الأحد الثالث بعد عيد ارتفاع الصليب «الإنجيل

 

 

إنجيل متى (24 / 23-31)

 

 

المسحاء الدجّالون وعودة ابن الإنسان

 

 

قالَ الربُّ يَسوع: «إِنْ قَالَ لَكُم أَحَد: هُوَذَا المَسِيحُ هُنَا أَوْ هُنَاك! فَلا تُصَدِّقُوا.

 

فَسَوْفَ يَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وأَنْبِيَاءُ كَذَبَة، ويَأْتُونَ بِآيَاتٍ عَظِيمَةٍ وخَوارِق، لِيُضِلُّوا المُخْتَارِينَ أَنْفُسَهُم، لَو قَدِرُوا.

 

هَا إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكُم!

 

فَإِنْ قَالُوا لَكُم: هَا هُوَ في البَرِّيَّة! فلا تَخْرُجُوا، أَو: هَا هُوَ في دَاخِلِ البَيْت! فَلا تُصَدِّقُوا.

 

فكَمَا أَنَّ البَرْقَ يُومِضُ مِنَ المَشَارِق، ويَسْطَعُ حَتَّى المَغَارِب، هكَذَا يَكُونُ مَجِيءُ ٱبْنِ الإِنْسَان.
حَيْثُ تَكُونُ الجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُور.

 

وحَالاً بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّام، أَلشَّمْسُ تُظْلِم، والقَمَرُ لا يُعْطِي ضَوءَهُ، والنُّجُومُ تَتَسَاقَطُ مِنَ السَّمَاء، وقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَع.

 

وحينَئِذٍ تَظْهَرُ في السَّمَاءِ عَلامَةُ ٱبْنِ الإِنْسَان، فَتَنْتَحِبُ قَبَائِلُ الأَرْضِ كُلُّها، وتَرَى ٱبْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا على سُحُبِ السَّمَاءِ بِقُدْرَةٍ ومَجْدٍ عَظِيم.

 

ويُرْسِلُ مَلائِكَتَهُ يَنْفُخُونَ في بُوقٍ عَظِيم، فيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الرِّيَاحِ الأَرْبَع، مِنْ أَقَاصي السَّمَاوَاتِ إِلى أَقَاصِيهَا.

 

 

 

تأمل: (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته طوال الأسبوع بتمهّل:

 

 

لقد تكلّمنا في عظة الأحد الماضي عن معنى هذا النّص، عن نوعه الأدبيّ الرؤيويّ وعن الواقع التاريخيّ الذي يعكسه. ولكن الإنجيل المقدّس لم يُكتب ليكون كتاب أدب أو تاريخ، فهو يتكلّم إلينا شخصيًّا، ويدعونا إلى أن نصبح واحدًا من جماعة التلاميذ الذين كانوا يسمعون هذه الكلمات.

 

لا بدّ من فهم عميق للواقع السياسيّ التاريخيّ والإجتماعيّ للفترة التي كُتب فيها هذا النّص لنتمكّن من فهمه بعمقه، ولكن رسالة الإنجيل تبقى عقيمة دون ثمار إن لم نعرف كيف نجعلها تصبح من صميم حياتنا، تتوجّه إلينا شخصيًّا، نتأمّل بها لنبني حياتنا الرّوحيّة وتصبح حياتنا مبنّية على أساس إرادة الرّب القدّوسة.

 

إنّ الهدف الأخير لكلّ نصّ إنجيليّ هو هذا: أن نتأمّل به بعد فهم معانيه الحرفيّة، وإدراك واقع كتابته التاريخيّة، لنصل إلى مرحلة القراءة الرّوحيّة، وهي المرحلة التي نتشرّب فيها النّص روحيًّا، نقبله في حياتنا، في عقلنا وفي قلبنا، لنتحوّل نحن إلى مثاله. هدفنا ليس أن نقولب النّص على شكلنا، بل أن نتحوّل نحن إلى شكل كلمة المسيح التي يقولها لنا في الإنجيل.

 

فكيف نقرأ هذا النّص من الناحية الرّوحيّة؟ وماذا يقول لنا شخصيًّا اليوم، بعد ألفيّ سنة على كتابته؟

 

 

الواقع الرّوحي لحياتنا: 

 

يتكلّم الرّب في إنجيله عن دمار الهيكل، عن الحروب والويلات التي ضربت الشّعب اليهوديّ ودمّرت المدينة المقدّسة. يتكلّم عن المسحاء الدجّالين وعن الأنبياء الكذبة، يحذّرنا من الخوف والقلق، ومن الإنجراف وراء كذبهم. فالخوف هو نقص في الإيمان، وإن نقصَ إيماننا بحضور الرّب في حياتنا، أصبحنا عبيدًا لكلّ ما يمكنه أن يوهمنا الخلاص، فنبتعد عن مصدر خلاصنا ونموت.

 

ما هو الهيكل المهدّم اليوم في حياتي؟ أليس هو حياتي بأسرها حين أكون بعيدًا عن الرّب؟ 

 

بالخطيئة أهدم هذا الهيكل، وقد شاء الله أن يجعل من حياتي أجمل خلائقه! لقد رسم في قلبي الخير، وزرع فيّ التوق إلى الحياة الأبديّة، وأعطى وجودي معنىً يتخطّى البعد الحيوانيّ والماديّ. لقد جعلني كائنًا على صورته ومثاله، أميّز الخير من الشرّ، مدعوّ إلى اختيار الخير لكيما أشارك الخالق في خلاص خليقته.

 

حياتي، هيكل الله الرّوحي، هو اليوم هيكل مهدّم، مثل هيكل أورشليم المحروق. الهيكل المقدس أحرقته الجيوش، وهيكل حياتي دمّرته الخطيئة. هيكل أورشليم دنّسه الغزاة بالأوثان، وهيكل حياتي قد دنّستُه أنا بأوثانٍ وأصنامٍ كثيرة، وضعتُها إلى جانب الله في حياتي، لا بل قدّمتُها عليه أحيانًا.

 

فكم كنتُ في حياتي عبدًا لأصنام المال، والشّهوة واللّذة والتسلّط والعنف والقسوة؟ كم جعلتُ من نفسي صنمًا يحجب صورة الله في داخلي، فبكبريائي أؤلّه ذاتي، وأجعل نفسي محور الوجود. أسعى إلى مصلحتي الخاصّة وأنسى خير الإخوة، أنسى أنّ الله قد خلقني لأكون مثل هيكل أورشليم: علامة حضور الله ودليلاً على حبّه. فهل نحن فعلاً، من خلال حياتنا وشهادة عيشنا علامة لحضور الله في العالم؟

 

"أنا هو الرّب إلهك، فلا يكن لك إله غيري"، هل كنّا أوفياء لهذه الوصيّة؟ كم من المرّات نخون الله بعبادتنا لذاتنا، وللذّتنا، ولمصلحتنا، ولغنانا، وننسى الدّعوة التي دعانا الله إليها: أن نكون على الأرض سفراء له، ننطلق لنعلن أنّه هو الغنى الأعظم، والخير الأعظم، والحبّ والحنان.

 

نعم، هذا هو الهيكل المقدّس الذي يفتّش الله عن بنائه، فالله لا يهتمّ بهيكلٍ سقط ولم يبقَ منه سوى حائط تُهرق عليه الدموع. الهيكل الذي يريد الله بناءه، الهيكل الذي جعل الله نفسه يبكي من أجله، هو هيكل حياتنا المقدّس، رميناه بشرّنا لتدوسه الخطايا وتدنّسه المعاصي.

 

فإذا قالَ لكُم أحدٌ ها هوَ المَسيحُ هُنا، أو ها هوَ هُناكَ فلا تُصدِّقوهُ، فسيَظهرُ مُسَحاءُ دجّالونَ وأنبـياءُ كذّابونَ، يَصنَعونَ الآياتِ والعَجائبَ العَظيمةَ ليُضَلِّلوا، إنْ أمكَنَ، حتَّى الذينَ ا‏ختارَهُمُ اللهُ. 

 

نعلم كلّنا أنّنا لن نصدّق شخصًا جاء يعلن عن نفسه أنّه المسيح، لأنّنا نعلم أنّ المسيح قد أتى. ولكن كم من المرّات نركض خلف مخلّصين شتّى علّنا نجد عندهم الخلاص؟ رغم إيماننا بالمخلّص الأوحد، نفتّش عن مخلّصين آخرين!

 

كم من المرّات نفتّش عن الحبّ، وإن كان عابرًا، لنروي ظمأ قلبنا إلى الحبّ والعاطفة؟ كم من المرّات نضع رجاءنا في شخص يوهمنا أنّه قادر على وهبنا الخلاص؟ نفتّش عن مياه الحياة في الآبار المشقّقة وفي المستنقعات الموحلة.

 

كم من مرّة قال لنا كبرياؤنا: "المسيح هناك"، مشيرًا إلى قوانا الذّاتيّة، فظننّا أنّنا بقدرتنا، وبسعينا، وبعملنا نقدر على الوصول إلى السّعادة. ننسى أنّ الله هو مصدر سعادتنا، وهو القادر وحده على إعطائنا الخلاص.

 

كم من مرّة أشار عنفنا إلينا قائلاً: "ما نفع الله؟ أنت في عالم الذئاب، فإن لم تنهش الآخرين نهشوك"، فصارت شريعة الغاب شريعتنا، ندوس حقوق الآخرين ولا نلتفت إلى من هم بحاجة إلينا.

 

لا نعير انتباهًا ليتيم، لأرملة، ولمحتاج. مسيح العنف الدجّال صار رفيقنا في مجتمعنا اليوم، مجتمع يعتمد على العنف وعلى القسوة وعلى رفض الآخر المختلف. غضب وعنف يرافقاننا أينما ذهبنا: في بيتنا، في عائلتنا، في الزيجات التي تتحطّم كلّ يوم أكثر فأكثر، في جدالاتنا السياسيّة، في عملنا، وحتى خلف مقود سيّارتنا.

 

نظنّ أن بعنفنا نجد الخلاص، فيتحوّل الآخر إلى عدوّ لنا بدل أن يكون واحد من إخوة المسيح الصِّغار الذين نسعى إلى خدمتهم، ويتحوّل مجتمعنا إلى واحة حرب، كتلك التي يتكلّم عليها نصّ إنجيلنا اليوم، بدلاً من أن يكون مكان لقاء وحبّ لأبناء الله على الأرض.

 

كم من مرّة أصغينا إلى صوت مسيح الوصوليّ الدجّال يقول لنا: "فتّش عن خلاصك في هذا العالم، واغتنم الفرصة لتستفيد"، نسمعه يقول لنا في عملنا: "إكتسب رضى الرئيس وإن كان على حساب صيت رفيقك"، يقول لنا: "إستعمل الإنسان ما دمت تحتاج إليه، وارمِ به حين تنتهي حاجتك"، يقول لك: "لا تكن أحمقـًا وتستمع لصوت الضمير، فالكلّ يسرق، استفد من صندوق عملك، أليس هذا تعبك...؟".

 

ومسيح الّلذة الدجّال، ألم يقل لنا مرّات ومرّات أن استفِدْ؟ إستعمل جسد الآخر وحياته وكرامته، وضعها في خدمة سعادتك وإن كانت عابرة؟ ألا يقول لشبيبتنا "فتّش عن سعادتك في المخدّرات، فالعالم دونها ألم ومشاكل، ومعها تحصل على الخلاص"؟ ألا يقول لكثيرات منّا: "ما المانع من الإجهاض، فأنت سيّدة حياتك، وأنت القادرة على اتّخاذ قرارك وإن كان على حساب كائن بريء"؟

 

مسحاء كثيرون يجوبون حياتنا، يهدمون هيكلنا، يشوّهون فينا صورة الله ويضلّلوننا كلّ يوم. يَصنَعونَ الآياتِ والعَجائبَ العَظيمةَ ليُضَلِّلوا، إنْ أمكَنَ، حتَّى الذينَ ا‏ختارَهُمُ اللهُ، نحن، يجترحون المعجرات، يذهلون عقولنا بأضاليلهم، وبقوّة إقناعهم، وبالغنّى العابر الذي يقدّمونه لنا ليضلّلوننا، نحن الّذين اختارهم الله.

 

إختارنا لنعلن قيم الحبّ والإحترام والتعاضد وكرامة الإنسان. إختارنا لنكون مبشّرين لإنجيل المغفرة والمصالحة والمحبّة. إختارنا لنشهد للحقّ وللحقيقة وللعدالة. هل نحن أوفياء لهذا الإختيار؟

 

حَيثُ تكونُ الجِيفَةُ تَجتَمِـعُ النُّسورُ

 

حيث يكون الجسد المائت، المُثخن جراحًا، المهشّم، المهان المحتقر، هناك تجتمع النسور. هو جسد المسيح المائت من أجلنا والقائم حبًّا بنا. هو يسوع الذي بذل حياته في سبيلنا ليعلّمنا أن منطق العنف لن ينتصر، بل هو قادر على صلب كلمة الحقّ وقتلها في المجتمع.

 

مات ليقول لنا أنّ منطق الإستفادة لا يعطي الخلاص، بل موت الآخر وامتهان كرامته، وليقول لنا أنّنا بامتهاننا كرامة الآخر، نمتهن كرامة المسيح من جديد، نقتله، نصلبه، نهينه، ونضعه في قبر إيماننا البارد.

 

يقول لنا أن مسيح اللّذة لا يعطي خلاصًا، فالمسيح الحقّ لم يسعَ إلى سعادة عابرة، بل مات ليعلّمنا أهمّية البطولة في السَّعي إلى سعادة لا تنقضي، وإن كانت سعادة قائمة على بذل ذاتنا في سبيل الآخرين: أليست سعادة دائمة هي سعادة طفل أنقذناه من الموت جوعًا، أو أسهمنا في إدخاله المدرسة؟

 

أهي دون قيمة سعادة عائلة ساعدناها لتخطّي ضائقتها ومشاكلها؟ أهي سعادة عابرة سعادة خاطئ أظهرنا حبّ الله له بمساعدته وبوقوفنا إلى جانبه؟ هو منطق الملكوت، يبدو ضعيفـًا أمام لذّات العالم العابرة، ولكنّه منطق يبقى على الدوام، ويستمرّ في حياة الأبد.

 

النسور هي الكائنات المحلّقة، هي رمز المخلوق السّاعي إلى ما يتخطّى حدود هذا العالم. "على أجنحة النسور حملتك" يقول الله في العهد القديم. هي دعوتنا، أن نكون نسورًا محلّقة في رحاب الأبديّة، لا تلطّخ جمال أجنحتها بوحول الخطيئة وبتراب الزوال.

 

دعوتنا الإنطلاق إلى منطق الأبديّة، وتحويل عالمنا إلى صورة الملكوت. فإن كان الحبّ هو ملكوت الله، فدعوتنا أن نحيا الحبّ اليوم، لنجعل من عالمنا صورة مسبقة لملكوت الله. نحن نسور اجتمعت حول جسد مكسور لخلاصنا، اجتمعنا حول المسيح الحقيقيّ الذي مات من أجلنا ليعطينا الحياة، ونجتمع كلّ يوم حول جسده المكسور في القربان، سرّ حضوره في العالم، لننال منه زاد الحياة، قوّة تحملنا إلى الملكوت، لنحلّق ونطير، ونعلن من سماء إيماننا، أنَّ يسوع هو المسيح الحقّ، أمامه يسقط كلّ مسيح دجّال.

 

فمنه الخلاص، وله المجد، وأمامه سوف تنحني كلّ ركبة حين يأتي كالومض في الليّل، يجمع المشارق والمغارب في طرفة عين، فيقوم أمامه الأحياء والأموات، ليسمع منه من آمن به: "تعالَ إليّ يا مبارك أبي"، وليسمع منه من اختار مسحاء الكذب: "إليك عنّي يا دجّال"..

 

 

 

 

 

الأب بيار نجم ر.م.م.