الأحد الرابع بعد الدنح: إعتلان سرّ المسيح للسامريّة وللشعب السامريّ «الإنجيل

 

 

 

الأحد الرابع بعد الدنح: إعتلان سرّ المسيح للسامريّة وللشعب السامريّ

 

 

إنجيل القدّيس يوحنّا (4/ 5 -7، 9/ 26)

 

 

 

فَأَتَى إِلى مَدِينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَار، عَلى مَقْرُبَةٍ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَاهَا يَعْقُوبُ لٱبْنِهِ يُوسُف،


وفِيها نَبْعُ يَعْقُوب. وكَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ المَسِير، فَجَلَسَ عِنْدَ النَّبْع، وكَانَتِ السَّاعَةُ نَحْوَ الظُّهْر.


وجَاءَتِ ٱمْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاء، فقَالَ لَهَا يَسُوع: «أَعْطينِي لأَشْرَب»؛


فقَالَتْ لَهُ ٱلمَرْأَةُ السَّامِريَّة: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي أَنْ تَشْرَب، وأَنْتَ يَهُودِيّ، وأَنَا ٱمْرَأَةٌ سَامِرِيَّة؟». قَالَتْ هذَا، لأَنَّ اليَهُودَ لا يُخَالِطُونَ السَّامِريِّين.

 


أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهَا: «لَو كُنْتِ تَعْرِفِينَ عَطِيَّةَ الله، ومَنِ القَائِلُ لَكِ: أَعْطينِي لأَشْرَب، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا».


قَالَتْ لَهُ المَرْأَة: «يَا سَيِّد، لا دَلْوَ مَعَكَ، والبِئْرُ عَمِيقَة، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ المَاءُ الحَيّ؟


هَلْ أَنْتَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوب، الَّذي أَعْطَانَا هذِهِ البِئْر، ومِنْهَا شَرِبَ هُوَ وبَنُوهُ ومَاشِيَتُهُ؟».


أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهَا: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا المَاءِ يَعْطَشُ مِنْ جَدِيد.


أَمَّا مَنْ يَشْرَبُ مِنَ المَاءِ الَّذي أُعْطِيهِ أَنَا إِيَّاه، فَلَنْ يَعْطَشَ إِلى الأَبَد، بَلِ المَاءُ الَّذي أُعْطِيهِ إِيَّاهُ يَصِيرُ فيهِ نَبْعَ مَاءٍ يَتَفَجَّرُ حَيَاةً أَبَدِيَّة».


قَالَتْ لَهُ المَرْأَة: «يَا سَيِّد، أَعْطِنِي هذَا المَاء، حَتَّى لا أَعْطَش، ولا أَعُودَ إِلى هُنَا لأَسْتَقِي».


قَالَ لَهَا: «إِذْهَبِي، وٱدْعِي زَوْجَكِ، وعُودِي إِلى هُنَا».


أَجَابَتِ ٱلمَرْأَةُ وقَالَتْ لَهُ: «لا زَوْجَ لِي». قَالَ لَهَا يَسُوع: «حَسَنًا قُلْتِ: لا زَوْجَ لِي.


فَقَدْ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاج، والَّذي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. صَدَقْتِ في مَا قُلْتِ».


قَالَتْ لَهُ ٱلمَرْأَة: «يَا سَيِّد، أَرَى أَنَّكَ نَبِيّ.


آبَاؤُنَا سَجَدُوا في هذَا الجَبَل، وأَنْتُم تَقُولُون: إِنَّ المَكَانَ الَّذي فَيهِ يَجِبُ السُّجُودُ هُوَ في أُورَشَلِيم».


قَالَ لَهَا يَسُوع: «صَدِّقِينِي، يَا ٱمْرَأَة. تَأْتِي سَاعَةٌ، فِيهَا تَسْجُدُونَ لِلآب، لا في هذَا الجَبَل، ولا في أُورَشَلِيم.


أَنْتُم تَسْجُدُونَ لِمَا لا تَعْلَمُون، ونَحْنُ نَسْجُدُ لِمَا نَعْلَم، لأَنَّ الخَلاصَ هُوَ مِنَ اليَهُود.


ولكِنْ تَأْتِي سَاعَة، وهِيَ الآن، فِيهَا السَّاجِدُونَ الحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِٱلرُّوحِ والحَقّ. فَعَلى مِثَالِ هؤُلاءِ يُريدُ الآبُ السَّاجِدينَ لَهُ.


أَللهُ رُوح، وعَلى السَّاجِدِينَ لَهُ أَنْ يَسْجُدُوا بِٱلرُّوحِ والحَقّ».


قَالَتْ لَهُ ٱلمَرْأَة: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَشِيحَا، أَيِ المَسِيح، آتٍ؛ وعِنْدَمَا يَأْتِي فَهُوَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيء».


قَالَ لَهَا يَسُوع: «أَنَا هُوَ، أَنَا المُتَكَلِّمُ مَعَكِ».

 

 

 

 

 

تأمل  (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته طوال الأسبوع بتمهّل).

 

 

 

 

 

يتفرّد الإنجيليّ يوحنّا بذكر مرور يسوع في السّامرة ولقائه مع المرأة السامريَّة. هذا الحدث يُظهر الإعتلان الواضح والصريح من قِبل يسوع  للمرأة السامريَّة بأنَّه المسيح المنتظر: "أنا هو". وهذا الكشف عن هوّيته كان لإمرأة سامريَّة من الخراف الضالة من آل إسرائيل.

 

 

 

 فمن خلال تلك اللقاءات التي تمّت بين يسوع ونيقوديمس والمرأة السامريَّة ومرافق الملك، يظهر أنَّ هناك تكاملاً شموليًّا. فنيقوديمس يمثّل الخطّ التقليديّ اليهوديّ والمرأة السامريَّة تمثّل الخطّ اليهوديّ المنشقّ ومرافق الملك يمثّل العالم الوثنيّ. عبر هذه الشموليّة لرسالة يسوع الخلاصيّة يقدّم لنا يوحنّا في هذا النصّ صورة واضحة عن كيفيّة الوصول إلى الإيمان الحقيقيّ وعن تخطّي الحواجز العديدة التي تعترض وتقف في وجه كلِّ مؤمن يبحث عن حقيقة الله المُطلقة في هذا الوجود.

 

 

 

 

"كُلُّ من يشرب من هذا الماء يعطش من جديد" بعد حواره مع نيقوديمس، يخبرنا الإنجيليّ يوحنّا بأنَّ يسوع ذهب إلى اليهوديَّة مع تلاميذه فمكث هناك وكان يعمّد في عين نون لكثرة الماء فيها. ثمّ ترك اليهوديَّة ورجع إلى الجليل والبلوغ إلى الجليل يحتّم عليه إختيار إحدى الطريقين: الواحدة تصعد في وادي الأردن، والثانية تجتاز السامرة، وإنّما كانوا يتحاشونها بسبب الخلاف العميق بين اليهود والسامريِّين.غير أنَّ يسوع اختار الثانية حيث أراد أن يُظهر شموليَّة الديانة الجديدة "في الرُّوح والحقّ" التي جاء يؤسِّسها. ولأجل ذلك كان عليه أن يُعلنها عند السامريِّين خارج حدود الديانة اليهوديَّة.

 

 

 

 بعد مرور يسوع في السامرة: "وكان قد تعب من المسير قعد على حافّة بئر يعقوب" حيث التقى بتلك المرأة السامريَّة الغريبة والخاطئة ويُكشف لها أبعاد سِرّ ملكوت الله. في هذا اللقاء تواجه المرأة السامريَّة يسوع بالمحرّمات القاسية وظلم المجتمع اليهوديّ في معاملة المرأة السامريَّة التي ترفض بعنف طلب يسوع للشراب. لا يبالي يسوع باعتراضها فيجيبها بطريقة الذي يستطيع أن يعطيها الماء الحيّ التي تخطئ فهمه ولا تعي معناه العميق. فتسأله بازدراء إذا ما كان يفكر في نفسه بأنّه أعظم من يعقوب. إلاّ أنَّ يسوع يشدّد ويشرح لها بأنّه يتكلّم عن الماء الحيّ الذي يفيض فيها للحياة الأبديَّة. هذا الماء الذي يضع حدًّا نهائيًا للعطش الروحيّ الذي يصبو إليه الإنسان.

 

 

 

لم يعطِ يسوع لتلك المحرّمات أهميَّة، بل أخذ زمام المبادرة وقال: "أسقيني". فينبوع الحياة بالنسبة إلى اليهوديّ المؤمن هو بالوقت نفسه واحد: الله والحكمة والشريعة، والبئر ترمز إلى الشريعة. فالمرأة السامريّة بدأت تكتشف هويّة يسوع وظنّت أنّها ستكتشفها في خط عجائب الله لشعبه، هذه المرأة كانت بعيدة عن الماء الحيّ الذي يُعطيه يسوع، وأقوال يسوع تفوق مداركها.

 

 

لذلك لا بدّ للانسان من أن يقبل في ذاته ما ينطوي عليه من الجهل والظلام لكي يدرك النّور والمعرفة. فمن خلال هذا الحوار يظهر جهد يسوع الرامي إلى أن ينقل المرأة السامريّة من الرَّجاء الميت إلى الإيمان الحقيقيّ. فإنسانية وألوهيَّة يسوع تنحدر معًا إلى مستوى كلِّ إنسان ولا تخطئ هدفها ولا تهمل ما من شأنه أن يفتح الإنسان على ذاته، إذ تكشف له حاجته إلى الخلاص من خلال حرّيته لكي تحرّره ممّا يقيده من البؤس والشقاء.

 

 

 

 يتضح لنا أنَّ هذه المرأة تعاود الكرّة لتبحث عن موضوع آخر حتى تُبعد أنظار يسوع عن مشكلتها الشخصيّة، فتتطرّق إلى موضوع مجيء المسيح في المستقبل القريب. غير أنّ يسوع لا يهملها لحظة، ويواجهها في جوابه "أنا هو" ويحملها على البحث عن الإيمان الحقيقيّ. نرى أوّلاً تعجّب هذه المرأة وتعثّر حوارها مع يسوع: "كيف تطلب منّي أن تشرب وأنت يهوديّ وأنا إمرأة سامريّة؟" نشهد بأنَّ الحوار قد تعثّر بسبب وقع المحرَّمات التي تثقّل على المتحاورَين. وفي هذا الإطار عينه نتذكّر عبارة سمعان الفريسيّ إذ رأى المرأة الخاطئة ساجدة عِندَ قدميّ يسوع: "لو كان هذا الرجل نبيًّا لعلم من هي المرأة التي تلمسه" (لو7/ 39).

 

 

 

هذا ويشدّد يوحنّا على وجوب اعتراف المرأة السامريّة بواقعها الخاطئ، ومواجهة ذاتها. لذا تسعى إلى أن تنتقل إلى مستوى دينيّ باحثة عن مخرج لمأزقها ثمّ تحمل محاورها على الدخول في مشكلة لاهوتيّة حاصلة بين اليهود والسامريِّين. قالت هذه المرأة: "ليس لي زوج" لقد قادها يسوع من خلال الحِوار إلى الإقرار الكامل: "أصبتِ إذ قلت: ليس لي زوج. فقد اتخذت خمسة أزواج، والذي يصحبك اليوم ليس بزوجك".

 

 

 

 

لقد تعرّى قلب تلك المرأة فانكشفت ولكنّها لم تشعر بالذلّ أو بأنّها مرفوضة أمام بهاء نور يسوع الساطع. إنَّها الطريقة الوحيدة للخروج من الخطيئة، أي الإقرار بما نحن عليه وإفساح المجال للنور لكي يفعل فعله فينا. إنّ الله يدعونا إلى إقامة علاقة شخصيَّة معه مهما كانت التحدّيات أمامنا. لذا فالإنسان لا يتلّقى عطايا الله ولا يولد من عَلُ إلاّ إذا اختبر أنَّه هو من الدِرك الأسفل. لقد نقلها يسوع إلى نظام الرُّوح الذي تحدّث عنه مع نيقوديمس. إنَّ نظام الله الذي نبحث عنه يختلف عن نظام هذا العالم المرئيّ والزائل. إنّه "روح" إنّه ينتسب إلى عالم الواقع الحقيقيّ الذي يُعطى المعنى لكلِّ شيء. فقال لها يسوع: "أنا هو، أنا الذي يكلّمك"، وبمثل هذا الإعلان نفسه كشف الله عن ذاته لموسى وداود ولجميع الأنبياء، فطبّقه يسوع على نفسه لا لينقض الماضي بل ليتمّمه.

 

 

 

لقد نقل يسوع السامريّة من إطار ديانة الممارسات الخارجيَّة إلى جوهر ديانة الحياة الروحيّة التي تقوم على علاقة الإنسان بالله. يظهر هنا يسوع أنّه ذاك الذي يخلق الإنسان خلقًا جديدًا ويُفجّر الأطر التي نحصر فيها علاقتنا بالله ونداؤه هذا موجّه إلى كلِّ إنسان كما توجّه إلى نيقوديمس ويوحنّا المعمدان وتلاميذه والمرأة السامريَّة ومواطنه أية كانت قصَّة كلّ منّا وأيًّا كان ماضينا وحياتنا الخلقية ومؤهّلاتنا وديانتنا. فبواسطة العقل ينفتح الإنسان على الإيمان الحقيقيّ وبواسطته يستعدّ للدخول في جوِّ الخلق الجديد. إنّ الرُوح وحده يستطيع أن يجعل من الإنسان شخصًا مؤمنًا. فالإيمان لا يحتكم إلى المنطق. إنّه اختبار لا يحدث إلاّ بايحاء من الرُّوح القدس. لذلك فالحدث الإيماني يفوق قُدرة منطق الطبيعة والعلم والمعرفة.

 

 

 

لقد جاء يسوع ليعلّمنا كيف تكون العلاقة الحقيقيّة مع الله تلك العلاقة التي يعيشها منذ الأزل مع الآب في الرُوح. وعليه ما عاد ممكنًا أن تكون حياتنا الروحيَّة محض أمانة لمنهج معيّن، بل أضحت روحًا وحياة. ولأنَّ الحياة الأبديَّة في إنجيل يوحنّا هي حقيقة واقعيَّة تبدأ من هذه الحياة كان لا بدّ ليسوع من أن يبدأ من حياة السامريَّة الحميمة، من عمق هذه الحميميَّة تتفجّر الحياة الأبديَّة. ولأنَّ الحياة الأبديَّة هي معرفة الآب ومعرفة الذي أرسله يسوع المسيح، كان لا بدّ من أن يكون محور حديث يسوع معرفة الآب ومعرفته هو بالذات. وما سيسمعه السامريُّون ليس إلاّ كشف عن معرفة الآب ومعرفة الابن مخلّص العالم.

 

 

 

 

فمن أراد اتّباع يسوع عليه أن يكتشف فيه ينبوع الماء الحيّ. ولكن الإنسان لا يستطيع أن يحصل على هذا الماء ولا أن يرى هذا النور إلاّ بالإيمان ولكي ننالهما فنحن محتاجون إلى أن يحرّرنا الرُّوح. فيسوع هو ينبوع الماء الحيّ وقد أثبت أنّه هو الينبوع والصخرة الروحيّة حيث تستقي السامريَّة ويستقي شعب العهد الجديد، وفي هذا يضحي يسوع ينبوع الحكمة والشريعة والحياة.

 

 

 

 

 

معنى العبادة الحقيقية والماء الذي يروي ظمأنا اليوم:

 

 

جاء المسيح إلى هذا العالم لكي يبحث عن الضال ويخلّصه. لذلك كان عليه أن يمرَّ بالسامرة آخذًا زمام المبادرة لكي يبحث عن تلك المرأة الضالة وعن كلٍّ منّا. لقد باتت تلك المرأة السامريَّة تبحث عن حريّة أبناء الله بعدما كانت أسيرة مجتمعها وضحيّة تلك الإنقسامات والأعراف اليهوديَّة. هكذا نحن كثيرًا ما نكون أسرى مواقفنا المتحجّرة وعباداتنا المنحرفة وإنقساماتنا وشرائعنا التي نبتدعها وتضحي عبئاً علينا لأنّه ينقصها التحرّر والإنفتاح كونها خالية من روح الله. فببعدنا عن حقيقة الله وهدي روحه نضحي أسرى شعائرنا الدينيّة وهذا ما نعيشه غالبًا عندما نحتفل بالإفخارستيا.

 

 

لذلك فبعد تناول القربان المقدّس يطلب البعض من المؤمنين من الكاهن بأن يضع كأس القربان على رؤوسهم ثمّ يقومون بتقبيل جميع الأيقونات المعلّقة على جدران الكنيسة للتبرّك منها لأنّهم يجهلون قيمة وجوهر القربان المقدّس، مصدر وينبوع كلّ النعم الإلهيَّة.

 

 

 

ثمّ نكون أيضًا أسرى مبادئنا السياسيَّة عندما ننظر إلى الآخرين وننتقدهم بسبب إنتماءاتهم السياسيَّة بدون أن نسعى إلى أن نتقّبل أراءهم وندرك بأنّهم ليسوا ما نحن عليه. هذا ما أراده يسوع أن يقوله للمرأة السامريَّة وهو أنّ حقيقة الرُّوح وحدها تدفع الإنسان إلى القبول التام للواقع الذي يعيش فيه وهي التي تستطيع أن تحرّره من الرواسب الدينيَّة والإجتماعيَّة الملتوية.

 

 

 

لقد ردّد يسوع أمام تلاميذه قائلاً: "أمَّا أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه إستوجب حكم القضاء، ومن قال لأخيه: يا أحمق استوجب حكم المجلس، ومن قال له: يا جاهل استوجب نار جهنم" (مت5/ 22). لذلك نحن مدعوُّون إلى أن نعي أنّه عندما نضحي أكثر إنسانيَّةً ومرونة في عيشنا مع الآخرين وأكثر إلتزامًا في عيش مبادئنا المسيحيَّة وعباداتنا الدينيَّة بهدي الرُّوح، عندئذ تتفجّر فينا حياة الله حياة أبديَّة كما تفجرت في حياة القدِّيسين.

 

 

 

 

إنَّ ما عاشته السامريَّة يذكرّنا دومًا بأنَّه كلّما قبلنا بالتنازل والإنحدار أصعدنا الله من هوّة ضعفنا وشعائرنا الدينيّة الملتوية. فلكي تدرك السامريَّة مجانية  ذلك الحبّ ومعنى الحريّة التي جاءت تبحث عنها كان لا بدّ أن تشعر بأنَّها كانت مفصولة عن الله وإذا لمست حضوره كان لا بدّ من أن يدهشهها ذلك الخلاص الموهوب لها. فلو تُرك الإنسان لذاته في هذا النزول لقاده إلى اليأس.

 

 

 

 

لذا نحن لا نستطيع أن ندرك خلاص الله إلاّ إذا أدركنا ذاك الذي يرفعنا من هوّة خطيئتنا وجسامة ضعفنا وموتنا. إنَّ الله يلحق بنا دومًا بابنه الوحيد ويرافقنا ويحاورنا في كلِّ مرحلة من مسيرة حياتنا من أعالي السماوات إلى أعماق الجحيم، ليجعلنا ندرك الخلاص الذي يحمله إلينا. فالذي يهمّ الله ليس المكان وإنّما طبيعة العبادة: "أن الله روح فيجب على العبّاد أن يعبدوه بالرُّوح والحقّ". لذلك يردِّد الرسول بولس برسالته إلى الرُّومانيِّين: "لم تتلقّوا روح عبوديّة لتعودوا إلى الخوف بل روح تبنٍّ به ننادي: أبّا يا أبتِ" (روم 8/ 15).

 

 

 

 

إنَّ الحالة التي كانت تعيشها المرأة السامريَّة لم تستطع أن تجلب لها السعادة. فالسعادة التي تأتي من مغريات هذا العالم هي حالة خارجيَّة لا تعمّر طويلاً أمَّا السعادة الحقيقيَّة فهي شعور داخليّ منبعها الله. وكلُّ شيء يأتي من الخارج لا يحقّق الإرتواء. لذلك يقول إرميا: "فإن شعبي قد صنع شرّين: تركوني أنا ينبوع الماء الحيّة وحفروا لأنفسهم آبارًا مُشققة لا تُمسك الماء" (إر 2/ 13).

 

 

 

لذلك فالله يدعونا دومًا إلى تخطّي النظام المادِّي ونظام الجسد الذي لا يجلب لنا سوى الموت. إنَّه كالماء الموجود في بئر يعقوب، لا يروي ظمأ الإنسان إلاّ مؤقتًا، أمَّا الماء الذي يَعِدُ به يسوع فيروي ظمأ الإنسان إلى الأبد، حيث يصبح "عين ماء يتفجّر حياة أبديَّة".

 

 

 

عندما نسعى لإرضاء ميول الجسد ونغوص في أوحال الخطيئة تظهر ملامح الكآبة على وجوهنا. فإن الجسد يشتهي ما يتنافى مع متطلبات الرُّوح غير عابئ بالهلاك الأبديّ كما ردّد أحد القدِّيسين، والرُّوح تشتهي ما يتنافى مع أهواء الجسد. لذلك يردّد بولس الرَّسول برسالته إلى الرُّومانيِّين: "ولكنّي أشعر في أعضائي بشريعة أخرى تحارب شريعة عقلي وتجعلني أسيرًا لشريعة الخطيئة. تلك الشريعة التي هي في أعضائي. ما أشقاني من إنسان! فمن ينقذني من هذا الجسد الذي مصيره الموت؟" (روم 7/ 23-24).

 

 

 

قال يسوع للسامريَّة: "كلُّ مَن يشرب من هذا الماء يعطش ثانية وأمَّا الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش أبدًا". لأنَّ السعادة التي تأتي من الخارج مثل الماء الذي حصلت عليه السامريَّة من البئر لا يروي ظمأ الإنسان. لأنَّ كلَّ ما يأتي من الخارح من مال وملذات ورفاهية يجعلنا أشد عطشًا، أمَّا الذي يأتي من الداخل فهو يروي الإنسان، بل يضحي ينبوعًا حيًّا ينبع من داخلنا. هذا ما نشعر به في زمن الصَّوم حين نمتنع عن كلِّ الملّذات الجسديَّة نجد سعادة داخليَّة تنبع من داخلنا لا يستطيع العالم أن يجلبها لنا. وطالما قد ردّد بولس الرسول: "لأنّ حبّ المال أصل كلِّ شرّ وقد استسلم إليه بعض الناس فضلّوا عن الإيمان وأصابوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (1طيم 6/ 10).

 

 

 

يقول أنطون بلوم: "عندما قُدّمت إليّ السعادة الكاملة، اكتشفت شيئًا غريبًا هو أنَّ السعادة بدون هدف هي سعادة لا تطاق". لذلك فالمسيحيَّة هي دعوة إلى السعادة وإلى التفوّق كما دعى يسوع السامريَّة مِمَّا هو ماديّ إلى ما هو أسمى. هكذا يدعونا الله إلى ما هو أسمى في حين أنَّ جسدنا وعالم اليوم كثيرًا ما يدعواننا إلى ما هو أدنى. لذلك لا نجد سعادتنا ومعنىً لحياتنا إلاّ عندما نعيش في قمّة الله وقمّة الروح وفي وقمّة نفوسنا.

 

 

 

 إنَّ الأزواج الستة الذين اتخذتهم تلك المرأة السامريّة لم يكن باستطاعتهم أن يجلبوا لها السعادة الحقيقيّة. لذلك ذهبت تبحث عن الله الذي وحده يستطيع أن يُشبع جوعها ويُروي ظمأها، وفي هذا الصدّد يردّد جبران قائلاً: "الدنيا امرآة جميلة لكنّها عاهرة فمن عرف عهرها نسي جمالها". فالمرأة السامريَّة هي  كالمرأة النازفة التي ذهبت تختبر كلّ الحلول لدى الأطباء فكانت حالتها تتحّول من سيّئ إلى أسوأ" (مر 5/ 26).

 

 

 

ذهبت السامريَّة تبحث عن الماء الحيّ، عن حقيقة الله المُطلقة الذي وحده يستطيع أن ينقذها من هذا العطش المادِّي ويُروي ظمأها. فكما تركت جرّة الماء على البئر وهو مصدر حياتها وذهبت تُخبر أهل مدينتها عمّا جرى لها مع يسوع وكما خلع الأعمى رداءه وهو رداء الخطيئة الذي كان قد أضحى جزءًا لا يتجزّأ من حياته وأتى إلى  يسوع. هكذا نحن مدعوُّون إلى أن نخلع عنّا أعمال الظلمة كما يردّد بولس الرسول: "فقد خلعتم الإنسان القديم وخلعتم معه أعماله ولبستم الإنسان الجديد..." (قو 3/ 9).

 

 

نحن مدعوُّون أن نخلع ثقل خطايانا التي كثيرًا ما تستدرج تفكيرنا وتوهم أنفسنا بأنّها مصدر حياة لنا حيث تضحي جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا. لذلك نحن مدعوُّون إلى أن ندرك بأنّه إذا لم نستطع أن نخسر رصيد الخطيئة لا نستطيع أن نربح حقيقة ملكوت الله.

 

 

 

إنَّ أحداث حياتنا التي تعترض مسيرتنا نحو الله والمحن والآلام والتجارب التي تواجهنا كلّ يوم وتجتاح حياتنا بشتّى الوسائل وكثيرًا ما يتعطّل أمامها تفكيرنا وتنعدم رؤيتنا حتى لا نعود نستطيع فهم تدخّل الله لأنّه لم يعد بمقدرونا أن نفهم لغة الله كما حدث مع نيقوديمس والسامريّة. إلاّ أنَّ الله يحاول دومًا أن ينقلنا بواسطة أحداث حياتنا اليوميّة والكتب المقدَّسة وعيش الأسرار من الرَّجاء الميت إلى الإيمان الحيّ.

 

 

 

فالأزمات النفسيّة والصدمات الحياتيّة والجروحات التي تسببّها خطايانا، كثيرًا ما تعترض مسيرة حياتنا الروحيّة في بحثنا عن حقيقة الله المُطلقة. فإن مشاكلنا الإيمانيّة التي نرزح تحتها تبقى لنا بمثابة دعوة لكي نعبر من الإيمان السطحيّ إلى الإيمان الحقيقيّ وتوصلنا إلى أن نكتشف هوية الله كما هو وهذا ما نجده دومًا في الكتاب المقدَّس وهذا ما ردّده يسوع لتلك المرأة السامرية: "فقال لها يسوع: أنا هو، أنا الذي  يكلّمك" (يو 4/ 26).

 

 

 

 

أسئلة للتأمل والتفكير:

 

 

1- هل نستطيع أن نخسر رصيد الخطيئة الذي يمنعنا من أن نكتشف تلك السعادة التي يبحث عنها كلّ إنسان؟ وهل ندرك أنَّ هناك محنة إيمانيَّة وعلى الجميع أن يمرّوا بها ومن دونها يبقى انتسابنا الإيمانيّ ضعيفًا وغير مؤكّد؟

 

 

 

2- كيف نقيّم علاقتنا بالله؟ وهل نعيشها على هدي الروح؟ هل نعي أن التعصّب الدينيّ والعبادات الروحيّة المنحرفة التي ينقصها النضج الروحيّ تكون لنا بمثابة حجر عثرة في مسيرة تعرّفنا على حقيقة الله في هذا الوجود؟

 

 

 

3- هل نعي بأنّ ملذّات هذا العالم لا تستطيع أن تجلب لنا السعادة وهي بالنسبة لنا آبار مشقّقة لا تحفظ الماء لذلك لا تستطيع أن تروي ظمأنا؟ هل نعي أنَّ مسيرة النضج الروحيّ هي رهن بطريقة تعاملنا مع المصاعب والتحدّيات التي تواجهنا في حياتنا اليوميّة؟

 

 

 

 

صلاة: نسجد لك أيُّها الينبوع الحيّ ونصلّي من عمق ظمأ نفوسنا المتعطّشة دائمًا إليك. إنّك الإله الذي تبحث دومًا عن كلِّ واحدٍ منّا لنستقي من ينبوع مائك الحيّ. تنحدر إلى أسافل جحيمنا وشقائنا وتكشف ذاتك لنا لتردّ وجهنا عن عالمٍ يدفعنا دومًا إلى أن نحفر آبارًا مشقّقة لا تحفظ الماء وأنت وحدك ينبوع ماء الحيّ لنا. تحاورنا عبر أحداث حياتنا اليوميّة وبواسطة الكتب المقدَّسة ونِعم الأسرار لتعبر بنا من الرَّجاء الميت إلى الإيمان الحيّ. إهدنا إلى ينابيع خلاصك وحرّرنا من كلّ عباداتنا المتحجّرة وليّن أفكارنا المتصلّبة واجعل روحك وحده يقودنا إليك لنعبدك بالرُّوح والحقّ. لك المجد إلى الأبد. آمين.

 

 

 

الأب نبيل حبشي ر.م.م.