تأمّل 4: تسبحة المجد «أضواء

 

 

 

 

كانت إليزابيت تُعجب، على حدّ قولها، " بالرسائل الجليلة"، رسائل القديس بولس. وقداسترعى انتباهها مقطع من الرسالة الى أهل أفسس. فالقديس بولس يتوجّه عبر أهل أفسس إلى أبعد منهم، إلى المسيحيين أجمعين. وفي المديح الأوّل الموجّه الى الله الآب وإلى المسيح المخلّص، تتكرّر عبارة "تسبحة المجد" أو "تسبحة مجده" ثلاث مرّات. وقد أخذت هذه العبارة بمجامع قلب إليزابيت. فأوردتها لأول مرة في نهاية رسالة بعثت بها الى الأب شافينيار، مستوحاة، منذ مطلعها، من قراءة القديس بولس:

" أبتِ الجليل، يقول القديس بولس "إنّنا لم نعد ضيوفًا أو غرباء، وإنما صرنا من أبناء مدينة القديسين، ومن أهل بيت الله (أفسس ٢/١٩). فنحن بِتنا، منذ الآن، نقيم بالإيمان هناك، في هذا العالم الفائق الطبيعة الإلهي، وباتت نفسي تشعر بأنّها تجاور نفسَك تحت غمرة الله الكلّي الحبّ! فمحبّته، "محبّته الفائقة العظمة"، اعتمادًا لتعبير الرسول الكبير مرّة أخرى، تلك رسالتي على الأرض. أبتِ الجليل! أيمكننا، يومًا، أن ندرك كم يحبّنا الله؟ يبدو لي أن، هنا تمامًا، يكمن علم القدّيسين... وهناك كلمتان بنظري تختصران القداسة "اتّحاد! حبّ!". فاطلب لي أن أعيش ملء حياتي منها، وأبقى بسببهما، دفينة كلّيًا في الثالوث الأقدس... فلنتّحد كي نجعله ينسى كلّ شيء من فرط الحبّ، ولنكن، على حدّ قول القديس بولس "تسبحة المجد".

وهذه العبارة التي طُبعت فيها سِمة في نفسها، تتكرّر مُلحّة، في رسائلها الى من تُراسل. يا لها من عبارة مدهشة! يُخيّل أن إليزابيت وعت في ومضة من روحها، مذّاك ونهائيًا، جوهر دعوتها بالذات. ولاحظ الأب كونراد دي ميستر: إن إليزابيت، ثلاثة عشر شهرًا قبل وفاتها، تعبّر صراحة، ولأول مرّة عن مثالها الأعلى بأن تكون تسبحة استعدادًا للمحرقة.

منذ الآن فصاعدًا، ستتكرر هذه العبارة، أبالفرنسية كانت أم باللاتينية، على ريشة إليزابيت بشكل عفوي وطبيعيّ. وقد ورد في رسالة بعثت بها الى الأب أنغل:"سأبوح لك بشيء حميم: إن حلمي ان أكون "تسبحة مجده". لقد قرأت هذا في رسائل القديس بولس، وعروسي أوحى لي، بأن ذلك "دعوتي" منذ المنفى، بانتظار رحيلي لأنشدَ، ترنيمة قدوس السرمدية في مدينة القديسين. ولكنّ ذلك يتطلّب أمانة كبرى لأصبح "تسبحة مجده". لأنه يجب أن أكون ميتةً عن كلّ ما ليس هو، فلا أعود أهتزّ إلاّ بلمسة منه..."

وعندما بدأ المرض يعمل على إبادتها منسجمًا هكذا، بشكل سرّي، مع رغبتها العميقة، طلبت، في ذروة وعي دعوتها، الى الكاهن أنجل، في ٩ أيار ١٩٠٦ :" لا يكون كلّ شيء نقيًّا، جميلاً، مقدّسًا إلاّ في الله... وبما أنك كاهنه، كرّسني له قربانة صغيرة تريد ان تمجّده في غمرة العذاب، أفي الأرض كان أم في السماء، وبقدر ما يريد منّي ذلك". التماهي مع هذه التسمية تمّ، بُعيد ذلك، الى حدّ أن الكرملية الفتيّة، لحظة توقيع هذه الرسالة، قرنت هذه التسمية باسمها: "ماري إليزابيت ،للثالوث الأقدس، تسبحة المجد"؛ ومنذ ذلك الحين باتت عبارة القديس بولس تتجسّد في عذابها وتتوحّد معه. ولقد كتبت في مطلع شهر حزبران ١٩٠٦ ما يلي،:" آه!، كم أكون سعيدة لو أنه أراد أن يُسقط الحجاب لكي ترتمي نفسي فيه، وتتأمل جماله في "وجهٍ الى وجه". وبانتظار ذلك، أنا أحيا سماء الإيمان، في قلب نفسي، وأحاول أن أُسعد معلّمي بأن أكون، منذ الأرض، تسبحة مجده"

تسبحة المجد، هي نفس تقيم في الله، وتحبّه حبًّا خاصًا مجانيًا، ومن دون أن تبحث عن ذاتها وسط عذوبة هذا الحبّ، وتحبّه فوق كل عطاءاته حتى ولو لم تكن قد نالت منه شيئًا، وتريد الخير لمن تكنّ له مثل هذا الحبّ. فكيف تريد النفس خيرًا لله والحالة هذه الارادة تنظّم الأشياء، جميعها، لمجده الأعظم؟ فعلى هذه النفس، إذًا، أن تستسلم ملء الاستسلام الى هذه الإرادة، وملء الولع، الى حدّ انّها تصبح عاجزة من أن تريد آخر غير الذي يريده الله.

تسبحة المجد، هي نفس تحبذ الصمت، وتعتبر نفسها قيثارة، تخرج منها لمسات الروح القدس السريّة أنغامًا سماوية؛ وتدرك أن الألم وترٌ يُصعّد أنغامًا أجمل من سابقاتها؛ وهكذا تريد ان ترى هذا الوتر بين أوتار آلتها، لكي تحرّك بمزيد من العذوبة، قلب إلهها.

تسبحة المجد، هي نفس ترنو الى الله في الإيمان والبساطة. إنها مرآة تعكس كلّ ما هو عليه؛ إنها شبه لجّة بدون قعر يمكنه أن يغرق فيها... وأن يذوب؛ إنها كذلك، شبه بلّورة يمكنه ان يشعّ من خلالها وأن يتأمل كمالاته وبهاءه الخاص. هذه نفس تتيح، هكذا، للكائن الإلهي أن يُشبع فيها حاجته الى إيصال كلّ ما هو عليه، وكلّ ما لديه؛ وهي ، في الحقيقة، تسبحة مجد لكلّ هباته.

وأخيرًأ،  تسبحة المجد،  هي كائن دائم القيام بأفعال الشكر. وكلّ واحد من الأعمال هذا الكائن وحركاته، وكل واحد من أفكاره وطموحاته، هو شبه صدًى لترنيمة قدوس السرمديّة؛ وهي في الوقت عينه، تعمّق جذور هذا الكائن في الحبّ. وذات يوم سيسقط الحجاب وندخل النعيم الأبدي، وهناك سنُرنّم في قلب الحبّ اللامتناهي. والله سيُطلق علينا الاسم الذي وعد به الظافرين فما على هذا الاسم يكون؟ تسبحة المجد!!!