عيد القديس مارون «الإنجيل

 

 

إنجيل يوحنا (12 / 23 -30)

 

 

عيد القدّيس مارون

 

 

قالَ الرَبُّ يَسُوع: «لَقَدْ حَانَتِ السَّاعَةُ لِكَي يُمَجَّدَ ٱبْنُ الإِنْسَان.

 

أَلحَقَّ ٱلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّ حَبَّةَ الحِنْطَة، إِنْ لَمْ تَقَعْ في الأَرضِ وتَمُتْ، تَبْقَى وَاحِدَة. وإِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير.

 

مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يَفْقِدُهَا، ومَنْ يُبْغِضُهَا في هذَا العَالَمِ يَحْفَظُهَا لِحَيَاةٍ أَبَدِيَّة.

 

مَنْ يَخْدُمْنِي فَلْيَتْبَعْنِي. وحَيْثُ أَكُونُ أَنَا، فَهُنَاكَ يَكُونُ أَيْضًا خَادِمِي. مَنْ يَخْدُمْنِي يُكَرِّمْهُ الآب.

 

نَفْسِي الآنَ مُضْطَرِبَة، فَمَاذَا أَقُول؟ يَا أَبَتِ، نَجِّنِي مِنْ هذِهِ السَّاعَة؟ ولكِنْ مِنْ أَجْلِ هذَا بَلَغْتُ إِلى هذِهِ السَّاعَة! يَا أَبَتِ، مَجِّدِ ٱسْمَكَ». 

 

فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ يَقُول: «قَدْ مَجَّدْتُ، وسَأُمَجِّد».

 

وسَمِعَ الجَمْعُ الحَاضِرُ فَقَالُوا: «إِنَّهُ رَعد». وقَالَ آخَرُون: «إِنَّ مَلاكًا خَاطَبَهُ».

 

أَجَابَ يَسُوعُ وقَال: "مَا كَانَ هذَا الصَّوْتُ مِنْ أَجْلِي، بَلْ مِنْ أَجْلِكُم".

 

 

 

تأمّل:   (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل):

 

 

يضعنا هذا النصّ في موقف حيرة وتعجّب، فالمسيح الذي دخل أورشليم أعلنه الشّعب ملكًا (يو12، 13) وأعلن الفرِّيسيون انتصاره بقولهم "ها هو العالم كلّه قد تبعه" (يو 12، 19). وجاء اليونانيّون الوثنيّون ليروه (يو12، 20) هو المسيح ملك المجد بحسب مفهوم البشر. 

 

هذا المجد بحسب المفهوم البشريّ الماديّ المبنيّ على المظاهر لن يلبث أن يضمحل، فالشّعب سوف يصرخ "اصلبه" والفريسيّون سوف يعملون على قتله والوثنيّون سوف ينفّذون الحكم.

 

أمّا المجد الحقيقيّ بالنسبة ليسوع فهو "تتميم إرادة الآب". مجد يسوع سوف يتجلّى على الصَّليب، لذلك يُعلن للتلاميذ قدوم السّاعة.

 

نرى هنا أنّ السّاعة قد تمّت، السّاعة التي أُنبىء عنها في (يو 2، 4؛ 7، 6؛ 8، 30 ...) والتي لم تكن قد حانت، ها هي تصل لأنّ يسوع جمع الكلّ إليه، والخلاص لم يعد حكرًا على اليهود فها هو الشّعب يعلنه ملكًا وها هم الوثنيّون يأتون ليروه: الوسيلة الوحيدة لاعتلان مُلك يسوع المسيحاني هي اذاً موته على الصّليب ليحقـِّق وحدة البشر كلّهم في واحد.

 

يتكلّم يسوع عن موت حبَّة الحنطة الذي يُعطي ثمارًا، يتكلّم عن موته الذي أثمر حياة للبشر كلّهم، إنّما يتكلّم أيضًا عن موت التلاميذ موتًا ليس بالضّرورة جسديًّا، إنّما خاصّة موت البُعد الأرضيّ لاكتساب البُعد السماويّ، ترك الإنسانيّ لنيل الإلهيّ.

 

إنّ موت يسوع - حبّة الحنطة هي الوسيلة الوحيدة لولادة الكنيسة، وهو ما سوف يشير إليه يوحنّا بخروج الدّم والماء من جنب يسوع المفتوح (يو 19، 34). هي الكنيسة تولد في حشا يسوع المائت، هي الأسرار تخرج من سرّ الصّليب. يسوع حبّة الحنطة يموت ليصبح قربانًا.

 

ينتقل يسوع من البُعد الشخصيّ لموته إلى البُعد الجماعيّ، التلميذ مدعو إلى الإقتداء بالمعلّم، أي إنّه مدعوّ إلى الموت عن هذا العالم لإعطائه معنى جديدًا.

 

حيث يكون يسوع هناك يكون خادمه، إن كان يسوع حبّة الحنطة فعلى التلميذ أن يكون أيضًا حبّة قمح تموت لتُثمر حياة للآخرين وللكنيسة.

 

مَن أحبّ نفسه فقدها، والنفس في المفهوم السّامي تشمل كيان الإنسان كلّه: حياته وبُعده العاطفيّ والروحيّ والجسديّ. هي دعوة للتلميذ ليُعطي الأفضليّة لا لنفسه إنّما لمخطّط الله الخلاصيّ في حياته ومن خلاله للآخرين.

 

لا يطلب يسوع من التلميذ شيئًا لم يختبره هو، لذلك يستعمل يوحنّا كلمة "نفسي الآن مضطربة": هي النفس ذاتها التي على التلميذ أن يكون مستعدًّا لتقديمها في سبيل الحياة الأبديّة. يسوع أيضًا "يبغض نفسه" المضطربة، أي يجعلها في خدمة مخطّط الله الآب الخلاصيّ، فيُضحي هو الإنسان الكامل قدوة للتلاميذ في تفضيل إرادة الآب على ارادتهم الذاتيّة.

 

مجّد اسمك: مجد الآب هو في إتمام مخطّطه، أي في خلاص الإنسان الخاطئ.

 

وجواب الآب يُقسم إلى قسمين:

 

- في الزمن الماضي: قد مجّدت: إشارة إلى لحظة تجسّد المسيح الكلمة الآتي لإتمام إرادة الآب وافتداء البشر.

 

- في المستقبل: سأمجّد أيضًا تشير إلى ساعة اكتمال المجد الأوّل في التاريخ: من خلال المسيح هي لحظة الموت والقيامة. ومن خلال التلاميذ سوف يستمرّ تأوين مجد الآب من خلال إعلان بُشرى الخلاص للبشريّة كلّها بواسطة الكنيسة.

 

قلق نفس المسيح تشير ليس فقط إلى إنسانيّة المسيح الكاملة، إنّما تحمل أيضًا بُعدًا تعليميًّا: يوحنّا يقول لجماعته الكنسية أنّ تتميم إرادة الآب قد لا يكون سهلاً، وقد يجد المسيحيّ نفسه أمام خيارين: النجاة من السّاعة أو القبول بإتمام إرادة الله على حساب حياته الجسديّة، والمسيح يُعطي التلميذ الجواب: الخيار الثاني هو الضمانة للحياة الأبديّة.

 

الصّوت الآتي من السّماء يُعيدنا إلى سفر الخروج (19، 19) حين كان الله يُكلّم موسى بصوت الرعد. هي إشارة من يوحنّا إلى المسيح، موسى الجديد، الذي جاء يعبر بالشّعب من حالة الخطيئة ويدخله بعهد جديد مع الله الآب، عهد كان قد انقطع بمعصية الشّعب.

 

إنّما جهل الشّعب وانقسامه هو إشارة إلى عدم معرفته الحقّة لشخص يسوع المسيح: البعض قالوا رعد، أي إنّهم أعطوا رسالة يسوع بعدًا طبيعيًّا، بينما آخرون قالوا أنّ ملاكًا خاطبه، اي أقرُّوا بالبُعد الإلهيّ إنّما بقيت عيونهم مغلقة عن معرفة صوت الآب وإرادته، لذلك سوف يرفضون فيما بعد فكرة موت المسيح (يو12، 34)، لأنّهم يُريدون مسيحًا منتصرًا بالمنطق البشريّ.

 

الصَّوت جاء من أجلهم، فيسوع ليس بحاجة لضمانات، صوت الآب جاء يدعوهم لتبديل منطقهم البشريّ واعتماد منطق الله، ليقبلوا إرادة الله في حياتهم ويعلنوها في بشارتهم ويعلنوا الخلاص للكون بأسره وبهذا وحده يتمجّد الآب.

 

 

 

الأب بيار نجم ر.م.م.