آلامَ الزَّمنِ الحاضِر لا تَعادِلُ المَجدَ الآتي «متفرقات

 

 

 

 

 

آلامَ الزَّمنِ الحاضِر لا تَعادِلُ المَجدَ الآتي

 

 

 

إنْ حمَلتَ الصَّليبَ طَوعاً حَملكَ هُوَ، وقادَكَ إلى النّهايَةِ المُبتغاة، حيثُ انتِهاءُ الألم، وإنْ لمْ يَكُنْ ذلك في هذه الحياة. وإنْ حَمَلتَهُ مُكرَهاً، جعلتَهُ عِبئاً عليك، وَثِقلاً فوق ثِقلٍ على نفسِك: وهكذا، لا بُدَّ لك مِن الاحتِمال. فإنْ اطـَّرَحتَ صليباً، وَجدْتَ آخَرَ دُونما شَكّ، وَلرُبَّما أثقل.

 

أتَظـُنُّ، أنتَ، أنَّهُ بِوِسعِك التَّخلّصَ، مِمّا لمْ يَستَطِعْ قط ُّ بَشرٌ أنْ يُفلِتَ منه؟ مَنْ مِن القدِّيسين خَلا في حياتِهِ مِنْ صليبٍ وَشِدَّة؟ فإنّهُ، ولا سَيِّدُنا يسوع ُ المسيحُ، قدْ خلا ساعةً واحِدة، في حياتِه كُلِّها، مِنْ مُعاناةِ الآلام. ولقدْ قالَ: "كان ينبغي للمَسيحِ أنْ يتألّمَ ويَقومَ مِن بينِ الأموات، ثمَّ يدخُلَ هكذا إلى مَجدِه". فكيفَ تَطلـُبُ أنتَ طريقاً آخَر، غيرَ هذا الطريقِ الملكيّ طريقِ الصَّليبِ المُقدَّس؟

 

 حياةُ المَسيح كُلّها كانتْ صليباً واستِشهاداً: وأنتَ تَطلـُبُ لِنَفسِك الرَّاحة والفرَح؟ إنَّك لَفي ضَلالٍ، حقّاً في ضلالٍ، إنْ طلبْتَ شيئاً آخَر، سِوى مُعاناةِ الشّدائِد؛ لأنَّ هذه الحياة المائِتة مُفعَمة كلّها شقاءً مُكتنَفة بالصُلبان. وبِقدرِ ما يَسمو الإنسانُ في التّقدُّمِ الرّوحيّ، يَجِدْ في الغالِب صُلباناً أثقل، لأنَّ عذابَ مَنفاهُ يتزايَدُ بسببِ حُبِّه.

 

على أنَّ الإنسانَ المُبتَلى هكذا بكثرةِ الكُروب، لنْ يخلو مِنْ فرجِ التَّعزيَة، لِشعورِهِ بتزايُدِ الثمَرِ العظيمِ لاحتِمالِهِ الصّليب. فإنّهُ عندما يَخضَعُ طَوعاً للصّليب، كُلُّ ثِقلِ الشّدَّةِ يتحَوَّلُ إلى ثقةٍ بالتّعزيةِ الإلهيّة. وَبِقدرِ ما يُسْحَق جَسَدُهُ بالبلوى، تزدادُ نفسُهُ قوَّة بالنِّعمَةِ الباطِنة. وأحياناً، ولِرغبتِهِ في التّشبُّهِ بالمَسيحِ المَصلوب، يتقوَّى، بحُبِّهِ المَضايِق َ والشّدائِد، فلا يعودُ يَستَطيبُ العيشَ بِلا وجَعٍ ومِحنة؛ ويعتَقِدُ أنّهُ يَزدادُ قبولا ً لدى الله، بِقدرِ وَفرَةِ وَشِدّةِ ما يتسنّى لهُ احتِمالـُهُ لأجلِه. غيرَ أنَّ ذلك ليسَ بِقُدرَةِ بشَرٍ، بل بنعمةِ المَسيح، التي لها مِن القُوَّةِ والفعلِ في الجَسَدِ الضّعيف: ما يَجعلهُ يَعتنِقُ وَيُحِبُّ بِحرارةِ الرّوح، ما كان، مِنْ طبعِهِ يَكرهُهُ دائِماً ويتجنّبُهُ.

 

ليسَ مِن طبعِ الإنسانِ حملُ الصَّليبِ، وُحُبُّ الصَّليب، وقمْعُ الجسَدِ واستعبادُهُ، والهربُ مِن الكراماتِ، والرِّضى باحتِمالِ الإهانات، واحتِقارُ الذّاتِ، وابتِغاءُ الاحتِقارِ من الآخرين، واحتِمالُ أنواعِ الشَّدائِدِ والمَضارّ، والرَّغبة ُ عنْ كُلِّ نجاحٍ في هذه الدُّنيا. فإذا نَظرتَ إلى نفسِك، فلا قُدرَة لك بذاتِك على شيءٍ من ذلك. لكنّك إنْ اتَّكلتَ على الرَّبِّ، تُعطى القوَّة من السَّماء، ويَخضَعُ لِسُلطانِك العالمُ والجسد. بل إنّك لنْ تَخشى حتّى العَدُوَّ إبليس، إنْ كُنتَ بالإيمانِ مُتسلّحاً، وبِصليبِ المَسيحِ متَّسِماً.

 

أعدِدْ إذن نفسَك، كعبدٍ للمَسيح، صالِحٍ وأمين، لأنْ تَحمِلَ بِبسالةٍ صليبَ ربِّك، الذي صُلِبَ حُبّاً لك. هَيِّئ نفسَك لاحتِمالِ مُعاكساتِ كثيرة، ومَضايق شتّى، في هذه الحياةِ الشّقيَّة، فهيَ نَصيبُك المُلازِمُ، أينما اختبأتَ.

 

ذلك ما لا بُدَّ منهُ: وَمِنْ ثَمَّ لا نجاة لك منْ وطأةِ السُّوءِ والغَم، إلّا في اعتِصامِك بالصَّبر على أمْرِك. تَشوَّقْ إلى أنْ تَشرَبَ كأسَ الرَّبِّ، إنْ أردْتَ أنْ تَكون لهُ صديقاً، وأنْ يكون لك معهُ نَصيب. فوِّضْ إلى اللهِ أمرَ التّعزيات: وليَتَصرَّفْ بِحَسَبِ كثرةِ مَرضاتِه. أمَّا أنتَ فأعدِدْ نفسَك لاحتِمالِ الشّدائِد، وَعُدَّها كأعظمِ التّعزيات، "لأنَّ آلامَ الزَّمنِ الحاضِر" – ولو استَطعتَ احتِمالها كُلّها وَحدَك، "لا تَعادِلُ المَجدَ الآتي"، الذي ستستحِقّهُ لك.

 

ومتى تَوصَّلتَ إلى أنْ تُضْحيَ الشّدَّة ُ لديك، عذبة ومُستَطابة لأجلِ المسيح؛ حينئِذٍ، إحْسَبْ نفسَك سعيداً: إنَّك قدْ وَجدتَ الفِردوسَ على الأرض. وما دُمتَ تستثقِلُ الآلامَ وتَطلـُبُ التّخلّصَ منها، فأنتَ في شقاء، وتُلاحِقُك، أينما ذهبْتَ، الشّدَّة ُ التي تتَهَرَّبُ منها.

 

إنْ اعدَدتَ نفسَك لِما لا بُدَّ مِنهُ، أعني التَّألّمَ والموت؛ غَدوتَ سريعاً على أحسَنِ حالٍ، وَوجدْتَ السَّلام. فإنّك ولو اخْتُطِفتَ مع بولسَ إلى السَّماءِ الثالثة، لسْتَ لذلك في مأمَنٍ من كُلِّ بليَّة. "فإنّي سأريهِ، يقولُ يسوع، كم ينبغي لهُ أنْ يتألّمَ مِن أجلِ اسمي" فما لك إذن سِوى التّألّم، إنْ شئتَ أنَّ تُحِبَّ يسوع وتخدُمَهُ على الدّوام. 

 

يا ليتَك كُنتَ أهلا ً أنْ تَحتَمِلَ شيئاً مِن أجلِ اسمِ يسوع! فما أعظَمَ ما كان يعودُ عليك مِن المَجد! وينشأ ُمِن الفرَحِ لجَميعِ قدِّيسيِّ الله! ويحصَلُ مِن البُنيانِ للقريب! في الواقِعِ، الجَميعُ يوصون بالصَّبر، بينما الذين يَرضون بالاحتِمالِ فقليلون. وأنَّهُ لَصَوابٌ حقّاً أنْ تَحتَمِلَ مِنْ أجلِ المَسيح، وعن نفسٍ طيِّبةٍ، يسيراً من الآلام، بينما الكثيرون يحتمِلون مِنْ أجلِ العالم، أعظَمَ مِن ذلك بكثير.

 

إعلمْ يَقيناً: ينبغي أنْ تُعاني المَوتَ طَوالَ الحياة وإنَّهُ بِمِقدارِ ما يَموتُ الإنسانُ عن نفسِهِ،  يبتَدىءُ يحيا لله أكثرَ فأكثر. ما مِن أحدٍ جديرٌ بإدراكِ السَّماويَّات، إنْ لمْ يُخضَعْ نفسَهُ لاحتِمالِ الشّدائِدِ لأجلِ المَسيح. لا شيءَ، في هذا العالم، أكثرَ مَرضاةً لله، ولا أكثرَ فائِدةً لِخلاصِك، مِن التَّألّمِ، بطيبةِ نفسٍ، لأجلِ المَسيح. ولوْ خُيِّرْتَ، لوَجَبَ عليك أنْ تُفضِّلَ احتِمالَ الشّدائِد لأجلِ المَسيح، على التّنعُّم بكثرةِ التّعزيات: إذ تكونُ بذلك أكثرَ تَشبُّهاً بالمَسيح، وأوفرَ تَمَثـُّلاً بِجَميعِ القدِّيسين. فإنَّ استِحقاقنا وتقدُّمَنا بكثرةِ العُذوباتِ والتّعزيات، بل بالأولى باحتِمالِ المَشقّاتِ والمَضايِقِ العظيمة.

 

لو كان حَقّاً شيءٌ أفضَلُ وأنفعُ لِخلاصِ البَشرِ مِن التّألّم، لكان المَسيحُ بِلا شكٍّ، أرشَدَنا إليهِ بالقولِ والمِثال. لكِنّهُ، يُحَرِّضُ صَريحاً على حمْلِ الصَّليب، ليسَ فقط التّلاميذ الذين تَبِعوهُ، بلْ وأيضاً جميعَ الرّاغبين في اتِّباعِه، قائِلاً: "مَنْ أرادَ أنْ يتبعني، فليَكفُرْ بِنفسِهِ ويَحمِلْ صليبَهُ ويتبعني" وعليه، وبعدَ تَصَفُّحِ كُلِّ شيءٍ وتفحُّصِه، إليك هذه الخُلاصة النهائيَّة: "بمَضَايِق َ كثيرةٍ ينبغي لنا أنْ نَدخُلَ ملكوتَ الله".

 

 

 

 

من كتاب الإقتداء بالمسيح 

(السفر الثاني - الفصل الثاني عشر 5 -15)