الاستسلام الى هذه الاماتات الصبيانية التي يُخشى ان تضرّ بصحتها، ظهر أن هذا الحرمان لم يمنعها من شعور أعمق بمعنى الألم المشارِك في الفداء وقيمته. وها هي تدوّن في يومياتها :" أطلب من يسوع صليبَه. هذا الصليب عوني ورجائي. هذا الصليب الذي أريد أن اتقاسمه مع المعلّم الذي يتنازل ويحفظ لي جزءًا جميلاً جدًا فيه، ويختارني أمينة على سرّه، ومعزّية لقلبه الإلهي! آه! إنني أريد بحبّي، بعنايتي، بإماتتي، بصلواتي، أن اجعله يُشغل عن آلامه. وأريد أن أحبّه عن جميع من لا يحبّونه وأريد أن أعيدَ إليه هذه الأنفس التي طالما أحبّها"

إن كلّ دعوة إليزابيت للثالوث الأقدس تُختصر في رغبتها في التماثل التّام مع المسيح. بهذه الرغبة تبدو منسجمة كلّ الانسجام مع تعليم يوحنا الصليب الذي كتب الى الكرمليات الحافيات قائلاً لهنّ: "أُخدمنَ الله، يا أخواتي اللواتي أُحبّهن في المسيح وأنتنّ تتبعنَ آثار عذاباته بمنتهى الصبر، وبمنتهى الصمت، وبمنتهى الرغبة في العذاب، حتى تصبحنَ جلاّدات مُتَع الحواس، جلاّدات أنفسكنّ إن كان هنالك فيكنّ، بعد، ما يجب أن يُقضى عليه ويمكن أن يقف بوجه قيامة الروح القدس في داخلكنّ.

 أريد ان أكون قديسة

لقد أثار كتاب "تاريخ النفس" الذي وضعته القديسة تريز الطفل يسوع الذي يتضمن "فعل تقدمة الذات للحب الرحيم" أصداء عميقة الغورفي  نفس القديسة إليزابيت. فعبّرت مرارًا عن الرغبة التي تستأثر بها في أن تكون، وفي أن تصبح "ضحيّة محرقة". فتقول: " آه! اجعلني شهيدة حبّك، ولتجعلني هذه الشهادة أقضي نحبي. انتزع منّي الحرّية بأن أهينك، فلا أُلحقُ بك، عمري، أدنى إهانة. حطّم في قلبي، كلّ ما لا يسرّك وانتزعه منه. إنني أريد دومًا أن أتمّم مشيئتك، وأن أستجيب لنعمتك. أيها السيد، أريد أن أكون قدّيسة لأجلك، فكن قداستي لأنني أعرف ضعفي. آه، يا يسوع! أشكرك على كلّ النِّعم التي أغدقتَها عليَّ، وأشكرك خاصّة على أنّك امتحنتني. فما أحلى أن يتعذّب المرء كُرمى لك ومعك! ولتكن كلّ خفقةٍ من خفقات قلبي هتفةَ عرفان وحبّ".

وذات يوم تناولت إليزابيت القلم على عادتها وخربشة تحت تأثير حمّى الوحي المفاجئ صلاةً ملتهبة، فحددت في هذه الصلاة التي يمكن أن توصف بالصوفية، خطوط دعوتها ذات الميزة الغريبة:

" لتكن حياتي تأملاً متواصلاً، وفعل حبٍّ دائم. ولا يشغلني شيء عنك، لا ثمار التأمل ولا شرود الذهن... إنني أقدم لك خليّة قلبي، فلتكن لك "بيت عنيا صغيرًا"؛ فهلمّ استرح فيه! إنني أحبّك كثيرًا... وأريد أن أُعزّيك فأُقدّم لك ذاتي تضحية، أيّها السيّد، لأجلك، ومعك أنت. وأرضى مسبقًأ، بالتضحيات جميعها، وبالمحن جميعها، حتى بتلك التي تُشعرني بأنّك لم تعد معي،... أشتهي أن أكون قدّيسة معك ومن أجلك؛ وإنما أشعر بعجزي: فآه! كن قداستي. سيّدي! لستُ أبحث عن هذه الهبات وعن هذه التعزيات التي تُغدقها عليّ؛ أبحث عنك، عنك وحدك! فأعنيّ دومًا، وامتلكني أكثر فأكثر، وليُصبح كل ما أتكوّن منه ملكَ يديك؛ حطّمني، وانتزع منّي كلّ ما لا يروقك فيّ لكي أصبحَ كليًّا لك...