عيد إنتقال العذراء مريم «الإنجيل

 

 

 

 

إنجيل لوقا (1/ 46 -55).

 

عيد إنتقال العذراء مريم

 

 

 

 

قالَتْ مَرْيَم: «تُعَظِّمُ نَفسِيَ الرَّبّ،

 

وتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللهِ مُخَلِّصِي،

 

لأَنَّهُ نَظرَ إِلى تَواضُعِ أَمَتِهِ. فَهَا مُنْذُ الآنَ تُطَوِّبُنِي جَمِيعُ الأَجْيَال،

 

لأَنَّ القَدِيرَ صَنَعَ بي عَظَائِم، وٱسْمُهُ قُدُّوس،

 

ورَحْمَتُهُ إِلى أَجْيَالٍ وأَجْيَالٍ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ.

 

صَنَعَ عِزًّا بِسَاعِدِهِ، وشَتَّتَ المُتَكبِّرينَ بأَفْكَارِ قُلُوبِهِم.

 

أَنْزَلَ المُقْتَدِرينَ عنِ العُرُوش، ورَفَعَ المُتَواضِعِين.

 

أَشْبَعَ الجِيَاعَ خَيْرَاتٍ، وصَرَفَ الأَغْنِياءَ فَارِغِين.

 

عَضَدَ إِسْرائِيلَ فَتَاهُ ذَاكِرًا رَحْمَتَهُ،

 

لإِبْراهِيمَ ونَسْلِهِ إِلى الأَبَد، كمَا كلَّمَ آبَاءَنا».

 

 

 

تأمل: (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل طوال الأسبوع).

 

 

معنى عقيدة الإنتقال:


تعلّم الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ القدّيسة الدّائمة البتوليّة مريم العذراء، وفي نهاية مسيرتها على أرضنا، قد انتقلت بالنفس والجسد إلى السّماء. الطاهرة التي لم تعرف فساد الخطيئة، لم تعرف فساد الجسد والموت. تلك التي حفظها الرّب من وصمة الخطيئة الأصليّة، حفظت أيضاً من فساد مثوى الأموات.


إن انتقال العذراء مريم إلى السّماء بالنفس والجسد هو نتيجة حتميّة وطبيعيّة لبراءة مريم من وصمة خطيئة حوّاء: إنّ الموت كان نتيجة معصية آدم وحوّاء، فنتيجة الخطيئة الأصليّة نجد الله يقول: "أزيدُ تعَبَكِ حينَ تَحبَلينَ"، أي إنّ المشاركة في الخلق صارت مصدر ألم لا بركة، "وبالأوجاعِ تَلِدينَ البَنينَ وإلى زَوجِكِ يكونُ ا‏شتياقُكِ وهوَ علَيكِ يسودُ"، أي أن فعل إعطاء الحياة قد تحوّل من لحظة فرح إلى ساعة ألم، وأنّ شوق الإنسان صار يتّجه نحو المخلوق بدل الخالق، والعلاقة الإنسانيّة صارت حالة استعباد الإنسان للإنسان، والشّريك صار مصدر لذّة وشهوة بعد أن كان مدعو لأن يحبّ".

 

"وتكونُ الأرضُ مَلعونَةً بِسبَبِكَ حتّى تعودَ إلى الأرضِ لأنَّكَ مِنها أُخِذْتَ. فأنتَ تُرابٌ، وإلى التُّرابِ تعُودُ": واقع الأرض تحوّل أيضًا بسبب الخطيئة، من الأرض كمصدر حياة إلى الأرض كنهاية للوجود الإنسانيّ. قبل الخطيئة كانت الأرض أُمّاً تعطي الحياة للبشر، وبسبب الخطيئة صارت كقبرٍ ينتظر عودة الإنسان إليه.


مريم تبرّرت مسبقاً من الخطيئة الأصليّة بنعمة من المسيح ابنها: لقد افتداها بدمه مُسبقاً، وحرّرها من وصمة الخطيئة منذ اللّحظة الأولى لتكوّنها، وبما أنّ الفساد هو نتيجة الخطيئة، وبما أنّ مريم قد حُفظت مُصانة من هذه الخطيئة ومن آثارها، فإنّ الإنتقال يصبح نتيجة طبيعيّة لحياة مريم: ختام مسيرة مريم على الأرض كان انتقالٌ من حياة جسديّة إلى الحياة الحقيقيّة، ومعها لم يعد للموت معنى العدم والفساد، بل صار انتقالٌ وتحوّلٌ من حقيقةٍ ماديّةٍ إلى حقيقةٍ روحيّةٍ لا تلغي شخص مريم بل تعطي وجودها معنى أعمق.

 

 

إنتقال مريم علامة انتصارنا:


إنّ مريم العذراء هي مثال لنا وقدوة، ولكنّها أيضاً صورة عن إنسانيّتنا ومثال للكنيسة السّائرة نحو "إنتقالها" الشخصيّ من واقعها الأرضيّ الزمنيّ إلى حالة الإتّحاد بالمسيح رأسها ومخلّصها:


إنتقال مريم هو الضمانة لنا بأن إنسانيّتنا قد تحرّرت لا من الخطيئة الأصليّة فحسب، بل من نتائجها الأخيرة: الموت والفساد. إنتقالها يضمن لنا الخلود، ويعلن أنّ حالتنا الرّاهنة ما هي سوى مسيرة حجّ على درب السّماء، وأنّ وجودنا الجسديّ ينتظر لحظة التحوّل، لحظة الإنتصار، لحظة الإنتقال إلى بيت الآب الأبديّ.

 

لم يكن انتقال مريم مجرّد امتياز خصّ الله به والدة الإله، بل هو إعلان مُسبق لحالتنا نحن: مريم التي افتديت من الخطيئة مسبقاً بواسطة ابنها، لم تعرف الفساد لأنّ جسدها بقي الأرض الطاهرة التي أعطت المسيح شجرة الحياة الجديدة، كما أعطت جنّة عدن شجرة الحياة الأولى، شجرة الخلود. وحين سقط الإنسان في المعصيّة أخرجه الله من جنّته، وجعل على أبوابها ملائكة تحرسها من خطيئة الإنسان.

 

هكذا هي مريم، الجنّة الجديدة التي بقيت مصانة ولم تعرف، لا في لحظة ولادتها، ولا في سنيّ حياتها على الأرض، ولا في ختام مسيرة حياتها، الفساد والموت. انتقال مريم يعلن لنا عن حقيقة حالتنا المستقبليّة: نحن الّذين افتدانا المسيح من الخطيئة بموته وقيامته، وبواسطة سرّ المعموديّة، لم يعد للموت المعنى ذاته بالنسبة لنا، لم يعد حالة انتهاء بل بداية جديدة. لم يعد الموت حالة احتجاب واختفاء في غياهب العدم أو المجهول، بل صار تحوّلاً، تبدّلاً لواقعنا، ولحقيقتنا ولتاريخنا. صار الموت بالنسبة لنا إنتقال أيضاً، إذ صار الموت حالةً ندخل بها إلى الحقيقة التي لا تزول، إلى حقيقة الله الأبديّة .


إنتقال مريم إلى السّماء هو علامة رجاء لإنسانيّتنا، لأنَّ مريم المعلّمة في الإيمان تعلن لنا معنى الرّجاء الحقيقيّ، وتعلن من خلال أحداث حياتها أنّ وجودنا يتخطّى بمعناه واقعنا اليوميّ وينقلنا إلى البعد الإلهيّ. مريم تساعدنا أن نرى في الموت لحظة ولادة جديدة، وبوّابة دخول نحو بيتنا الأبدّي.

 

إنتقال مريم علامة رجاء:


الإنتقال هو أيضاً علامة رجاء لنا في حياتنا اليوميّة: فمريم المنتقلة بالنفس والجسد إلى السّماء تُعلن لبشريّتنا إمكانيّة الترفّع عن المادّة والوجود التافه، لنعطي حياتنا بُعداً ذا قيمة أكبر. فحياة مريم كانت مسيرة نموّ في الإيمان ودخول في سرّ ابنها وربّها. حياة مريم كانت سعياً دائماً ودؤوباً لما فيه قيمة ومعنى، وما لحظة انتقالها سوى لحظة حصاد لثمار البِرّ والسَّعي نحو القداسة التي جهدت مريم في زرعها في حياتها الأرضيّة. على ضوء مريم يمكننا أن نحكم على قيمة حياتنا وعلى معنى وجودنا.

 

 

حياتها تدفعنا لأن نطرح السؤال: كيف أحيا حياتي؟ هل لوجودي من معنى؟ هل لله مكان في حياتي؟ هل أسعى الى ما هو أعمق وأثمن؟ نمضي أحياناً حياتنا في التلهيّ في ما هو عابر وغير ذي قيمة، تمر السنون نمضيها في حياة لا معنى لها، لا نترك لله وللصلاة مكان في حياتنا اليوميّة، يأخذ سعينا الى الخبز الفاني كلّ اهتمامنا وننسى أن للبعد الرّوحيّ والإنسانيّ فينا أهمّية كبرى.

 

إن كانت لحظة انتقال مريم العذراء بالنفس والجسد الى السماء هي لحظة قطف ثمار حياتها على الأرض، فكيف تكون لحظة انتقالنا نحن؟ حين تنتهي مسيرتنا على الأرض وتحين لحظة الحقيقة؟ هل  نجد في ما عشناه من معنى أم نقف أمام الله بأيادي فارغة وحياة عبث لا قيمة لها؟ إن انتقال مريم الى السماء، كنتيجة لما عاشته على الأرض، هي مقياس لنا ولحياتنا. من هنا أهميّة مريم ودورها كمعلّمة ومرشدة في حياة الإيمان .

 

إنتقال مريم هو مصدر قوّة في حياتنا اليوميّة: لا يمكننا أن نحصر معنى انتقال مريم العذراء إلى السّماء بالبعد اللاهوتيّ فحسب، بل هي حقيقة تطال حياتنا اليوميّة أيضًا. فالمسيحيّ المؤمن يجد في مريم أيقونة حياته اليوميّة، من فقد حبيباً غيّبه الموت يجد في انتقال مريم مصدر رجاء، لأنّ الموت لم يعد خاتمة وجودنا، فما هو سوى تحوّل، وانتقال ودخول في الحياة، ومريم التي شاهدت ابنها، وحيدها، يموت، واحتملت سيف الألم يجوز قلبها، آمنت ووثقت بالله، وكان انتقالها تتويجاً لحالة ثقة بالله الآب، رغم آلام حياتها.

 

الأب السّاعي إلى لقمة عيشه يرى في مريم المنتقلة بعد حياة تعب وجهاد، مصدر رجاء والهام، فهي سهرت، وتعبت، وتألّمت وجاهدت، وثبتت على الثقة، فكلّل الرّب حياتها بالإنتقال، ليقول أن لا يُمكن لمن يثق بالله أن يبقى وحيداً في خضمّ هذه الحياة وآلامها.

 

شبيبتنا الضائعة في عالم الخطيئة، والجنس، واللّهو، والمخدّرات وفقدان المعنى، يأتي إنتقال العذراء ليقول لهم أنّ الشرّ لا بدّ أن ينهزم، وأنّ الله يدعوهم لتحوّل ولتبديل، يعلن لهم أنّه يثق بهم، ويريد منهم أن يكونوا على قدر محبّته لهم. يعلن لهم حدث الإنتقال أن التبّدل ممكن، وأن الخير وحده قادر أن يملأ قلبهم، وأن يعطي لوجودهم معنى ولقلبهم الفرح الحقّ .


إنّ انتقال مريم يصبح انتقالنا نحن أيضاً، حين نقبل بالدّخول في طاعة أمَة الرّب التي وضعت وجودها في تصرّف الآب وفي خدمة الإبن الكلمة، فكان الرّوح القدس محرّك حياتها وقائدها. هي إمرأة التواضع قالت: "ها أنا خادمتك"، فارتفعت فوق الملائكة والقدِّيسين. هي امرأة الطاعة التي قالت: "فليكن لي بحسب كلمتك"، فحلّت كلمة الله في عقلها فاستنار، وفي روحها فتقدّست، وفي جسدها فارتفع إلى المجد ليلاقي جسد المسيح القائم.

 

هي امرأة الإيمان التي علمت أنّ وجود الله في حياتها لا يُلغي حرّيتها، ولا ينقص من إرادتها، ولا يمنع فرحها، بل يقدّس إرادتها ويعطي حرّيتها معناها الأعمق، ويزرع في قلبها الفرح الحقّ الّذي لا يعبر بل يبقى إلى الأبد.


إرتفاع العذراء صورة مسبقة لإنسانيّتنا القادرة على الإرتفاع بدورها إن وضعت وجودها تحت إرادة الله المحرِّرة والخلاصيّة، لتأخذ حياتنا معناها الأعمق، وتجد استمراريّتها في الحقيقة التي تتخطّى الزمان الحاضر، لنقوم نحن أيضاً بجسدنا المخلَّص والممجَّد وندخل مع العذراء، وبشفاعتها، إلى الملكوت الّذي لا ينتهي، ملكوت الحبّ الأبديّ.

 

 

 

 

الأب بيار نجم ر.م.م.