لا، لا يمكن أن اعيش بدون الله! «القوت اليومي

لدينا الاهتداءات العظمى كتوبة القديس بولس على طريق دمشق، وتوبة القديس أوغسطينوس كنموذج وكحافز، بل وأيضا في عصرنا- عصر تغييب المقدس- فإن نعمة الله لازالت تعمل وتحقق أعاجيب في حياة كثير من الأشخاص. إن الرب لا يتعب من الطَّرقِ على باب الإنسان في إطاره الاجتماعي والثقافي الذي يبدو أنه غارقا في التعلمن، كما حدث مع الروسي الأرثوذكسي باول فلورينسكي، فبعد تربية تقوم كلياً على مذهب اللاقدرية، لدرجة شعوره بعداء كامل وتام لكل التعاليم الدينية التي تعلمها في المدرسة، فالعالِم فلورينسكي يصل إلى إعلان: "لا، لا يمكن أن اعيش بدون الله!"، وإلى تغيير حياته بالكامل، لدرجة اختياره لحياة الرهبنة.

أفكر أيضا في شخص يتّي يلّيسون  (Etty Hillesum)، فتاة هولندية من أصل يهودي، توفيت في أوشفيتز (Auschwitz). كانت في البداية بعيدة عن الله، وقد بدأت في اكتشافه في عمق أعماق ذاتها وقد كتبت: "في بئر عميق بداخلي كان الله ! أحيانا أستطيع الوصول له، وكثيرا ما تغطيه الأحجار والرمال: وبالتالي فالله مدفون. ولهذا يجب علينا مجدداً إخراجه من القبر" (مذكرات، عدد 97). فقد وجدت الله، في حياتها المبعثرة والقلقة، وسط المآسي الكبرى للقرن العشرين. فهذه الفتاة الضعيفة قد تبدلت بالإيمان، وتحولت إلى امرأة مفعمة بالمحبة وبالسلام الداخلي، قادرة على تأكيد: "أعيش باستمرار في علاقة حميمة مع الله". 

إن قدرة الاعتراض على أيديولوجية التملق السائدة في زماننا، واختيار البحث عن الحقيقة والانفتاح على اكتشاف الإيمان مشهود لهم في حياة امرأة أخرى معاصرة لنا، الأمريكية دوروسي دي (Dorothy Day). فهي تعترف بصراحة، في سيرتها الشخصية، بأنها سقطت في تجربة حلّ كل شيء عن طريق السياسة، بتبني المنهج الماركسي: "كنت أرغب في مشاركة المتظاهرين، والذهاب للسجن، والكتابة، والتأثر على الآخرين وترك حُلمِي للعالم. يا لهول طموحي، ولهول بحثي عن ذاتي في كل هذا!". وقد كانت مسيرة الإيمان، في بيئة متعلمنة، صعبة للغاية، ولكن نعمة الله تتحرك برغم ذلك، كما تؤكد دوروسي بنفسها: "بالحقيقة كنتُ أشعر كثيرا بالحاجة للذهاب إلى الكنيسة، للسجود، وإحناء الرأس في الصلاة. وكنت أذهب، وأُدخل نفسي في جو من الصلاة...". وقد اقتادها الله نحو انخراطٍ واعٍ بالكنيسة، في حياة مكرسة من أجل المشردين والمنبوذين.

إن عدد الاهتداءات العميقة في عصرنا، لأشخاص قد هجروا الإيمان لسنوات- بعد حصولهم على التعليم المسيحي غالبا بسطحية- ثم اكتشفوا مجددا المسيح وإنجيله، هو عدد ليس بقليل. كما نقرأ في سفر الرؤيا: "هاءَنَذَا واقِفٌ على البابِ أَقرَعُه، فإِن سَمِعَ أَحَدٌ صَوتي وفَتَحَ الباب، دَخَلتُ إِلَيه وتَعَشَّيتُ معه وتَعَشَّى معي" (3، 20).

إن إنساننا الداخلي يجب أن يستعد لزيارة الله له، ومن أجل هذا يجب ألا يدع نفسه فريسة للأوهام، وللمظاهر، وللأشياء المادية.

فلنجدد، في زمان الأربعين هذا، التزامنا بمسيرة التوبة، وتخطي الانجذاب لتجربة النظر فقط للذات بل علينا، بالعكس، ترك مكان لله، لرؤية الواقع اليومي بأعينِ الله.

إن الاختيار هو بين الانغلاق على أنانيتنا والانفتاح على محبة الله والآخرين.  يمكننا القول بأن هذا يعكس تجارب يسوع: أي، الاختيار بين السلطة البشرية ومحبة الصليب، بين فداء يقوم فقط على الرفاهية المادية وفداء يقوم على الثقة في الله، وعلى إعطائه أولوية وجودنا.

إن التوبة لا تعني عدم البحث عن نجاح شخصي، وقيمة الإنسان الذاتية ولكنها تعني عمل كل شيء ليكون كل يوم، وعبر الأشياء الصغيرة، فرصة لجعل الحقيقة، والإيمان بالله، والمحبة الشيء الأكثر أهمية.

البابا بنديكتس السادس عشر