الأحد الثاني عشر من زمن العنصرة «الإنجيل

 

 

 

 

إنجيل متى (15/ 21 - 28)

 

إيمان المرأة الكنعانيّة

 

 

إنْصَرَفَ يَسُوعُ إِلى نَواحِي صُورَ وصَيْدا،

 

وإِذَا بِٱمْرَأَةٍ كَنْعَانِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ النَّواحي خَرَجَتْ تَصْرُخُ وتَقُول: «إِرْحَمْني، يَا رَبّ، يَا ٱبْنَ دَاوُد! إِنَّ ٱبْنَتِي

 

بِهَا شَيْطَانٌ يُعَذِِّبُهَا جِدًّا».

 

فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَة. ودَنَا تَلامِيذُهُ فَأَخَذُوا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ قَائِلين: «إِصْرِفْهَا، فَإِنَّهَا تَصْرُخُ في إِثْرِنَا!».

 

فَأَجَابَ وقَال: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيل».

 

أَمَّا هِيَ فَأَتَتْ وسَجَدَتْ لَهُ وقَالَتْ: «سَاعِدْنِي، يَا رَبّ!».

 

فَأَجَابَ وقَال: «لا يَحْسُنُ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ البَنِين، ويُلْقَى إِلى جِرَاءِ الكِلاب!».

 

فقَالَتْ: «نَعَم، يَا رَبّ! وجِرَاءُ الكِلابِ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الفُتَاتِ المُتَسَاقِطِ عَنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا».

 

حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهَا: «أيَّتُهَا ٱلمَرْأَة، عَظِيْمٌ إِيْمَانُكِ! فَلْيَكُنْ لَكِ كَمَا تُريدِين». وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ

 

شُفِيَتِ ٱبْنَتُهَا.

 

 

 

 

(تأمل: لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل طوال الأسبوع)

 

 

 

 

يشكّل لقاء يسوع مع المرأة الكنعانية وقائد المئة الوثني ذروة ثمار الرسالة الإنجيليّة بين الوثنيِّين وهذا ما تجلّى في إيمان المرأة الوثنية المُطلق بيسوع إذ استجاب لإيمانها العظيم وقال كلمة لم يقلها لأحد: "فليكن لكِ كما تريدين".

 

في هذين الحدَثين يتصل يسوع بالعالم الوثنيّ بعد أن تحوّل عن "الشّعب المختار" متّجهاً نحو العالم الوثنيّ الذي كان قبلاً مفصولاً عن العالم اليهوديّ بعدد من التقاليد والعقائد والمحرّمات. لذلك يشدّد الإنجيليّ متى في هذا النصّ على إيمان الكنعانية الذي يشكّل تعليماً واضحاً للتلاميذ وكيف أنَّ هذا الإيمان قد "اغتَصَب" النعمة من يسوع إذ كان لا يحقّ للوثنيِّين الدّخول المباشر إلى الملكوت. ولكن إن آمنوا كما آمنتْ تلك الكنعانية فُتح أمامهم باب الخلاص.

 

"أيتها المرأة عظيمٌ إيمانكِ! فليكن لكِ كما تُريدين".

 

إنّنا نجد في الكتاب المقدّس للمرّة الأولى في تاريخ شعب الله المختار، إنه يُرسل نبيّ إلى مدينة وثنية للقيام برسالة دينية فيها. لذلك نرى في هذا التاريخ أنَّ الأنبياء كانوا يُرسلون دوماً إلى إسرائيل فقط لفضح الخطيئة وللدعوة إلى الإرتداد ولإعلان الخلاص. فالأنبياء كانوا يُرسلون ليهدّدوا ويقوّوا. وعبر هذا التاريخ لم يذهب أحد من الأنبياء إلى الغرباء ليحمل مثل هذه الرّسالة. وإذا كان الأنبياء قد خاطبوا الشّعوب الوثنية، فقد فعلوا ذلك من خلال علاقة هؤلاء الشّعوب بإسرائيل وغالباً من أجل معاقبتهم. فإله الأنبياء هو إله إسرائيل هو إلهٌ يقف إلى جانب شعبه. إلاّ أنّ وحده الوحي النهائيّ لحبِّ الله يهدم الحائط الفاصل بين اليهود والوثنيين إذ لا توجد حدود دائمة بين البشر.

 

فالكثير من هؤلاء الأنبياء قد تهرّبوا من الرّسالة التي انتدبهم لها الله كموسى وإرميا. هذا التهرّب تجلّى في حياة يونان النبيّ الذي يجادل كلمة الله ويرفض المهمّة التي انتدبها إليه. فالربّ إله إسرائيل يهتمّ بأمر نينوى ويونان اليهودي يرفض المهمة الإلهيّة ويرفض الذهاب إلى الوثنيِّين. إلاّ أنّ يونان سيعلم فيما بعد بأنّ الله هو مساوٍ لذاته حتى خارج حدود إسرائيل في قلب الأمم الوثنيّة المعادية لإسرائيل.

 

فإن انصراف يسوع إلى نواحي صور وصيدا لم يكن إلاّ دعوة لجميع الأمم الوثنية إلى الملكوت، إنّه إله الرأفة والرّحمة، إنّه إله الحياة. فمن خلال هذه الدّعوة وكسر هذه الحلقة العنصريّة أراد الإنجيليّ متّى أن يؤكّد بأنّ الوثنيِّين سيصبحون في صلب إهتمامات الكنيسة، لأنّ الله كشف حضوره للوثنيِّين بواسطة المرأة الكنعانية بشخص ابنه يسوع المسيح. فإن عمل يسوع سوف يتخطّى حدود الأُطر القوميّة ويطال الوثنيِّين، ومُلك الله سيمتد إلى خارج حدود إسرائيل، حيث يريد اليهود أن يسجنوه. فيسوع في متّى هو نموذج الكنيسة التي تمارس رسالتها خارج حدود ثقافتها وتعلن الإنجيل لجميع الأمم والشعوب. لقد أصبحت هذه المرأة الوثنيّة ابنة لإبراهيم لا بما مارسته من شريعة، بل من أجل إيمانها إذ أعطاها الله كما تريد، لا ما تريد بعض الجماعات اليهوديّة المتزمتّة التي أرادت حصر الخلاص في الشعب اليهودي وتجاهلت أنّ لا خلاص سوى بيسوع المسيح.

 

لقد تعرّض بولس الرّسول للاضطهاد والسّجن، لأنّه جعل الوثنيِّين على مستوى اليهود وهذا لم يقبل به اليهود فهم شعب الله الخاص والمخلّصون وليس من مكان للشعوب الوثنية إلاّ إذا ساروا وراء اليهود. فالقدّيس بطرس اليهوديّ خاف من أن يمضي إلى الأمم. أمّا بولس فنال نعمة خاصة حيث انفتح على الأمم وأدرك ما جوهر مستقبل الكنيسة. إنّ المرأة فرضت نفسها بصراخها: أتت وسجدت له، تواضعت أمامه وآمنت بقدرته وطلبت إليه أن يُخرج الشيطان من ابنتها. رفض يسوع أوّلاً تلبية طلبها إذ ردّد عليها مثلاً شعبياً مألوفاً: "لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين ويُلقى إلى جراء الكلاب".

 

لقد رفض يسوع طلب هذه المرأة ثلاث مرّات، أوّلاً: لم يجبها بكلمة، ثانياً: أجاب تلاميذه: لم أُرسَل إلاّ إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل"، ثالثاً أجابها: "لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين ويُلقى إلى جراء الكلاب". إن ما قاله يسوع للمرأة لا يمكن فهمه إلاّ إمتحاناً لإيمان تلك المرأة الوثنية، ودلالة على أنّ الخلاص يبدأ أوّلاً باليهود ثمّ يعمّ العالم، ومثالاً لتلاميذه لكي يتحرّروا من التزمّت العنصريّ اليهوديّ ويذهبوا إلى العالم الوثنيّ بعد موته وقيامته. إنّ يسوع يبرّر سلوكه في وجه المعارضات على أنّه مساوٍ لله نفسه.

 

هذا لا يعني سوى أنّ المحبّة الحقيقية تبدأ بالذات "فكلمة أبناء" تشير إلى أبناء البيت وهم اليهود وكلمة "كلاب" تدلّ على الشعوب الوثنية. هذا ما فهمته المرأة حالاً في جوابها فقالت: "نعم يا ربّ وجراء الكلاب أيضاً تأكل من الفتات المتساقط عن مائدة أربابها". أمام هذا التحدّي فتح يسوع كوّة عرفت المرأة أن تستغلها وتدخل منها إلى منطق يسوع من خلال لجاجتها وقوّة إيمانها.

 

لقد فهمت المرأة الوثنيّة بأنّ لها أيضاً مكاناً في هذا البيت ويحقّ لها حتى بالفُتات. إنّ هذا الفهم يستند إلى التخفيف من وطأة المثل اليهودي الذي كان يعدّ اليهود "أبناء الله" والشعوب الوثنية "كلاباً". لقد اعترفت هذه المرأة الحكيمة والمتواضعة بسيادة يسوع، فهي لا تطلب المقاسمة ولا المناصفة، ولكن المشاركة في الفائض. ففي جوابها هذا تخبّئ فعل إيمان كبير يركّز عليه يسوع في خاتمة الحديث بقوله: "أيتها المرأة عظيمٌ إيمانك، فليكن لكِ ما تريدين".

 

فلقب الإيمان يتغلّب على لقب الإنتماء إلى الشعب المختار. فيسوع يشفي من بعيد والشفاء تمّ في الوقت الذي تكلّم فيه، بحيث أن كلمة الله تتم في أوانها. فالنجاسة التي كانت تلازمها كونها وثنية ألغيت وصار يحقّ لها بالفتات لأنّها هي أيضاً ابنة لإبراهيم. إنّ هذا الكلام عن خبز البنين هو دعوة العالم الوثنيّ إلى المشاركة في وليمة الإفخارستيا.

 

فكما كان زكّا مثلاً للتائبين في الشّعب اليهوديّ، هكذا كانت المرأة الكنعانية مثلاً للمؤمنين في العالم الوثنيّ، وهذا من ثمار الرّوح القدس في رسالة الكنيسة على مدى الأزمان. جاء في أعمال الرّسل على لسان بولس الرسول: "فقال بولس وبرنابا بجرأة إليكم أوّلاً كان يجب أن تُبلّغ كلمة الله. أمّا وأنتم ترفضونها ولا ترون أنفسكم أهلاً للحياة الأبديّة، فإننا نتوجّه الآن إلى الوثنيِّين. فقد أوصانا الرّبّ قائلاً: "جعلتك نوراً للامم لتحمل خلاصي إلى أقاصي الأرض" (أع 13 /46-47). لقد أعدّ حدث إيمان المرأة الوثنية الطريق لهذا الوحي وهو إنفتاح الكنيسة على جميع الأمم والشعوب.

 

في إنجيل شفاء المخلّع نرى يسوع يستبق طلباتنا وفي نص إنجيل المرأة الكنعانية يريدنا أن نطلب ونلحّ في الطلب. لقد طلبت المرأة وألّحت رغم تدخّل التلاميذ الذين أرادوا أن يسكتوها. وفي النهاية نالت ما طلبت إذ قرعت ففُتح لها الباب. هذه هي طرق الله الذي يقبل بأن يكون ضعيفاً أمامنا. هذه هي حكمة الله التي تصبح جهلاً أمام البسطاء. لقد رفض يونان، وهو النبي اليهودي، أن يذهب إلى نينوى الوثنية. لقد استغلّ يسوع إيمان الكنعانية المبني على الثقة والتسليم لمحبّة الله لكي يوقظ ضمائر تلاميذه وضمائر الشعب اليهودي ويقودهم إلى الثبات في الإيمان على مثالها. لقد أضحت هذه المرأة ابنة لإبراهيم مثل زكّا لا بما مارسته من شريعة بل من أجل إيمانها الفريد مثل إيمان قائد المئة الذي مدحه يسوع قائلاً: "الحقّ أقول لكم: لم أجد مثل هذا الإيمان عند أحدٍ في إسرائيل" (متى 8/ 10).

 

"معنى الإيمان الذي يبدّل في تصميم الله ويغيّر حياتنا" إنّ لقاء يسوع مع المرأة الوثنية يشكّل لنا تعليماً بارزاً من خلال كلّ ما بتنا نعيشه اليوم في مجتمعنا وخاصّة من خلال علاقتنا الروحيّة مع الله التي لا يمكن أن تنطلق إلاّ من فعالية قوّة هذا الإيمان الذي يتجلّى أمام كلِّ المصاعب والتحدّيات التي غالباً ما تعترض مسيرة حياتنا الروحيّة نحو الله.

 

فإذا كانت لدينا قوّة هذا الإيمان نستطيع عندئذٍ أن نثبت أمام الله عندما لا يجبنا بأيّ كلمة أو تعزية. فإذا كنّا نمتلك ما كانت تمتلكه تلك المرأة الوثنيّة، استطاع هذا الإيمان أن يبدّل في تصميم إرادة الله، واستطاعت تلك الصّلاة أن تبدّل مسلكيّة حياتنا.

 

فالإيمان يقول دوماً لنا أنّه ما من شيء يحدث لنا صدفة كما حدث مع المرأة الوثنيّة. لذا فإن لكلّ شيء معنى وغاية، بحيث أنّ محبّة الله اللامتناهية تحوّل كلّ أحداث حياتنا لأجل خيرنا. فالآلام والنكبات والأمراض غالباً ما يستخدمها الله للإقتراب منه وبذلك تصبح جزءاً من تاريخ خلاصنا، من رحلتنا إلى الله حيث يقودنا الله إلى ذاته ويظهر مخطّطه لكلِّ واحدٍ منّا. لقد ردّد صاحب الرِّسالة إلى العبرانيِّين في هذا الصدد: "يا بنيّ لا تحتقر تأديب الربّ ولا تضعف نفسك إذا وبّخك، فمن أحبّه الربّ أدّبه، وهو يجلد كلّ ابن يرتضيه. فمن أجل التأديب تتألمون وأنّ الله يعاملكم معاملة البنين"(عب 12 /5-7).

 

إنّ المثابرة على الصّلاة بإيمان حيّ ولجاجة صلبة تستطيع أن تقودنا إلى التوبة. فعندما نخلد إلى الصّلاة نحن مدعوّون إلى أن نؤمن دوماً مثل المرأة الكنعانية بأن كلمة الله ثابتة للأبد وأنّ هذه الكلمة لا رجوع عنها وأنّ قوّتها الفاعلة فينا تستطيع أن تعمل ما يفوق كلّ ما نتصوّره بالرّغم من الضعف الذي يكبّلنا. إنّ هذه المرأة الكنعانيّة الغريبة عن شعب الله المختار وعن عهود الموعد استطاعت بقوّة إيمانها ولجاجتها أن تكتشف، رغم صمت يسوع أمام طلبها وصدّ التلاميذ لها، ما أدركه أعمى أريحا وما عجز عن إدراكه الشّعب اليهوديّ.

 

فالتديّن الذي غالباً ما نعيشه في مجتمعنا وفي حياتنا الرّعوية اليوم لا يرتبط أبداً بالحياة الروحيّة ويبقى غريباً عن جوهر الكتاب المقدس والحياة المسيحيّة. إنّ هذا التديّن يجعلنا نعيش دوماً على مستوى الظاهر في علاقتنا مع الله دون أن نلِج إلى الجوهر مثل الكتبة والفريسيّين الذين لم يستطيعوا أن يُدركوا سرّ المسيح مثلما أدركته الكنعانيّة ومثلما أدركه أعمى أريحا.

 

فإنّ الله يدعونا دوماً لكي نتخطّى كلّ ما هو ظاهر وكلّ تديّن فارغ للوصول إلى عمق جوهر العلاقة الكيانية معه. لذلك نحن مدعوّون دوماً إلى أن نترجّى عندما لم يعد يجبنا الله بأية كلمة، دون أن نُلبسه ثوب العجلة وأن لا تكون علاقتنا به علاقة تجاريّة تحكمها في أغلب الأحيان روح المادة.

 

إنّنا في غالبيّتنا نشعر وكأننا في مركب يتيه بين الأمواج، وغالباً ما نفقد الإتّزان عند هبوب الرّياح والأمواج، وغالباً ما نتفوّه بعبارات بعيدة كلّ البعد عن جوهر إيماننا. ففي كثير من الأوقات نحن لا نعرف أن نشكر الله إلاّ بعد حدوث كوارث قد تجنّبناها، أو شفاء من مرض قد حصلنا عليه، أو إمتحان قد نجحنا فيه، لكن مَن منّا يتذكّر أن يشكر الله على الشيء والذي لم نحصل عليه من قبله الذي قد لا يكون لخيرنا. لذا نحن مدعوّون إلى أن نؤمن بأن ما نطلبه بلجاجة من الله سيحقـِّـقه لنا بطريقة تفوق قدرة تفكيرنا الشّخصي.

 

إنّ الله يدعونا دوماً إلى أن ننزح إلى عمق قلوبنا لكي نُدرك ما في ذواتنا ونثبت معه حتى النهاية. لذلك يجب أن نستغل تلك اللحظات المقدّسة التي تبدو أشدّ  ألماً وضياعاً وحزناً في حياتنا والتي تقودنا دائماً إلى معرفة الله الحقيقية. غالباً ما نفشل في متنصف الطريق ونكون ضحيّة التذمّر والشكّ وكأن الله لم يعد في وسط تاريخنا، وهذه كانت تجربة الشّعب اليهوديّ على ممرّ الأجيال: "هل الله في وسطنا أم لا". نحن مدعوّون إلى أن نقبل دوماً بأننا مع الله لا نستطيع أن نحصل حالاً على كلّ ما نشاء، بل يجب أن نتركه يعمل في تاريخنا. نحن مدعوّون إلى أن نؤمن بأنّ كلّ ما نطلبه سيحقـِّـقه الله لنا عاجلاً أم أجلاً حتى لو بدا لنا ذلك مستحيلاً.

 

لقد طلبت المرأة الكنعانيّة بلجاجة أمّا يسوع ظلّ صامتاً أمام طلبها: "فلم يجبها بكلمة". وكان تلاميذه يسألونه ليصرفها. لقد بادرها يسوع بقوله: "لم أُرسل إلاّ إلى الخراف الضّالة من بيت إسرائيل". فبرغم كلّ هذه التحديات الصعبة وبالرّغم ممّا قاله لها يسوع: "لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين ويُلقى إلى جراء الكلاب". لقد تخطّت تلك المرأة كلّ ما كان يعترض وصولها إلى يسوع فجاءت وسجدت وثبتت أمامه حتى النهاية. لقد استطاعت تلك المرأة الكنعانيّة بواسطة قوّة إيمانها ولجاجتها أن تحتمل صمت الله لكي تدخل إلى عمق سرّه.

 

تلك هي طريقة الله في تعامله مع كلّ منّا. فهو الذي يريد أن يختبر دوماً قوّة إيماننا وثباتنا معه إلى النهاية، خاصّة عندما يضع روح العالم وروح الشّرير في طريقنا كلّ مكامن الضعف والخطيئة والشرور. إنّ الله يدعونا دوماً إلى أن نتيقـّـظ لكلِّ تجربة تأتي من الشّرير لأنّه دون التجربة يمكن أن نضلّ الطريق.

 

لقد ردّد مار يعقوب السّروجي في هذا الصدّد: "كما تُخيف الصلاة الشرّير فهو يكره أن يراها. لذلك يحرّك في النفس أفكاراً غير حسنة: يقلقها بالإهتمام بأعمال مختلفة. يصبّ عكره على الفكر لا يدعه يصفو، حتى يفسد نقاء الصّلاة بأيّ حيلة. من يقوم للصّلاة يقوم للعراك، لأنّ الشيطان قائمٌ معه ليؤذيه. تلك عادة الشّرير مع المصلّي: يهاجمه إن استطاع في بيت الله". فعبر الصّلاة واللجاجة نحن مدعوّون إلى أن نسلك طريق الإيمان الذي يقود عبر الآلام إلى الصعود والدّخول في العالم الجديد.

 

لقد عبّر القدّيس أنطونيوس عن هذا بقوله: "على الإنسان أن يتوقـَّع التجربة حتى الرّمق الأخير". فإنّ التجربة تقودنا إلى جوهر الإيمان إلاّ أنها تفترض دوماً إمكانية السّقوط في الخطيئة. عندما كان يدّعي أحد الشيوخ في الصّحراء بأنه قد مات عن العالم، كان يجيبه جاره بلطف: لا تكن يا أخي واثقاً جداً من نفسك إلى أن تفارق هذا الجسد. يمكنك أن تقول الآن لقد متّ، لكن إعلم أنّ الشيطان لم يمت. إنّ عمل الله يبدأ عندما يزول كلّ أمل وينتهي كلّ رجاء. فالبتواضع وقوّة الإيمان ينحدر الله إلى وسط تاريخنا وهذا ما نشهده دوماً في حياة كلِّ اللذين نالوا الشفاء.

 

لقد تدخّل يسوع في حياة كلّ الذين وصل الضعف والمرض والخطيئة في حياتهم إلى الذروة. فالمرض والضعف والخطيئة والموت كلّ هذا يصبح واحة رجاء تتجلّى فيها قدرة الله الذي يحوّل تاريخنا عبر فشلنا. إنّ ملكوت الله لا يؤخذ إلاّ عنوةّ وهو طريق شاق وضيق لكنّه ممكن حتى لو بدا يلامس حدود الإستحالة. إن سلوك الله الغريب هو الذي جعل عمّال السّاعة الأولى يتذمّرون هؤلاء الذين وجدوا ظلماً في مساواتهم بالأجرة من آخر العمّال (متى 20 /1-6). وسلوك الأب الذي يستقبل ابنه الأصغر "الذي كان ضالاَ فوجد"، حيث نرى هذا السّلوك يشكّك الابن الأكبر (لو15 /25-30). ولكن حتى الإبن الأصغر لم يكن يتوقع مثل هذه المعاملة.

 

فإله الكتاب المقدّس هو إله الوحي نفسه، فهو الذي امتحن إيمان إبراهيم عندما طلب منه بأن يذبح ابنه إسحاق على رأس الجبل وظلّ ثابتاً بإيمانه المطلق رغم التجربة القاسية والمحنة الشديدة. لقد امتحن إيمان تلك المرأة الكنعانية لكي يختبر إيمانها وحبّها ووفاءها. فهو يمتحن أيضاً إيمان كلّ منّا لكي ندرك مدى أمانتا له في كلّ ما نعيشه، وعبر كلّ ما نعيشه من فشل وخيبات أمل في علاقتنا مع الله بالرّغم من صمته أمام كلّ طلباتنا وحاجتنا الروحيّة والماديّة. نحن مدعوّون إلى أن نتأمل بإيمان تلك المرأة الوثنيّة وبما قاله يسوع لها: "أيتها المرأة عظيم إيمانك فليكن لك كما تريدين".

 

 

أسئلة للتأمل والتفكير:

 

1- ماذا يعني اليوم لنا هذا القول: "فلم يجبها بكلمة" ما هي مواقفنا أمام صمت الله؟ هل نتراجع ونقع في الشك والتذمّر عندما نشعر بأن الله لم يستجب لنا؟ هل نعي بأنّ اللجاجة في الصّلاة ضرورية روحيّة وبهذا يتجلّى جوهر إيماننا ومدى ثباتنا الذي يقودنا لكي ندخل إلى حياة الله كما دخلت المرأة الكنعانية؟

 

2- ما هي نظرتنا الإيمانية إلى الأديان الاخرى؟ هل هي نظرة حبّ واحترام أم إدانة؟ هل نعي بأن التزمّت الديني ينافي جوهر الحياة المسيحيّة؟ هل ندرك بأنه بين التزمّت والإلحاد هناك شعرة واحدة؟ هل نفسح مجالاً في كنائسنا للغرباء عن بلدتنا ومحيطنا؟ هل نتواضع ونترك لهم بأن يجلسوا في المقاعد الأمامية؟

 

3- "إصرفها، فإنها تصرخ في إثرنا" هل ندرك بأن الإيمان هو إلتزام الإنسان بكلّيته أمام التحدّيات الكبيرة، وأنّ الطريق الذي يقودنا إلى الله غالباً ما يكون محفوفاً بالمخاطر والتجارب؟ وإن الإيمان الحقيقي هو إلتزام فاعل لا يتراجع أمام صمت الله، بل يلحّ على مثال المرأة الكنعانية حتى يصل إلى مبتغاه؟

 

 

 

صلاة: نصرخ في إثركَ ونصلّي إليكَ مع المرأة الكنعانية من قعر الشرّ الذي يسمّرنا ومن الضعف المزمن الذي في جسدنا، يا ابن داود ارحمنا. إنك تحمل حقاً في حلمك وإنسانيتك كرامة بشريّتنا وترفعها نحو سموّ أحكامك وثبات حبّك الذي لا يلين ولا يتبدّل. إنك الإله الذي تتنوّع صداقتك الناعمة بحتميّة صلبة وتلفُّنا برحمة لا حدّ لها في طيّات إرادتك. لا تدعنا ننسى بأنه يجب التفتيش دوماً عنك عبر كلّ شيء رغم الحرمان وخيبات الأمل والألم. اجعلنا نكتشفك عبر اللجاجة ونثبت معك عندما تصمت وعبر ممرّات يومنا المظلمة، فنحملك ونتركك تكبر في كياننا. هبنا إيمان وتواضع تلك المرأة لكي نهتمّ ألاّ نضيّع أيّة فرصة مناسبة لنرتقي إليك عبر كلمة إنجيلك المحيية ونقتات دوماً من الخبز المتساقط من وليمة حبّك، لك المجد إلى الأبد. آمين.

 

 

الأب نبيل حبشي ر.م.م.