التأمل الأول لزمن المجيء مع واعظ القصر الرسولي «متفرقات

 

 

 

التأمل الأول لزمن المجيء مع واعظ القصر الرسولي

 

 

 

ألقى واعظ القصر الرسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا صباح يوم الجمعة تأمّله الأوّل لزمن المجيء في كابلة أمّ الفادي في القصر الرّسوليّ بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، وهو التأمّل الأوّل من سلسلة تأمّلات سيُلقيها الأب كانتالاميسا خلال زمن المجيء حول موضوع "فيه خُلِقَ كُلُّ شيَء و كُلُّ شيَءٍ خُلِقَ بِه ولَه" – المسيح والخليقة.

 

 

استهلّ واعظ القصر الرَّسوليّ تأمّله بالقول:

 

في هذا التأمّل الأوّل سنتأمّل حول العلاقة بين المسيح والكون. "فِي البَدءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرضَ. وَكَانَتِ الأرضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجهِ الغَمرِ ظُلمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجهِ المِيَاهِ" (تكوين 1، 1- 2)، يكتب أحد كُتَّاب القرون الوسطى الأباتي ألكسندر نيكمان حول هذه الآيات: "كانت الأرض خالية لأنَّ الكلمة لم يكن قد تجسّد بعد. لقد كانت أرضنا خالية لأنَّ ملء النعمة والحقّ لم يكن قد أقام فيها... كانت الظلمة على وجه الغمر لأنَّ النّور الحقيقيّ الذي ينير كلُّ إنسان لم يكن قد أتى بعد".

 

تكرّس الرّسالة العامّة كن مسبّحًا مقطعًا حول هذا الموضوع: "إنّ مصير الخليقةِ بأسرها، بحسب المفهوم المسيحيّ للواقع، يمرّ عبر سرّ المسيح، الكائن منذ البدء: "كُلُّ شيَءٍ خُلِقَ بِه ولَه" (قول 1، 16). وتُظهِرُ مقدّمةُ إنجيل يوحنّا (1، 1-18) عملَ المسيح المُبدِع ككلمةِ الله (Logos). لكن هذه المقدّمة تفاجئ بتأكيدها على أن هذا الكلمة "صار بَشرًا" (يو 1، 14).

 

لقد دخلَ أحدُ أقانيم الثالوث في الكون المخلوق، مشاركًا إيّاه المصير حتّى الصّليب. فمنذ بدءِ العالم، وبالأخص بَدءًا من التجسّد، يَعمَلُ سرُّ المسيحِ، بطريقة خفيّة، في مُجمَلِ الواقعِ الطبيعيّ، دون أن يؤثِّر هذا الأمر سلبًا على استقلاليته" (عدد 99).

 

إنّ الأمر يتعلّق في أن نعرف المكان الذي يحتلّه شخص المسيح إزاء الكون بأسره، وهذه المهمّة هي ملحّة اليوم أكثر من أي وقت مضى. إنَّ النصوص البيبليّة التي يقوم عليها إيماننا حول دور المسيح الكونيّ هي نصّ بولس من الرّسالة إلى أهل كولوسي: "هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى وبِكرُ كُلِّ خَليقَة. ففيه خُلِقَ كُلُّ شيَء مِمَّا في السَّمَواتِ ومِمَّا في الأَرض ما يُرى وما لا يُرى، أَأَصْحابَ عَرشٍ كانوا أَم سِيادَةٍ أَم رِئاسةٍ أَم سُلطان، كُلُّ شيَءٍ خُلِقَ بِه ولَه. هو قَبْلَ كُلِّ شيَء وبِه قِوامُ كُلِّ شيَء" (كولوسي 1، 15- 17) والثاني هو نص يوحنّا "بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان... وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفهُ" (يوحنا 1، 3. 10).

 

 بالرّغم من التوافق الهائل بين هذين النصّين يمكننا أن نحدّد اختلافـًا بينهما سيكون له تأثيرًا كبيرًا على تطوّر اللاهوت. إنَّ الرّابط الذي يجمع الخلق بالفداء هو بالنسبة للقدّيس يوحنّا اللّحظة التي فيها "الكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا"، أمّا بالنسبة لبولس فهو لحظة الصّليب، وبالتالي فهو التجسّد بالنسبة للأوّل والسرّ الفصحيّ بالنسبة للثاني، ويتابع نصّ الرّسالة إلى أهل كولوسي: "فقَد حَسُنَ لَدى الله أَن يَحِلَّ بِه الكَمالُ كُلُّه. وأَن يُصالِحَ بِه ومِن أَجلِه كُلَّ موجود مِمَّا في الأَرضِ ومِمَّا في السَّمَوات وقَد حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه" (كولوسي 1، 19- 20).

 

إنّ فكر الآباء قد سلّط الضّوء فقط على عنصر واحد وهو معنى المسيح بالنسبة لباقي الخليقة. وبالتالي على السّؤال حول سبب التجسّد من القدّيس أتناسيوس وصولاً إلى القدّيس أنسلموس كان الجواب يأتي بواسطة كلمات قانون الإيمان: "من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السّماء، من هنا كان المنظار هو المنظار الأنتروبولوجيّ للعلاقة بين المسيح والبشريّة ولم يكن يشمل العلاقة بين المسيح والكون.  

 

 في مرحلة معيّنة من نمو الإيمان في العصور الوسطى ظهر جواب آخر على السّؤال "لماذا تجسّد الله"، وكان السّؤال التالي: "هل يُمكن لمجيء المسيح، بكر كلِّ خليقة، أن يكون متعلِّقًا بخطيئة الإنسان التي حصلت بعد الخلق؟" وعلى هذا الخط قام الطوباوي دانز سكوطس بخطوة مقرِّرة، إذ حلَّ التجسُّد من رابطه الجوهريّ بالخطيئة، ويقول إنَّ دافع التجسُّد يقوم في واقع أنّ الله يريد شخصًا خارجًا عنه يحبّه بشكلٍ يليق به. فالمسيح كان سيتجسّد حتى لو أنَّ آدم لم يخطئ لأنّه تتويج الخليقة، وعمل الله الأسمى، لكنَّ خطيئة الإنسان قد حدّدت أسلوب التجسُّد ومنحته طابع الفداء من الخطيئة.

 

 ولكن هل لدى المسيح ما يقوله حول مشكلة الإيكولوجيا وحماية الخليقة أم أنّها تتطوّر بشكل مستقلٍّ عنه كمشكلة تطال اللاهوت ولكن لا الكريستولوجيا؟ إنَّ غياب الجواب الواضح من قبل اللاهوتيين على هذا السّؤال يتعلّق أعتقد بالاهتمام القليل الذي يُعطى للرّوح القدس ولعلاقته بالمسيح القائم من الموت. يكتب القدّيس بولس: "كانَ آدمُ الآخِرُ رُوحًا مُحيِيًا"، لا بل يصل الرّسول إلى القول: "الرَّبَّ هو الرُّوح" ليشدِّد على أنَّ الرَّبّ القائم من الموت يعمل في العالم من خلال الرّوح القدس. إنَّ الرّوح القدس هو القوّة السريّة التي تدفع الخليقة إلى تمامها، وبالحديث عن تطور النظام الاجتماعيّ يؤكِّد المجمع الفاتيكانيّ الثاني أنَّ "روح الله الذي يوجِّهُ بعنايةٍ عجيبةٍ سَير الأزمنة ويجدِّدُ وجهَ الأرض هو يُشرف على هذا التطور. أمّا الخميرة الإنجيليّة فهي التي عَملت وتعمل على أن تبعث في قلب الإنسان شعورًا بالكرامة لا يُقهر" (فرح ورجاء، عدد 26). 

  

 ولكن ما هو الإسهام الخاصّ والشّخصيّ للرّوح القدس في الخليقة وفي تطوّر الكون؟ هو ليس الأساس بل هو نهاية الخليقة والفداء، تمامًا كما هو في نهاية العمليّة الثالوثيّة؛ وهذا ما يمكننا أن نفهمه من الكلمات الأولى في الكتاب المقدّس: "فِي البَدءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرضَ. وَكَانَتِ الأرضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجهِ الغَمرِ ظُلمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجهِ المِيَاهِ" وبالتالي فعَمَل الرّوح القدس الخالق هو في أساس إتقان الخليقة، بمعنى آخر الرّوح القدس هو الذي بطبيعته يتوق لينقل الخليقة من الفوضى إلى الكون، ليجعل منها شيئًا جميلاً ومنظّمًا، عالمًا بحسب المعنى الأصليّ لهذه الكلمة. لكن يبقى السّؤال الأهم عندما يتعلّق الأمر بالإيكولوجيّا: هل لدى المسيح ما يقوله حول المشاكل المُعاشة التي يضعها التحدّي الإيكولوجيّ إزاء البشريّة والكنيسة؟

 

 أعتقد أنَّ المسيح يقوم بدور قاطع حتى على المشاكل الملموسة لحماية الخليقة، وإنّما بشكلٍ غير مباشر إذ يعمل على الإنسان – ومن خلاله – على الخليقة. يقوم بدوره من خلال إنجيله الذي يذكِّر الرّوح القدس المؤمنين به ويجعله حيًّا وعاملاً في التاريخ حتى نهاية العالم. إنَّ الله قد خلق العالم وأوكل حراسته وحمايته للإنسان وهذا ما تعبر عنه الصّلاة الإفخارستيا الرّابعة: "صنعتَ الإنسان على صورتِك، وأَولَيتَهُ شؤونَ العالمِ كلِّه، حتى إذا ما خدَمَكَ، أنتَ خالقَهُ الأوحد، بسَطَ سلطانَهُ على الكائناتِ كلِّها". إنَّ الحداثة التي حملها المسيح في هذا الإطار هي أنّه أظهر المعنى الحقيقيّ لكلمة "سلطان" كما يعنيها الله أي كـ"خدمة"، كما يقول الإنجيل: "تعلَمونَ أَنَّ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتسلَّطونَ علَيها. فلا يَكُن هذا فيكُم، بل مَن أَرادَ أَن يكونَ كبيرًا فيكُم، فَليَكُن لَكم خادِمًا. ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكُم، فَليَكُن لَكم عَبدًا: هكذا ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس". 

     

 إنَّ المسيح يعمل في الخليقة كما يعمل في الإطار الاجتماعيّ أي من خلال وصيّة المحبّة تجاه القريب. وكجميع الأمور، تتمُّ حماية الخليقة على مستويين: المستوى العالميّ والمستوى المحلّي، وهناك قول معاصر يحثّنا على التفكير بشكلٍ عالميّ والعمل على صعيد محلّي: "Think globally, act locally" وهذا الأمر يعني أنّه ينبغي على الارتداد أن يبدأ من الفرد أي من كلّ شخص منّا. واليوم يمكن لهذه القاعدة أن تجد تطبيقـًا مفيدًا لمستقبل الأرض. الميلاد هو دعوة قويّة لهذه الرزانة والاقتصاد في استعمال الأمور، ويعطينا المثال في هذا الخالق نفسه الذي صار إنسانًا ورضي بأن يولد في إسطبل.

 

جميعنا، مؤمنون وغير مؤمنين، مدعوّون للالتزام بالرزانة واحترام الخليقة، ولكن كمسيحيِّين نحن مدعوّون للقيام بذلك بنيّة مختلفة. فإن كان الآب السّماويّ قد فعل كلّ شيء "بالمسيح وللمسيح" هكذا علينا نحن أيضًا أن نجتهد لنفعل كلَّ شيء "بالمسيح وللمسيح" أي بنعمته ولمجده.  

 

 

 

إذاعة الفاتيكان.