آخر كلمات يسوع على الصليب (5) «متفرقات


آخر كلمات يسوع على الصليب (5)



بعد لحظات الصّمت السّابقة، كان يسوع يعلم أَنّ كلّ شيء قد تمّ، فقال: "أنا عطشان" (يو 19: 28). تلك هي الكلمة الخامسة. البعض رأوا فيها رغبة بشريّة عاديّة؛ إنسان يتألّم، فيطلب الماء كاحتياج طبيعيّ. لكنّ الأغلبيّة يرون وراء هذا الطلب شيئًا أعمق.


يقول يوحنّا: كان يسوع يعلم أنّ كلّ شيء قد تمّ، فقال: "أنا عطشان" (يو 19: 28). كلمة "كلّ شيء" تجعلنا نفهم أنّ المقصود هي الأحداث التي تمّت حتّى الآن. لكنّ الكلمة المُستخدمة هي نفس كلمة "كلّ ما" في الآية التي تقول: "ورأى الله كلّ ما صنعه، فإذا هو حسن جدّاً" (تك 1: 31). يقصد يوحنّا "بكلّ شيء" هذا المشروع الأوّل الذي بدأه الله، هذه الخليقة التي خلقها، هذا البدء الذي أطلقه بسبب حبّه للإنسان، وقد دخلت فيه الخطيئة بسبب إبليس، ففقد جماله الأوّلي. لكنّ الله لم يتركه، لم يترك هذا البدء، هذه الخليقة، فدبّر مشروعًا خلاصيًّا لها. هذا هو ال "كلّ شيء". هذا الخلاص.


كلمة "تمّ" هي أيضًا أساسيّة. تُرجمت بكلمة "إنتهى" ومرّات "حدث". لكنّ المعنى الأصليّ للكلمة اليونانيّة هو "وصل إلى هدفه، إلى غايته". فيصبح تعبير يوحنّا: كان يسوع يعلم أنَّ كلّ شيء قد وصل إلى هدفه، أي أنّ كلّ الخليقة وصلت إلى ما خُطـِّط لها. مشروع الآب الخلاصيّ قد تحقـّـق. الآن يسوع ينظر من على الصّليب، ويجد أنّ هناك خليقة جديدة، مفديّة، حسنة في عينيّ الرّبّ كالخليقة الأولى.


فقال يسوع: "أنا عطشان" كما قال للمرأة السّامرية من قبل: "إسقيني" (يو 4: 7). لأنّه كان يريد أن يعطيها ماء آخر. ماء من يشرب منه لا يعطش أبداً. الماء الحيّ، كما يقول يوحنّا، أيّ الرّوح القدس الذي سيناله المؤمنون عند ساعة مجده (يو 7: 38- 39). وها هي الآن ساعة مجده. المسيح يريد أن يُعطي هذا الرّوح لكلّ البشريّة. لذلك يطلب من جديد الماء من صالبيه كرمز لكلّ إنسان، كما طلب من السّامرية، لكي يعطينا بدورنا الماء الحيّ.


"أنا عطشان" كلمة لا تشير فقط لعطش الماء، لكنّها تعني أيضاً الرّغبة والاشتياق لشيء ما. يقول المسيح: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ فإنهم يُشبعون" (مت5 : 6). وأيضًا المزمور: "عطشت إليك نفسي" (مز 63: 2). فهل عطش المسيح هو في العمق إشتياق لملاقاة الآب؟ هل هو رغبة للرّجوع لحضن الآب حاملاً معه ناسوته، أي بشريّتنا المفديّة، عربون لما ينتظرنا من مجد سماويّ، وحياة أبديّة؟ عطش إذاً لخلاص الكثيرين؟


"أنا عطشان" يقول المسيح، فأعطوه إسفنجة مبلّلة بالخلّ. هكذا كما يقول المزمور: "سقوني في عطشي خلاًّ" (مز 69: 22). المرنّم في المزمور يتكلّم عن الآمه وعذابه. عن الظّلم الذي يقع عليه وإهانة اعدائه له، لدرجة أنّهم في عطشه أعطوه خلاًّ بدل الماء. ويستمرّ ويقول سيدفعون ثمن كلّ هذا، سخط الرّبّ سينزل عليهم، ونار غضبه ستأكلهم.


هكذا أيضًا المسيح يأخذ بدلاً من الماء خلاً. وبهذا تصل إلى القمة خطيئة الإنسان ورفضه لله. والآن بحسب المزمور يأتي وقت غضب الرّبّ، وقت النار السّماويّة التي تسقط من السّماء كي تلتهم أعداء قدّوس الرّبّ. لكن هذا لا يحدث، فمكان النّار نجدُ المسيح الذي يُسلّم روحه لأعدائه. يسلّم الرّوح القدس. فبدلاً من غضب الرّبّ وحكمه بالإنتقام، يُنزل على من كان تحت الصّليب الرّحمة والمغفرة. هذا هو حكم الرّبّ، رحمة ومغفرة. لأنّ المسيح أخذ عنّا ما كنا نستحقه.


بالفعل كلّ شيء قد تمّ، كلّ شيء وصل لهدفه النهائيّ. الخطيئة السّاكنة في البشر وصلت لنهايتها: أسلمت إبن الله للموت. وما صنعه الله وصل أيضاً لهدفه: التخلّص من شوكة الخطيئة، بتسليم نفسه للخاطئين. هكذا هَزمَ الشرّ وأهلكه بالمغفرة والرّحمة.


كلّ شىء بالفعل قد تم، قد وصل لغايته. هكذا يقول المسيح بكلمته السادسة: "كلّ شيء قد تمّ" (يو 19:30). الآن هناك خليقة جديدة مفديّة بدم الحمل، تحمل روح الله. كلّ شيء قد وصل لهدفه، فها هي العروس قد تزينت، وارتدت ثياب النّقاء والمجد في انتظار عودة عريسها، وإن كان عليها أن تنتظر وتصارع حتّى يأتي.




ولكن تبقى الكلمة الأخيرة التي سيقولها المسيح قبل أن يسلم روحه.... وإلى صباحِ يومٍ ثانٍ.


إذاعة الفاتيكان - 2010.