تاريخ الشهر المريميّ «أضواء

"إن شهر أيّار يشجّعنا على التفكير في مريم وعلى الكلام عليها بطريقة مميّزة. فشهر أيّار هو شهرها، والزمن الليتورجيّ وهذا الشهر يدعوننا على فتح قلوبنا أمام مريم بطريقة مميّزة." البابا يوحنّا بولس الثاني 2 ايّار 1979.

 

 

إن تكريس أيّار لمريم العذراء لم يكن موجوداً في الكنيسة قبل القرن الثامن عشر، ولكننا نعلم أن الكنائس الشرقيّة كانت تكرّس ثلاثة أشهر من السنة لمريم العذراء. ففي ترنيمة ليتورجيّة مارونيّة قديمة نقرأ: "ليكن تذكار المباركة ثلاث مرّات في السنة: بكانون يكون تذكارها على الزروع (سيدة الزروع) وفي أيّار على السنابل (سيّدة الحصاد) وفي آب يكون تذكارها على العناقيد (15 آب) لأنّ في هذه العناقيد تصوّر سرّ الحياة (الإفخارستيّا)". وبالتالي نستنتج أن الكنائس الشرقيّة كانت تعيّد لمريم العذراء في شهر أيّار قبل أن تتبنّاه كنيسة الغرب في القرن الثامن عشر.

في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بدأت العبادات الشعبيّة بتكريس الأشهر لشخص معيّن: آذار كُرّس للقديس يوسف في مدينةViterbo الإيطاليّة ووافق عليه البابا بيوس التاسع في 12 حزيران 1855، وشهر تشرين الأوّل صار شهر الورديّة في إسبانيا ثم وافق عليه البابا بيوس التاسع في 28 تمّوز 1868 وشجّعه البابا لاوون الثالث عشر عام 1883، وحزيران تكرّس لقلب يسوع في دير العصافير في باريس عام 1833 ووافق عليه البابا بيوس التاسع في 8 أيّار 1873، وشهر اسم يسوع الأقدس في كانون الثاني بموافقة البابا لاوون الثالث عشر عام 1902 وشهر دم يسوع الأقدس في تمّوز الّذي أعلنه البابا بيوس التاسع عام 1850، وشهر قلب العذراء الطاهر في آب وأعلنه البابا بيوس التاسع عام 1857 في أيلول، وشهر الأنفس المطهريّة وهو شهر تشرين الثاني وقد أعلنه البابا لاوون الثالث عشر عام 1888...

أمّا شهر أيّار فكان أوّل شهر يكرّس بأكمله لإكرام شخص ما، وقد بدأ يظهر بقوّة في روما، بمبادرة من الآباء اليسوعييّن في المعهد الروماني التابع لليسوعيّين. ومن روما انتقل الى الولايات التي كانت خاضعة للسلطة البابويّة ومنها الى كلّ العالم الكاثوليكيّ.

ولكن قبل هذا التاريخ كانت الكنيسة الغربيّة تكرّم مريم خلال شهر أيّار، بطريقة متواضعة ومحليّة دون انتشار واسع. ففي القرن الرابع عشر كان الراهب الدومينيكي St Henry Suso هنري سوزو، في فترة تفتّح الورود، يدعو المؤمنين الى تحضير أكاليل من الزهر والورود للعذراء الطاهرة. وفي العام 1549 طبع الرابع البنديكتي زايدل كتاباً عنوانه "شهر ايّار الرّوحيّ"، وفي الحقبة عينها كان القديس فيليب نيري يدعو الشبيبة الى إكرام العذراء إكراماً خاصّاً في شهر أيّار، وكان يجمع الأطفال والشبيبة حول مذبح العذراء ليقدّموا لوالدة الله، مع الورود، الفضائل الروحيّة التي كانوا يريدون أن يعيشوها. أمّا في مدينة كولونيا الإلمانيّة، فكان تلاميذ اليسوعيّين يقومون برياضة روحيّة في شهر أيّار إكراماً لمريم، وفي مقاطعة الألزاس، كانت جماعة من الصبايا المكرّسات تدرن من باب الى باب لجمع الورود لتزيين مذابح العذراء خلال شهر أيّار.

وفي القرن السادس عشر والسابع عشر بدأ الكبّوشيّون والفرنسيسكان بالإهتمام بهذا الشهر، فكتب الراهب الكبّوشيّ ثلاثين قصيدة مريميّة لإكرام العذراء في أيّار، وفي نابوليّ بدأ الفرنسيسكان يصلّون صلاة فرض العذراء في كنيسة القديّسة كلارا الملكيّة. أمّا الدومينيكان فبدأوا، سنة 1701، في مدن فييزوله وغريزانا وفيرونا وجنوا الإيطاليةبتكريم مريم طوال شهر أيّار.

وبدأ اليسوعيّون بطباعة ونشر كتب عن الشهر المريميّ في روما، أوّلهم عام 1724 كتبه الأب جاكوليه بعنوان "الشهر المريميّ" وبعده بدأت تظهر سلسلة من الكتب التقويّة في روما وفي المدن الإيطاليّة كلّها. وبعدها بدأت هذه الكتب تترجم الى اللغات الأخرى لتساعد المؤمنين على التأمّل في فضائل العذراء وعلى الإقتداء بها من خلال صلوات وتأملاّت تمتد طوال شهر أيّار.

ومن أيطاليا انتقل هذا الإكرام المريمّي لشهر أيّار الى فرنسا عشيّة الثورة الفرنسيّة، وقد عاد الفضل في إدخاله للطوباويّةLouise De Franceلويز دو فرانس، ابنة الملك لويس الخامس عشر ورئيسة كرمل مدينة سان-دنيس. وبعد الثورة، إبّان فترة إعاد النظام الملكيّ لفترة وجيزة في فرنسا، عمل الكرسيّ الرسوليّ على تشجيع التقوى والإكرام المريميّ كسبيل لمواجهة العداء ضدّ المسيحيّة وضدّ الكنيسة، وذلك من خلال إعلان غفرانات كاملة يستفيد منها المؤمنون في 21 تشرين الثاني 1815. ومن أبرز المعارضين لها كان الإكليروس الجمهوريّ، وهم أفراد عيّنتهم الثورة كرعاة للكنيسة بدل الرعاة الأصليّين الّذين أعدموا أو نفيوا الى خارج فرنسا، وأبرز المعادين كان الأسقف بلماس، الأسقف "الدستوريّ" كما كان يُدعى، لأنه عُين من خلال دستور الثورة، لا من قبل الكرسيّ الرسوليّ. وبقي هذا العداء للشهر المريميّ، ومن خلاله للسلطة الكنسيّة، حتى بعدما أعطى البابا بيوس السابع موافقته عليها. وحين حاول الكهنة إدخال الإكرام المريميّ الى المدرسة الإكليريكيّة دون موافقة بلماس، وكان من المفترض أن يُفتتح هذا الشهر باحتفال كبير، فأضيئت الشموع كلّها وأعدّ الإحتفال. حين علم بلماس بهذا، جاء بنفسه، وأطفأ الأنوار، وطرد الكهنة والمؤمنين ومنع الإحتفال.

وبدأ هذا الشهر يأخذ أهمّيته في الشرق عامة وفي لبنان وسوريا وفلسطين بشكل اخصّ، نتيجة لعمل المرسلين والمبشّرين اللاتين، من يسوعيّين وكبّوشيّين وفرنسيسكان ودومينيكان وآباء لعازريين، فانتشرت هذه العادة في ربوعنا وصار أيّار شهر مريم، وهو لم يكن بجديد على الشرقيّين الّذين بدأوا باكرام مريم في أيار قبل دخول هذه العادة الى الكنيسة الغربية بحوالى الألف سنة.