"اسمع يا شعبي فأُكلِّمَكَ" (مز 50، 7) «متفرقات

 

 

 

 "اسمع يا شعبي فأُكلِّمَكَ" (مز 50، 7)

 

ألقى واعظ القصر الرّسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم الجمعة تأمّله الثاني لزمن الصَّوم في كابلة أمّ الفادي في القصر الرسوليّ بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، واستهلّه بالقول:

 

إنّ الإله البيبليّ هو إله يتكلّم. "تكلّم الربّ إله الآلهة...إلهنا يأتي ولا يصمُت" (مز 50، 1- 3). والله نفسه يكرّر مرّات عديدة في الكتاب المقدّس: "اسمع يا شعبي فأُكلِّمَكَ" (مز 50، 7). إنّ الله قد استعان بالكلمة ليتواصل مع خلائقه البشريّة.

 

 لكن أي معنى ينبغي علينا أن نُعطي للإستعارات التجسيميّة كـ "قال الله لآدم" أو "هكذا تكلّم الرّبّ" أو "قال الرّبّ" وغيرها؟ إنّه كلام يختلف تمامًا عن كلام البشر لأنّه يتوجّه إلى آذان القلب. فالله يتكلّم بالطريقة عينها التي يكتب فيها! يقول للنبيّ إرميا: "أجعل شريعتي في بواطنهم وأكتبها على قلوبهم" (إرميا 31، 33).

 

الله لا يملك فمًا ولا نفسًا بشريًّا: فمه هو النبيّ ونفـَسُه هو الرّوح القدس. "ستكون فمي" يقول هو نفسه لأحد أنبيائه وأيضًا "سأضع كلمتي على شفتيك". وفي كلّ حال إنّه كلام حقيقيّ؛ والخليقة تنال رسالة يمكن أن تُترجم بكلمات بشريّة.

 

إنّ كلام الله حقيقيّ وحيّ لدرجة أنّ النبيَّ يتذكَّر بدقّةٍ الزمان والمكان اللذين نال فيهما كلمة الله: "في السنة التي مات فيها الملك عُزيَّا" (أشعيا 6، 1)، "في الخامس من الشهر، وأنا بين المجلوِّين على نهر كبار" (حزقيال 1، 1).

 

 ما من صوت بشريٍّ بإمكانه أن يطال الإنسان بعمق كما تطاله كلمة الله. فهي "تـَـنفـُـذُ إِلى ما بَينَ النَّفْسِ والرُّوحِ، وما بَينَ الأَوصالِ والمِخاخ، وبِوُسعِها أَن تحكُمَ على خَواطِرِ القَلْبِ وأَفكارِه" (عبرانيين 4، 12).

 

لكن الحديث عن طبيعة أسلوب كلام الله يتغيَّر جذريًّا عندما نقرأ في الكتاب المقدّس "الكلمة صار جسدًا" (يوحنا 1، 14). مع مجيء المسيح، يتكلّم الله أيضًا بصوتٍ بشريّ يمكن سماعه أيضًا بواسطة آذان الجسد "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَته يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة... نخبركم به" (1 يوحنا 1، 1).

 

إنّ الكلمة قد سُمعت وتمّت رؤيتها! ومع ذلك فما نسمعه ليست كلمة إنسان وإنّما كلمة الله لأنّ الذي يتكلّم ليست الطبيعة وإنّما شخص المسيح الذي هو عينه الأقنوم الإلهيّ ابن الله، ومن خلاله يكلّمنا الله شخصيًّا لأنّ المسيح "هو شُعاعُ مَجدِه وصورةُ جَوهرِه" (عبرانيين 1، 3).

 

إنّ كلام الله إن كان من خلال أنبياء العهد القديم أو العهد الجديد والمباشر بالمسيح، وبعد أن نُقل شفهيًّا تمّت كتابته وحصلنا هكذا على الكتاب المقدّس. يكتب القدّيس أغوسطينوس السرّ هو كلمة منظورة؛ ولكن يمكننا أن نقول أيضًا أنّ الكلمة هي سرّ يُسمع.

 

لأنّه في كلّ سرّ يمكننا أن نميّز بين العلامة المرئيّة والواقع غير المرئي الذي هو النِعمة، وبالتالي فالكلمة التي نقرؤها في الكتاب المقدّس هي العلامة المرئيّة لكن بفعل الإيمان ونور الرّوح القدس ندخل بشكلٍ سريّ في لقاء مع الحقيقة الحيّة ومشيئة الله ونُصغي إلى صوت المسيح.

 

يظهر بُعد كلمة الله الأسراري في واقع أنّها تعمل بشكل واضح أبعد من فهم الإنسان وإدراكه المحدودَين وغير الكاملَين. وهذا ما حصل مع القدّيس أغوسطينوس، ففي ذروة جهاده لعيش العفّة سمع صوتًا يقول له: "خُذ واقرأ"، وإذ كان يحمل كتاب رسائل القدّيس بولس، فتح الكتاب وكان المقطع من الرِّسالة إلى أهل روما "لِنَسِر سيرةً كَريمةً كما نَسيرُ في وَضَحِ النَّهار. لا قَصفٌ ولا سُكْر، ولا فاحِشَةٌ ولا فُجور، ولا خِصامٌ ولا حَسَد..." (13، 13)، وكتب في اعترافاته لم أُرد أن أستمر بالقراءة لأنّه وبعد قراءتي لهذه الجملة شعرت بنور يدخل إلى قلبي ويبدّد جميع ظلمات الشكّ التي كانت تقلقني".

 

 الدستور العقائديّ في الوحي الإلهيّ: "لكلام الله من الشدَّة والفاعلية بحيث أنّ الكنيسة تجد فيه دعامة وقوّة، وأبناءها يجدون فيه لإيمانهم عضداً ولنفسهم قوتاً، ولحياتهم الرّوحيّة ينبوعاً صافياً وخالداً" (عدد 21).

 

إنطلاقـًا من الرّاهب الشرتوزيني غويغو الثاني تمّ اقتراح أساليب وطرق عديدة لقراءة كلمة الله والتأمّل بها (lectio divina) ولكنّها كانت تُقدّم على الدوام في إطار الحياة الرهبانيّة والتأمليّة، لكن ولحسن حظّنا، يقدّم الكتاب المقدّس لنا أسلوبًا في متناول الجميع؛ نقرأ في رسالة القدّيس يعقوب: "تَقبَّلوا بِوَداعةٍ الكَلِمَةَ المَغروسَةَ فيكم والقادِرَةَ على خَلاصِ نُفوسِكم.

 

وكونوا مِمَّن يَعمَلونَ بهذه الكَلِمَة، لا مِمَّن يَكتَفونَ بِسَماعِها فيَخدَعونَ أَنفُسَهم. فمَن يَسمعَِ الكَلِمَةَ ولا يَعمَل بِها يُشبِه رَجُلاً يَنظُرُ في المِرآةِ صورَةَ وَجْهِه.

فما إِن نظَرَ إِلى نَفسِه ومَضى حتَّى نَسِيَ كَيفَ كان. وأَمَّا الَّذي أَكَبَّ على الشَّريعَةِ الكامِلَة، شَريعَةِ الحُرِّيَّة، ولَزِمَها، لا شَأنَ مَن يَسمعُ ثُمَّ يَنْسى، بل شأنَ مَن يَعمَل، فذاكَ الَّذي سيَكونُ سَعيدًا في عَمَلِه" (يعقوب 1، 21- 25). بالتالي يُمكننا أن نستشفّ من هذا النصّ أسلوبًا لقراءة كلمة الله والتأمّل بها يقوم على ثلاثة مراحل: قبول الكلمة، التأمّل بها والعمل بها.

 

وسنتوقـّف معًا للتأمّل في كلّ مرحلة من هذه المراحل.

 

 المرحلة الأولى هي الإصغاء للكلمة، يقول لنا الرسول: "تَقبَّلوا بِوَداعةٍ الكَلِمَةَ المَغروسَةَ فيكم". هذه المرحلة الأولى تشمل جميع الأشكال والطرق التي من خلالها يدخل المسيحيّ في علاقة مع كلمة الله. نقرأ في الدستور العقائديّ في الوحي الإلهيّ: "إنَّ المجمع المقدّس يحث أيضاً بصورة خاصّة وبقوّة، المسيحيِّين جميعهم لاسيّما أعضاء الرهبانيات على إستكشاف "معرفة المسيح يسوع الفائقة" بعودتهم المتواترة إلى قراءة الكتب المقدّسة... فليقبلوا إذاً عن رضى على النصوص المقدّسة نفسها سواء عن طريق الليتورجيّا المقدّسة المُشبَعة بالكلام الإلهيّ، أو عن طريق القراءة التقوية، أو بواسطة مبادرات تتلائم والمطلوب" (عدد 25).

 

وفي هذه المرحلة ينبغي علينا أن نتنبّه من خطرَين: الأوّل وهو التوقّف عند المرحلة الأولى وتحويل القراءة الشخصيّة لكلمة الله إلى قراءة مجرّدة لا تمسُّنا. أمّا الخطر الثاني فهو التطرّف أي أن نتوقف عند حرفيّة كلّ ما نقرؤه في الكتاب المقدّس بدون الاستعانة بأي شرح أو تفسير، فنُهمل عمل الرّوح القدس. من خلال مثل الزارع يقدّم لنا يسوع مساعدة لنكتشف أين نحن من قبولنا لكلمة الله. فهو يميّز بين أربعة أنواع من الأرض: جانب الطريق، الصّخر، بين الشوك والأرض الطيّبة، ويشرح بعدها معنى كلّ أرض. لكن وخلال قراءتنا لهذا المقطع قد نتعرض لتجربة الرغبة في المرور السّريع على الفئات الثلاثة الأولى، لنصل إلى الفئة الرابعة التي، وبالرغم من محدوديتنا، نعتقد بأنّها تمثل حالتنا.

 

ولكن في الواقع هنا تكمن المفاجأة لأنّ الأرض الطيّبة هي جميع الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في الفئات الثلاثة السّابقة، أولئك الذين يعترفون بتواضع بالمرّات التي سمعوا فيها الكلمة بدون انتباه، والمرّات التي لم يثابروا فيها في المقاصد التي اتّخذوها والتي ولّدها فيهم الإصغاء لكلمة الإنجيل، هؤلاء الأشخاص وبدون أن يعرفوا أصبحوا الأرض الطيّبة الحقيقيّة.

 

 أمّا المرحلة الثانية التي يقدّمها لنا القدِّيس يعقوب فهي "تحديق النظر" في الكلمة كمن ينظر في المرآة أي التأمل في الكلمة، وفي هذا السِّياق استعمل آباء الكنيسة استعارات "المضغ والاجترار" للإشارة إلى التأمل والتفكير الطويل بهذه الكلمة، أي أن نسمح للكتاب المقدّس أن يتفحصّنا ويسبر قلوبنا.

 

نقرأ في الرّسالة إلى العبرانيَّين: "إِنَّ كَلامَ اللهِ حَيٌّ ناجع، أَمضى مِن كُلِّ سَيفٍ ذي حَدَّين، يَنفُذُ إِلى ما بَينَ النَّفسِ والرُّوحِ، وما بَينَ الأَوصالِ والمِخاخ، وبِوُسْعِه أَن يَحكُمَ على خَواطِرِ القَلبِ وأَفكارِه، وما مِن خَلقٍ يَخفى علَيه، بل كُلُّ شيَءٍ عارٍ مَكْشوفٌ لِعَينَيه" (عب 4، 12- 13).

 

ففي مرآة الكلمة نحن لا نرى أنفسنا ونواقصنا وحسب وإنّما أيضًا وأوّلاً وجه الله وقلبه. يكتب القدِّيس غريغوريوس الكبير في هذا السِّياق: "الكتاب المقدّس هو رسالة من الله الضابط الكلّ لخليقته، بواسطتها تتعلّم كيف تكتشف قلب الله من خلال كلماته". والكتاب المقدّس قد كتب لهذا الهدف بالذات: لكي يتمكن الإنسان من فهم الله الذي يحبّه، ومتى فهمه يضطرم قلبه حبًّا به. وفي هذا الإطار تشكّل سنة يوبيل الرّحمة مناسبة رائعة لإعادة قراءة الكتاب المقدّس في هذا المنظار: كقصة رحمة الله.

 

 نصل هكذا إلى المرحلة الثالثة التي يقدّمها لنا القدِّيس يعقوب: "كونوا مِمَّن يَعمَلونَ بهذه الكَلِمَة...فمَن يَسمعَِ الكَلِمَةَ ولا يَعمَل بِها يُشبِه رَجُلاً يَنظُرُ في المِرآةِ صورَةَ وَجْهِه. فما إِن نظَرَ إِلى نَفسِه ومَضى حتَّى نَسِيَ كَيفَ كان. وأَمَّا الَّذي أَكَبَّ على الشَّريعَةِ الكامِلَة، شَريعَةِ الحُرِّيَّة، ولَزِمَها... فذاكَ الَّذي سيَكونُ سَعيدًا في عَمَلِه". هذا هو أيضًا الأمر المحبَّب على قلب يسوع: "إِنَّ أُمِّي وإخوَتي هُمُ الَّذينَ يَسمَعونَ كَلِمَةَ اللهِ ويَعملونَ بِها" (لوقا 8، 12).

 

إنّ هذه المرحلة الثالثة تقوم على طاعة الكلمة. يمكن لكلام الله، بفضل عمل الرّوح القدس، أن يصبح تعبيرًا لإرادة الله الحيّة لي. والطاعة لكلمة الله تعني إتّباع الإلهامات الصّالحة، وتقدّمنا في المسيرة الروحيّة يعتمد بمجمله على إصغائنا لهذه الإلهامات الصّالحة وعلى الجهوزيّة والاستعداد اللذين نجيب بهما عليها.

 

وختم واعظ القصر الرّسولي الأب رانييرو كانتالاميسا تأمله الثاني لزمن الصّوم بالقول: يقول أحد آباء الصّحراء إنّ عقلنا هو كالطاحون؛ يطحن طوال النّهار أوّل حَب يوضع فيه في الصباح الباكر. لنُسرعنّ إذًا ونضع في هذا الطاحون منذ الصباح الباكر بذار كلمة الله لكي لا يأتي الشّيطان ويضع فيه بذار الزؤان. إنّ الكلمة المميّزة والتي يمكننا أن نضعها اليوم في طاحون عقلنا هي الكلمة التي يقدّمها لنا شعار سنة اليوبيل: "كونوا رحماء كما أنّ أباكم السَّماوي رحيم هو".

 

 

 إذاعة الفاتيكان.