الأحد الخامس من زمن العنصرة «الإنجيل

 

 

 

إنجيل متى (10/ 1-7)

 

دعوة الرُّسل

 

 

 

دَعَا يَسُوعُ تَلامِيْذَهُ الٱثْنَي عَشَر، فَأَعْطَاهُم سُلْطَانًا يَطْرُدُونَ بِهِ الأَرْوَاحَ النَّجِسَة، ويَشْفُونَ الشَّعْبَ مِنْ كُلِّ

 

مَرَضٍ وكُلِّ عِلَّة.

 

وهذِهِ أَسْمَاءُ الرُّسُلِ ٱلٱثْنَيْ عَشَر: أَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذي يُدْعَى بُطْرُس، وأَنْدرَاوُسُ أَخُوه، ويَعْقُوبُ بنُ زَبَدَى،

 

ويُوحَنَّا أَخُوه،

 

وفِيْلِبُّسُ وبَرْتُلْمَاوُس، وتُومَا ومَتَّى العَشَّار، ويَعْقُوبُ بنُ حَلْفَى وتَدَّاوُس،

 

وسِمْعَانُ الغَيُورُ ويَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذي أَسْلَمَ يَسُوع.

 

هؤُلاءِ الٱثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُم يَسُوع، وقَدْ أَوْصَاهُم قَائِلاً: «لا تَسْلُكُوا طَرِيقًا إِلى الوَثَنِيِّين، ولا تَدْخُلُوا مَدِيْنَةً

 

لِلسَّامِرِيِّين،

 

بَلِ ٱذْهَبُوا بِالحَرِيِّ إِلى الخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيل.

 

وفِيمَا أَنْتُم ذَاهِبُون، نَادُوا قَائِلين: لَقَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَات.

 

 

 

تأمل:(لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته طوال الأسبوع بتمهّل).

 

 

تحتلّ الدّعوة مكانة مرموقة في صفحات الكتاب المقدّس، وهذا ما يتبيّن لنا من خلال دعوة موسى وأشعيا وإرميا وكلّ الأنبياء في العهد القديم. وهذا ما يتجلّى أيضاً في دعوة الرُّسل الإثنيّ عشر في العهد الجديد. تستهدف كلّ هذه الدّعوات غاية واحدة وهي الإرسال للتّبشير. لذا فالدّعوة هي الوسيلة التي جمع بها يسوع الإثني عشر حوله حيث كشف لهم عن ذاته وأرسلهم إلى كلّ الشعوب.

 

لذلك يشدّد الإنجيليّ متّى في هذا النصّ على عمق جذور الرّسالة الإنجيليّة ومضمونها وعلى دعوة الرّسل الذين انطلقوا بعد العنصرة ليردّوا الشعوب عن طريق الضَّلال. فالرّسل الإثني عشر هم الشّهود المميّزون لقيامة يسوع من الموت في الجماعة المسيحيّة الأولى الذين اختارهم إلى هذا العمل الإلهيّ فأشركهم في سلطانه لكي يطردوا الأرواح ويشفوا النّاس من كلّ مرضٍ وعلّة. 

 

"ويشفون الشّعب من كلّ مرضٍ وكلّ علّة" عندما نتصفح كتب العهد القديم نرى أنّه كان لدى جميع الأنبياء تلاميذ يُكملون رسالتهم بعد مماتهم. فلقد جاء يسوع في خطّ الأنبياء واختار تلاميذاً له مثل سائر الأنبياء ليكونوا معه ويُكمّلوا رسالته بعد أن يُحكم عليه بالموت على الصَّليب.

 

لذلك اختار يسوع تلاميذه الإثنيّ عشر وأولاهم سلطانه نفسه لكي يطردوا به الأرواح النجسة ويشفوا النّاس من كلّ مرض وعلّة، وبهذا أصبحت هناك وحدة متكاملة بين يسوع وتلاميذه فأرسلهم بعد العنصرة من أورشليم أُمّ الكنائس ليبشّروا كلّ الشّعوب.

 

إنَّ هذا الإختيار للرّسل الإثنيّ عشر يوازي قيام جماعة العهد القديم، أسباط إسرائيل الإثنيّ عشر. هذا ما أكّده يسوع لتلاميذه بقوله: "ستجلسون أنتم على اثنيّ عشر عرشاً لتدينوا أسباط إسرائيل الإثنيّ عشر" (متى 19/ 28).

 

كلّ هذا يرمز إلى الإنتصار المسيحانيّ الذي سوف يحقـِّـقه يسوع بواسطة سلطانه الذي ناله من لدُن الآب على إسرائيل في نهاية الأزمنة: "لقد اقترب ملكوت السّماوات". لذا كان على الرّسل الإثنيّ عشر أن يعلنوا اقتراب هذا الملكوت المُنتظر. أمام هذه المهمّة الرّسوليّة كان لا مجال للتأخّر لأنّه سيأتي الملك المسيحانيّ الذي يملك على الكون كلّه كما تحدّث عنه النبيّ دانيال (7/ 13).

 

فهذا المجيء يبقى غير مُحدّد ولكنّ الملكوت سيتحقـَّق في الواقع إنطلاقـًا من موت يسوع وقيامته، أي إنَّ هذا الملكوت هو شخص يسوع المسيح نفسه، وهذا ما يشير إلى أنَّ ملكوت الله أصبح في متناول كلّ إنسان. لقد طلب يسوع من تلاميذه بحسب الإنجيليّ متّى بأن يذهبوا أوّلا ً إلى العالم اليهوديّ. فقد اختارهم ليبشروا سائر الشعوب برسالته الخلاصيّة، وهذا لم يحدث إلاّ بعد موته وقيامته.

 

لذلك أعلن الكتاب المقدّس بكلّ جلاء أنَّ رسالة الخلاص هي لكلّ الشّعوب بغضِّ النظر عن العرق والجنس والأصول. يشدّد الإنجيليّ متّى على أنَّ التوصيات التي أعطاها يسوع لرسله بأن تكون الرّسالة محصورة في الإطار اليهوديّ فقط تستبعد كُلّاً من الوثنيِّين والسامريِّين. فالتلاميذ سيفعلون مثلما فعل معلّمهم يسوع حيث أنّهم سيذهبون أوّلا ً إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل (حز 34/ 4).

 

لم يرَ الإنجيليّ متّى في هذا القول إعلاناً عن مبدأ مستمرّ من أجل الرّسالة، وإلاّ لعارض الوصيّة الأخيرة التي أوصى بها يسوع: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (متى28/ 19)، بل رأى القدّيس متّى في هذا القول عن استبعاد الوثنيِّين والسامريِّين تعبيراً عن تدبير مؤقت بحيث أنَّ هذا التّدبير يبقى حتى يتحقـَّـق انتصار القيامة التي سوف تشكّل أداة الخلاص من أجل جميع البشر ونقطة الإنطلاق من أجل التبشير في العالم أجمع. لذلك جاء حدث القيامة وقلب حياة الرّسل رأساً على عقب ودفعهم إلى الرّسالة حتّى أقاصي الأرض.

 

فإحياء الموتى لم يكن إلاّ علامة لقيامة يسوع من بين الأموات، وشفاء العميان على أنّه نور العالم وتكثير الخبز على أنّه خبز الحياة وإخراج الشياطين على انتصاره عليهم بموته وقيامته. لذا أوصى تلاميذه بشفاء المرضى فأرسلهم لهذه الخدمة الخلاصيَّة: "أولاهم سلطاناً يطردون به الأرواح النجسة ويشفون النّاس من كلّ مرضٍ وعلة". كلّ هذه الخدمة لم تكن إلاّ تمهيداً للرّسالة الخلاصيّة التي سيوصي تلاميذه بها بعد قيامته وهذا ما ستقوم به الكنيسة على مرِّ الأجيال حتّى يومنا هذا.

 

إنَّ كرازة يسوع وتلاميذه في الجليل قد وجهّت أنظار شعب إسرائيل إلى تدخّل الله الحاسم والنهائيّ في التّاريخ، وهو تدخّل وعد به النبيّ أشعيا في نهاية الأزمنة (أش52/ 7)، ورافقته معجزات يسوع من أشفية وطرد شياطين وتبشيره بملكوت الله الخلاصيّ. وهذا ما قام به الرّسل الإثنا عشر بعد أن نالوا أمراً بشفاء المرضى وطردِ الشّياطين حيث مارسوا هذا السلطان الذي منحهم إيّاه يسوع. لذلك يحتلّ شفاء المَرضى نفساً وجسداً جزءاً كبيراً من خدمة يسوع الخلاصيّة على هذه الأرض.

 

إنَّ خدمة شفاء المرضى ليست ثانويّة في رسالة يسوع الخلاصيّة، بل لها أهميّة كبيرة بنظره وعمله، لهذا أعطى تلاميذه السّلطان وكلّفهم بأن يقوموا بهذه الخدمة الخلاصيّة إذ باتوا من خلالها يشكّلون نواة الكنيسة الأولى. فمن خلال هذه الخدمة أراد يسوع أن يُظهر وجه الله الرّحيم والمحبّ والغفور لكلّ إنسان أكان من شعبه المُختار أم من الشّعوب الوثنيّة.

 

لذلك إنَّ الأشفية التي كان يُجريها يسوع والتي أوصى بها تلاميذه لم تكن إلاّ علامة لمجيء ملكوت الله على الأرض ولإندثار قوى الشرّ المُتربّصة بالإنسان. إنَّ ما قام به يسوع وما أوصى به تلاميذه، مارسته الكنيسة بواسطة السّلطان المُعطى لها والذي أضحى يُشكّل مصدر كلّ شفاء للنفس والجسد في آن معاً.

 

كيف يمكن أن نكون رسلاً في عالمنا اليوم؟ إنَّ عالمنا اليوم كثيراً ما بات يعيش ويمارس الرّوح الوثنيّة. لذلك نحن مدعوُّون إلى أنْ نجيبَ على دعوة الله لنا إلى القداسة كما دعا الرُّسل ويجب ألاّ نتجاهل هذه الدّعوة.

 

لذا يقول القدّيس مكسيميليان: "التّجاهل أكبر خطيئة". وهذا ما يتطلّب منّا اليوم الوعي واليقظة لكي نضحي رُسُلا ً حقيقيين نحن مدعوُّون إلى أن نكون مستعدّين للمُجازفة في مواقفنا والتزامنا ومبادئنا وسُمعتنا وشُهرتنا وبمركزنا الإجتماعيّ وبسعادتنا التي تأتينا من الخارج، لكي نستطيع أن نشهد للحقيقة وندافع عنها أمام جميع النّاس.

 

إنَّ كلّ إنسان يموت ولكن ليس كلّ إنسان يعيش، فما يجعلنا نعيش هو أمانتنا لحقيقة الله وسط هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم. تقول العذراء مريم في إحدى ظهوراتها: "لن تعرفوا السَّعادة إذا عشتم في الخطيئة". فبقدر ما ننتظر بأن تأتينا السّعادة من الخارج ومن الأشياء أو من الأشخاص، نحكم على أحلامنا بالموت، بحيث أن السّعادة الحقيقيّة لا تنبع إلاّ من الداخل أي أنَّ الله مصدرها.

 

يُخبر الصحافيّ سدني هارس قصّة حدثت لصديق له مع بائع صحف: "سلّم صديقه على بائع الصحف بكلّ تهذيب، فبادره هذا الأخير بردّ قاسٍ دافعاً بالصحيفة في وجهه. أخذ صديقه هارس الصحيفة بكلّ تهذيب وابتسم متمنيّاً لبائع الصحف وقتاً طيّباً.

 

وتابع الصديقان طريقهما، ودار بينهما في الطريق الحديث التالي: سأل هاريس صديقه: هل يتعامل معك بهذه الوقاحة دائماً؟ نعم بكلّ أسف. وهل أنت تبادله بالتهذيب نفسه؟ نعم. لِمَ أنت لطيف معه إلى هذا الحدّ، مع أنّه يعاملك عكس ذلك تماماً؟ لأنّي لا أريده أن يقرّر هو عنّي كيف سأتصرّف أنا. هكذا فبطول أناتنا وصبرنا نظهر لجميع النّاس بأنّنا تلاميذ.

 

الأسرار المقدّسة هي اليوم وحدها مصدر شفاء النفس والجسد فبما يختصّ بسرِّ الإعتراف اليوم يوجد هناك غالبية من الرّجال لا يمارسون قبول هذا السّر دوماً باعتقادهم أن ممارسته تعود للأطفال وللنساء فقط. لذلك نرى أنَّ هؤلاء الرّجال يجلسون عادة في مؤخرة الكنيسة دون أن يتقدّموا من سرّي الإعتراف والمناولة.

 

وهناك غالبيّة من النّاس المتصلّبين والمتزّمتين بأفكارهم لا يُقبلون إلى المناولة كونهم يدّعون بأنّهم غير مُستحقـِّـين بأن يتناولوا جسد ودمّ يسوع المسيح. ونرى البعض الآخر منهم أيضاً لا يتناولون القربان المقدّس إلا عند خروجهم رأساً من كرسي الإعتراف فيذهبون حالاً إلى المناولة باعتقادهم إنّهم لا يستحقون هذا السّرّ إلّا في هذه الحالة الإستثنائيّة فقط، بحيث إنّهم لم يخرجوا من الكنيسة ولم يقترفوا بعد أيّ خطيئة.

 

إنّ كلّ هذه المُعتقدات المُلتوية والإنحرافات الكاذبة هي دون أي شكّ بعيدة كلّ البُعد عن مفهوم روحانيّة الإنجيل وعن قواعد الحياة المسيحيّة إذ إنّها ليست صادرة عن روح الله. إنَّ كلّ هذه الشعوذات يبعثها روح الشرّ في تلك النفوس بحيث تضحي نوعاً من التّجديف على الرّوح القدُس السّاكن فينا والذي يُرشدنا إلى الحقيقة كلّها.

 

إنَّ مثل هؤلاء المُؤمنين وبسبب أفكارهم المُتحجّرة لم يستطيعوا أن ينفتحوا بعد على رحمة الله ومحبّته وغفرانه ولا على عمل الرّوح القدُس الذي يقودهم إلى سِرِّ الشّفاء التّام ويحرّرهم من كلّ هذه الأمراض النفسيّة والعلّل العقليّة والأرواح النجسة.

 

لذلك نحن مدعوُّون اليوم إلى أن نفهمَ بأنَّ الحياة المسيحيّة هي حياة اعتدال واتّزان وهذين العاملين يقوداننا دوماً إلى طريق القداسة والكمال. طبعاً لا أحد منّا يستحِقّ أن يتناول جسد ودمّ يسوع ولا وحتّى أن يتقرّب من هذه المائدة المقدّسة، لكنّ إله المحبَّة ذاته يدعونا لكي نأكل جسده ونشرب دمه. لذا يردّد يسوع على مسامعنا قائلا: "الحقّ الحقّ أقول لكم: إذا لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فلن تكون فيكم الحياة" (يو6/ 53).

 

طبعاً إنّنا نتناول القربان المُقدّس ليس لأنّنا قدّيسون، بل نتناول هذا الجسد ونشرب هذا الدّم لكي نقدّس ذواتنا على حدّ قول يسوع نفسه: "ليس الأصحّاء بمحتاجين إلى طبيب بل المَرضى" (متى9/ 12). فإذا كنّا نتقرّب من المناولة ولم يكن لنا أيّة رغبة في التوبة أو نرغب بأن نظلّ على ما كنّا عليه، دون أن نسعى لإصلاح سيرتنا نكون كمن يتناول دينونة لنفسه وهذا ما كان يردّده بولس الرّسول قائلا: "فمن أكل خبز الرَّبّ أو شرب كأسه ولم يكُن أهلا ً لهما فقد أذنب إلى جسد الرَّبِّ ودمه" (1قور11/ 27). 

 

لذلك تعلّمنا الكنيسة وتدعونا بأن نتقرّب إلى ممارسة سرّ المصالحة أقلّه كلّ خمسة عشر يوماً. فعندما نحتفل بسرّ الإفخارستيّا وإذا كنّا قد اقترفنا بعض الخطايا المُميتة فنحن مدعوُّون إلى التقدّم من سِرّ المُصالحة قبيل المناولة. وإذا كنا قد اقترفنا بعض الخطايا العرضيّة فنحن مدعوُّون إلى أن نتلو فعل الندامة ثمّ نذهب إلى المُناولة، لأنَّ تناول جسد ودم يسوع هو ذروة العمل الإفخارستيّ الذي هو المكان الوحيد الذي يتمُّ فيه الإتّحاد بيننا وبين الله.

 

إنّ سرّ مسحة المَرضى هو سِرّ شفاء النفس والجسد: "ويمسكون الحيّات بأيدهم، وإن شربوا شراباً قاتلاً لا يؤذيهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون" (مر16/ 18). وهذا ما يردّده أيضاً القدِّيس يعقوب: "إنَّ صلاة الإيمان تُخلّص المريض والرَّبّ يُعافيه. وإذا كان قد ارتكب بعض الخطايا غُفرت له"(يع5/ 15-16). إنَّ الكثير من النّاس المرضى عندما يعرفون أنَّ أجلهم أخذ يقترب لا يستطيعون أن يتقبّلوا هذا الواقع المرير في البداية. بل يمّرون بمراحل نفسيّة مُتعدّدة وأولى تلك المراحل مرحلة الإنكار أي عدم تقبّل مرضهم: "لا يمكن أن يحدث لي ذلك".

 

وبعد هذه المرحلة يدخل المريض في فترة غضب ونقمة: "لِمَ أنا؟" وغالباً ما ينقل هذا الغضب إلى أفراد عائلته حيث يصبح إرضاء المريض من المستحيلات. فكأنّه يقول لمن حوله: "أنا سأموت قريباً وأنتم باقون هنا". ثمّ تليها مرحلة الرّضوخ للواقع والشّعور بشيء من القنوط والإنهيار: "نعم أنا الذي سيموت قريباً، هذا الواقع لا مفرّ منه. وليس لي سوى أن أرضخ لهذا الواقع ولكنّي أرفض أن أموت". لذلك يمرّ المريض بمرحلة من التردّد والحزن الصّامت إذ إنّه يواجه حقيقة الموت المؤلمة. وإنّ الشّفاء النفسيّ هو امتداد للشّفاء الجسديّ بحيث يعاني المريض كما رأينا مرضاً نفسياً كانهيار عصبيّ واكتئاب نفسيّ وحالة من التذمّر والغضب والرّفض لما يعيشه.

 

ففي هذه الحالة وبواسطة سرّ مسحة المرضى يمكنه أن يحصل على الشّفاء. إذ إنّ الله يلهمه أنّ لآلامه معنىً وغنىً وعمقاً، بحيث لم يعد يظهر الألم للمتألم المريض عبثاً ولا عقيماً، بل يحظى من خلال سرّ الشّفاء بروحانيّة فائقة المغزى تنبع من الإنجيل. هذا ما يساعده على أن يتحمّل آلامه ويتقبّلها بصبر ومحبّة وفرح بحيث يُدرك من خلال نعمة هذا السِّرّ بأنّه يشارك في آلام المسيح ويكفّر عن خطيئته وخطايا العالم،  فيدرك بأنّه يشارك المسيح فداءه العالم.

 

فيشعر المريض من خلال قبول نعمة هذا السرّ بأبوّة الله ورحمته ورأفته وغفرانه، كما يُشعره بمحبَّة الذين حوله من أهل وأصدقاء الذين اشتركوا في السّر معه يتحمّلون بمحبّة كبيرة مسؤوليتهم عنه. فلو كان الإنسان المتألم متروكاً وقواه النفسيّة، لفقد الأمل في الحياة وفي نفسه وفي الله وفي الآخرين. لقد ردّد سيمون قايل: "الفرح والألم لا يتناقضان، بل المناقضة في أنواعهما: فهناك فرح وألم لا يُطاقان كأنّهما من صنع جهنّم، وهناك فرح وألم يشفيان فهُما من صنع السّماء".

 

أمَّا سرّ المسحة فيمنح المريض رجاء حضور الله في وسط آلامه. فالشفاء الجسديّ والنفسيّ يتكلّل في الشّفاء الرّوحي. فسرّ مسحة المرضى يرتبط إرتباطاً وثيقاً بمغفرة خطايا المؤمن المريض. عندما شفى يسوع المقعد قال له: "غُفرت لك خطاياك قم فاحمل فراشك واذهب إلى بيتك" (مر2/ 16). لذلك يقول فيلسوف برازيلي: "لقد كثرت الأمراض النفسيّة في عالمنا اليوم عندما لم يعد الكهنة يمكثون وقتاً طويلاً في كراسي الإعتراف".

 

فالشّفاء الجسديّ والنفسيّ هو إذاً علامة للشّفاء الرّوحي. فإذا كان يسوع قد شفى الأجساد والنفوس: "من كلِّ مرض وعلّة" فلكي يعبّر عن إنّه يشفي الأرواح من سلطان الخطيئة والشرّ ومن قبضة الشرّير. فالموت ثمرة الخطيئة والألم على أنواعه هو مدخل إلى الموت وهذا لا يعني أنَّ الألم عقاب على الخطيئة الشخصيّة، طالما قد ردّد يسوع أمام تلاميذه: "فسأله تلاميذه: رابّي من خطئ أهذا أم والداه، حتى ولد أعمى؟ أجاب يسوع لا هذا خطئ ولا والداه، ولكن كان ذلك لتظهر فيه أعمال الله" (يو9/ 2-3).

 

لذلك يبقى الألم نتيجة لقوى الشرّ العاملة فينا وفي العالم. فإذا كان يسوع قد انتصر على المرض، فانتصاره هو إشارة إلى انتصاره على أصل المرض أي على الخطيئة العاملة في البشر. يقول سيزار دارل: "من ابتلي بمرضٍ فليقبل جسد المسيح ودمه وليطلب بتواضع وإيمان من الكهنة الزّيت المقدّس وليمسح به جسده الضعيف". ويضيف أيضاً: "إذن عندما نقدر أن نجد خيراً مزدوجاً في الكنيسة، فلماذا بعض التّعساء يتصرّفون بنوع أن يجلبوا عليهم وابلاً من الشّرور بالرّجوع إلى السّحرة أو الينابيع والأشجار، أو بالتعويذات الشيطانيّة والرُقاة والمُشعوذين، أو العرّافين والمُبصّرين"؟

 

ففي النهاية يبقى بين الألم والمرض والسّعادة سرّاً من أسرار الله الذي يدعونا في كلّ ما نعيشه إلى أن نكتشف حقيقته. لذلك فلا بدّ لنا من مسيرة روحيّة طويلة نقوم بها اليوم على ضوء تاريخ الكتاب المقدّس وتاريخنا الشخصيّ وعلى ضوء كلّ ما تقدّم لكي نصل إلى ما وصل إليه القدّيسون، فنردّد مع القدّيسة تريزيا الطفل يسوع: "أصبحتُ لا أستطيع التألم، لأنّ كلّ ألم أصبح لي مصدر عذوبة".

 

 

 

أسئلة للتأمل والتفكير:

 

1- ماذا يعني لنا اليوم هذا القول: "ويشفون النّاس من كلّ مرضٍ وكلّ علّة؟ هل ما زلنا نؤمن بنعمة سرّ مسحة المرضى وغفران الخطايا، وبخلفاء الرّسل والتلاميذ الذين هم الأساقفة والكهنة الذين يمثلون كنيسة اليوم التي كلّفها يسوع المسيح بإتمام عمله الخلاصيّ؟ 

 

2- هل نؤمن بأن المرض والألم هما فرصة لنا لكي نكتشف حقيقة يسوع الخلاصيّة ونرتبط به إرتباطاً مُجدّداً؟ هل ندرك بأنّ عيش حالة المرض والآلام بعيداً عن الإيمان والأسرار المُقدسة يقودنا إلى التذمّر واليأس والحزن والإنهيار وهذا ما يفضي بنا إلى الموت النفسيّ والروحيّ؟

 

3- كيف نفهم معضلة الخطيئة والشرّ؟ هل ندرك بأنّه لا نستطيع أن نضع حداً لضعفنا وخطيئتنا إلاّ من خلال دخولنا لكرسي الإعتراف الذي بممارستنا له نكون في وسط ملكوت الله، بحيث نتحرّر من كلّ مرض وعلّة نفسيّة ومن قوى الشرّ التي تصّوب دائما سهامها نحو مسيرة خلاصنا؟ 

 

صلاة: نصلّي إليك أيّها الرّبّ يسوع يا من دعوت رسلك الضّعفاء وأوليتهم سلطاناً يضمّدون به جراح البشريّة الضالّة والمتألمة. إجعلنا نتتلمذ لك كلّ يوم من مسيرة تاريخنا لنكون رسلاً لا ننزح إلاّ إلى عمق ذواتنا التي كثيراً ما تكون موصدة أمام عبور ملكوتك إلينا. إجعلنا ندرك سرّ صمتك عندما نغوص بلجّة الألم والتجربة حيث لم يعد في متناولنا سوى أنّك الإله الغائب فينتابنا كلّ شعور بأنّنا نهلك. أمام جسامة عِللنا لا تدعنا ننسى أبداً أنك تتكلّم أيضاً عندما تصمت. كذلك أعطنا، عندما نكون منتظرين مجيئك، أن نثق بأنّك تصمت عن حبّ كما تتكلم عن حبّ. وهكذا فسواء صمتَّ أو تكلّمت، فأنت الآب نفسه، كما أنّك القلب الأبويّ نفسه سواء أرشدتنا بصوتك أو رفعتنا بصمتك. لك المجد إلى الأبد. آمين.

 

 

 

الأب نبيل حبشي ر.م.م.