أُطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ «متفرقات

 

 

كلُّ ما في الإنجيل ثورة؛ فما من قولٍ من أقوالِ يسوع يشبهُ كلامَ الناس.

 

 

  استمع إلى هذا القولِ مثلاً: "أُطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وذَلِكَ كُلُّهُ (ضروريّات الحياة) يُزادُ لَكُمْ".

 

 

بصورةٍ عامَّة، يسعى الإنسانُ جادًا إلى تأمين حاجاته ضمانةً لحياتِه، وهذا ما يشكّل همّه الأوّل. وقد يكونُ الأمرُ كذلك بالنسبةِ إليك. وها إنّ يسوعَ يقترحُ عليك طريقةً مختلفةً للتفكير والعمل، يقترحُ عليكَ طريقتَه "هو" في التصرّف. إنّه يطلبُ منكَ أن تغيّرَ رؤيتَكَ وتصرّفَكَ كليًّا وتثبتَ فيهما. يطلبُ منكَ السعيَ، "أوَّلاً" إلى ملكوتِ الله. 

 

 

 

عندما تتجهُ بكلّ كيانِكَ نحو الله، فتعملُ كلَّ ما في وسعِكَ، حتّى يكونَ، "هو"، الملكُ عليكَ وعلى الآخرين، أي حتّى يقودَ حياتَكَ وفقَ شريعتِهِ، لا بدَّ عندَها من أن يعطيَكَ الآبُ، يومًا بعد يوم، كلَّ ما تحتاج إليه.

 

 

 ولكن، على العكس، إذا ما بقِيَتْ ذاتُكَ هي محور اهتمامك وبقيْتَ مهتمًّا بأمورِ هذا العالم "أوّلا"ً، فسوف ينتهي بك الأمرُ لأن تصبحَ ضحيّةَ هذا الواقع، وتصيرَ خيراتُ هذه الأرض مشكلتَكَ الحقيقيّة وهدفَ جهودِكَ كلِّها. وسوف تقعُ حينها في خطر الاعتماد على قواكَ الشخصيّة وحسب، والاستغناءِ عن الله.

 

 

 

لكنّ يسوعَ يقلبُ الوضعَ رأسًا على عقب. فإذا كان همُّك الأول هو يسوع وأن تعيش من أجل يسوع، لن يعودَ كلُّ ما تبقّى يشكِّلُ مشكلةً رئيسيّةً في حياتِكَ، بل "إضافة" أو ما "يزادُ لكَ".

 

 

 هل هذا وهمّ؟ هل هو أمرٌ يستحيلُ عليك تحقيقُه، أنتَ الإنسانُ المعاصرُ الغارقُ في عالمٍ صناعيٍّ يخضعُ لروحِ المنافسة وتغلبُ عليه الأزماتُ الاقتصاديّة؟

 

 

 أُذكّرك فقط بأنّ صعوباتِ العيش التي كان يعاني منها سكانُ "الجليل" في أيّام يسوع لم تكنْ بأقّلَّ من ذلك، حين قال هذه الكلمات.

 

 وهمٌ أم لا؟ لا تكمنُ المشكلةُ هنا. المهمّ أنّ المسيحَ يضعُ حياتَكَ أمامَ توجّهٍ جوهريٍّ:

 

 إمّا أن تحيا لنفسِكَ، وإمّا أن تحيا لله.

 

 

 لنحاولِ الآن أن نفهمَ جيّدًا هذا القول: "أُطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وذَلِكَ كُلُّهُ يُزادُ لَكُمْ".  

 

 

 إنّ المسيحَ بقوله هذا، لا يدفعُ بكَ إلى الجمود واللامبالاة أمام ما يحيط بكّ من الأمور الزمنيّة، أو إلى التصرف بعدم مسؤوليّة أو سطحيّة في عملك. إنّه يريدُ أن يحوّلَ "همّك" إلى "اهتمام" وحسب، محرّرًا إياكَ من كلّ قلق وخوف واضطراب.

 

 

        وعليه فإنّه يقول: "أُطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ..".

 

 

 "أولاً" تعني هنا "قبل كلّ شيء". إنّ طلبَ ملكوتِ الله يأتي في المرتبةِ الأولى من دون أن ينفيَ ذلك أنّ على المسيحيّ أن يهتمَّ أيضاً بحاجاتِهِ اليوميّة الحياتيّة.

 

 

  أمّا "طلبُ ملكوتِ الله وبرِّه" فهذا يعني أن تُخضِع مسلكَكَ لمتطّلباتِ الله التي عبّر عنها يسوع في الإنجيل. فقط عندما يطلبُ المسيحيّ ملكوتَ الله، يستطيعُ أن يختبرَ كلّ قدرةِ الآب الرائعة الساهرةِ عليه.

 

هناك اختبارٌ يعودُ إلى سنوات خلت، لكنّه ما زال حاليّاً يعبّر عن الواقع خيرَ تعبير، إذ أعرف العديد من الشباب الذين يتصرّفون اليوم كما تصرّفَتْ هذه الفتاة التي سأحدّثكَ عنها.

 

 إسمُها "فيرا"، وقد التحقتْ بالمدرسة الثانويّة. عائلتُها فقيرة من دون معيل، وحدَه معدّلٌ دراسيّ متفوّق يؤهّلُها للحصول على منحةٍ، تؤمِّن لها متابعةَ دراستِها. كان إيمانُها قويًّا صلبًا.

 

  أستاذها بمادة الفلسفة ملحدٌ. وغالبًا ما يُشوِّهُ الحقائقَ المتعلّقةَ بالمسيح والكنيسة.

 

وكان قلبُ هذه الفتاة يضطرمُ في صدرِها. لا من أجلِ نفسِها، بل حبًّا بالله وبالحقيقة، وبرفيقاتها. كانت تعرفُ جيّدًا أنّها لو خالفَتْ أفكارَ أستاذِها فسوف تعرّضُ نفسَها للحصول على علامةٍ متدنيّة. ولكنّ ما تشعر به في داخلها كان أقوى منها، فكانت ترفع إصبعها وتطلبُ الإذنَ في الكلام كلّ مرّة قائلة: "هذا غيرُ صحيح، يا أستاذ".

 

 

  وغالبًا ما كانت تعوزُها الحججُ لتواجِهَ طروحاتِ أستاذِها. ولكنّها كانت تضعُ كلَّ إيمانِها في قولِها "هذا غيرُ صحيح". والإيمانُ هبةٌ تحمِلُ الحقيقةَ وتدعو إلى التفكير.

 

  حاولتْ رفيقاتُها عبثًا، لأنّهم يُحبونها، ثنيَها عن مداخلاتِها تلك، خوفًا من أن يُسيءَ هذا التصرّف إليها. ومضَتْ أشهرٌ وحانَ وقتُ إعلانٍ النتائج. أخذَتْ "فيرا" دفترَ علاماتِها مضطربةً لكنّها ما لبثَتْ أن أطلقَتْ فرحتَها: لقد نالَتْ 10، أعلى علامةٍ يمكِنُ لطالبٍ أن يحصلَ عليها.

 

 

 لقد طلبَتْ ملكوتَ الله وحقيقتَهُ قبلَ كلِّ شيء وما تبقّى جاءَ علاوةً على ذلك.

 

"أُطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وذَلِكَ كُلُّهُ يُزادُ لَكُمْ".

 

 فإن طلبتَ أنتَ أيضًا ملكوتَ الآب، سوف تختبرُ أنّ الله "عناية"، وأنّه يدبّرُ كلَّ ما هو ضروريّ لحياتِكَ، وسوف تكتشفُ الناحيةَ الخارقةَ للإنجيل والطبيعيّةَ في آن معًا.

 

كيارا لوبيك ( أيّار 1979)