التأمل الرابع والخامس في الرياضة الروحية للبابا فرنسيس «متفرقات

 

 

 

 

في تأمّله الرابع في الرياضة الروحيّة السنويّة للبابا فرنسيس وأعضاء الكوريا الرومانيّة دعا الأب برناردو فرنشيسكو ماريا جاني، رئيس دير سان مينياتو آلمونتيه إنطلاقًا من شعر ماريو لوتزي للتأمل حول اللامبالاة مرض مدننا وحول إفناء الحياة في المدن وأكّد أنّنا مدعوُّون للنظر إلى جراح مدن العالم بأسره حتى تلك المعقّدة والمطبوعة بمختلف أشكال الظلم. ولكن علينا أن ننظر إليها بنظرة واقعيّة كما يعلّمنا البابا فرنسيس.

 

 

 

 

توقّف رئيس دير سان مينياتو آلمونتيه عند اللامبالاة – إحدى علامات الشرّ في العالم – والتي غالباً ما تشلُّ قلوبنا وتجعل نظرنا مُغشّى، ما يسمّيه تشارلز تايلور رئيس ليبيريا "تغييب الذات". وإذ استشهد باللاهوتيّ اللوثريّ ديتريخ بونهوفير وقلقه من أجل حياة أجيال المستقبل، شدّد الأب جاني على أنّه ينبغي علينا أن نهتمَّ لإمكانيّة أن نترك للأجيال الجديدة مستقبلاً أفضل من الحاضر الذي نعيشه ونكله إليهم بروح يتعارض جذريًّا مع اللامبالاة وإنّما تحركه المشاركة المتحمِّسة. كذلك تابع رئيس دير سان مينياتو آلمونتيه يقول يدعونا رومانو غوارديني لنقبل المستقبل بمسؤوليّة ونحقّقه بقدر الإمكان مع الربّ وبالتالي لأن ننظر إلى الواقع بدون أن نحلم بمدن مثاليّة لأن أورشليم السماويّة ليست مثالًا بل هي محتوى وعد حقيقيّ وثابت يسلّمه الربّ لكنائسه التي تعيش المحن والتجارب.

 

 

 

 

 

وبالتالي تابع الأب برناردو فرنشيسكو ماريّا جاني موضحًا في هذا السياق أنّ عمل الكنيسة وعمل الرجال والنساء ذوي الإرادة الصالحة هو الخصوبة التي يولِّدها الإصغاء المطيع والشغوف لإنجيل الحياة الذي يعطينا يسوع إيّاه. ولذلك علينا أن نتغلّب على تجربة اللامبالاة وتجربة تغييب الذات اللتان تسيطران أيضًا على رجال الكنيسة وكذلك على الشعور بأنّنا غرباء عن النسيج الحيّ للواقع مع صعوباته ومشاكله وتناقضاته، أي عن مدننا التي دُعينا لكي نحمل إليها كلمة الله ونجسِّدها مهما كان الثمن. لذلك اقترح الأب جاني دواء الجمال والاعتدال ضدّ جميع أشكال الفردانية كشهادة كبيرة تقدّمها الكنيسة من خلال طبيعتها المتجذّرة في الأخوّة.

 

 

 

أضاف رئيس دير سان مينياتو آلمونتيه يقول تكتب سيمون فايل في أوروبا في المرحلة بين الحربين العالميّتين: "إن الحياة في زمننا هي عرضة للتمادي والإفراط... وكلّ اتزان يعتبر غير سليم فيما هذا ما ينبغي علينا أن نبحث عنه: التوازن بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان والأشياء. نعيش مرحلة لم نرَ لها مثيلاً وهي تتطلّب منّا نوعًا جديدًا من القداسة لا سابق لها... وبالتالي علينا أن نفتح أعيننا على الواقع ونرى النور ونصغي إلى الصّمت الحقيقيّ. هذا يعني أن نتخلّى عن وهم أنّنا المحور".

 

 

 

 

لذلك، تابع الأب جاني يقول نحن مدعوّون لننهض ونفتح أعيننا وننظر إلى الواقع وللتخلّي عن وهم أنّنا المحور. لأنّه بالامتثال بالذي هو الأجمل بين بني البشر وبوضع المسيح في محور الزمان والمكان يمكننا أن نعود مجدّدًا إلى الإصغاء لاستحسان الله الذي أظهره في البدء تجاه خليقته الحبيبة: "وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا"، وأيضًا لاستحسانه إزاء ابنه الحبيب على جبل طابور.

 

 

 

 

وفي ختام تأمّله الرابع استشهد الأب برناردو فرنشيسكو ماريا جاني بالقدّيسين إيريناوس وأغوسطينوس، الأوّل الذي يسأل الإنسان قائلاً: "كيف يمكنك أن تصبح إلهًا إن كنت لم تصبح إنسانًا؟" أي أنّه عليك أن تحافظ على حالتك كإنسان لكي تشارك بعدها في مجد الله. أمّا القدّيس أغوسطينوس في تعليقه على الرّسالة الأولى للقدّيس يوحنّا فيذكّرنا بالجمال الحقيقيّ وكيف يمكننا الحصول عليه، ويقول ما هو الأساس الذي كنّا سنحبّه لو أنّ الله لم يحبَّنا أوّلاً؟ بمحبّته لنا أصبحنا أصدقاءه ولكنّه أحبّنا فيما كنا لا نزال أعداءه وحوّلنا إلى أصدقائه. ففي عالم يهتمُّ كثيرًا بالمظاهر، خلص الأب جاني إلى القول، الجمال هو المعيار الوحيد الذي من خلاله يقبل الشباب أنفسهم ويقبلون الآخرين، ولذلك نعود إلى القول مع القدّيس أغوسطينوس: إنَّ نفسنا أيّها الإخوة هي قبيحة بسبب الخطيئة ولكنّها تصبح جميلة عندما نحبّ الله، فيسوع لكي يعطينا جماله، جعل نفسه قبيحًا.

 

 

 

 

 

أمّا في تأمّله الخامس حثَّ الأب برناردو فرنشيسكو ماريا جاني المشاركين في الرياضة الروحيّة على رؤية الحياة لا كتعبير عن ذواتنا وإنّما كشهادة لخدمة الكلمة. وأكّد أنّه لكي نفهم كيف يعيش الإنسان المعاصر علاقته مع الزمن من الأهميّة بمكان أن نعود إلى تأمّل العالم الاجتماعيّ الفرنسيّ مارك أوجيه والذي بحسبه تنتشر اليوم في العالم إيديولوجيا حول الحاضر بأنّه لم يعد يعتبر نجاح التقدّم البطيء للماضي وبأنّه لم يعد يسمح برؤية مخطّط للمستقبل. وبالتالي تابع الأب جاني مشيرًا إلى أنّه وفي هذا الإطار يصبح من الصعب علينا أن نعيش الذكرى ونتذكّر، أي أن نعيد إلى قلبنا المتنبّه والممتن أحداث الماضي.

 

 

 

 

وفي إطار بعد الذكرى هذا ذكّر رئيس دير سان مينياتو آلمونتيه بما يكتبه البابا فرنسيس في الإرشاد الرسوليّ "فرح الإنجيل": "الذاكرة هي بُعد لإيماننا يمكننا أن ندعوها "تشريعًا ثانيًا" على غرار ذاكرة إسرائيل. فيسوع يترك لنا الإفخارستيا كذكرى يوميّة للكنيسة تُدخلنا في الفصح أكثر فأكثر". وفرح البشارة يسطع على الدوام في إطار ذكرى ممتنّة: إنّها نعمة ينبغي علينا أن نطلبها. فالذاكرة تجعلنا نستحضر العديد من الشهود من بينهم بعض الأشخاص الذي تركوا أثرًا كبيرًا في نمو فرحنا المؤمن.

 

 

 

 

وفي هذا السّياق طرح الأب جاني سؤالاً جوهريًا: هل يشعر الشباب من خلال شهادتنا الكنسية بذكرى صادقة تلهم مستقبلاً ثابتًا أيضًا؟ إن الدرب الذي علينا اتخاذه هو ذلك الذي يظهر جمال الذكرى لأنّه من الأهميّة بمكان أن يشعر الشباب في الجماعات الكنسيّة بتقليد يدخلهم في الحياة مع هذه الأبعاد الجميلة التي يشعرون فيها بأنّهم ليسوا لوحدهم. وإذ شدّد على أن التقليد يضعنا في استمراريّة مع الماضي وأنَّ الإسكاتولوجيا تفتحنا على المستقبل، ذكّر رئيس دير سان مينياتو آلمونتيه بما كتبه القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني في الرِّسالة العامَّة "نور الشرق" أنّه "على كلّ كنيسة أن تناهض التجربة في أن ترى الكمال في ما تحقّق، وبالتالي في أن تمجدّ ذاتها، أو أن تستسلم للحزن. لكن الزمن هو في يد الله، وكلّ ما نحقّقه لا يتماثل أبداً مع كمال الملكوت وملئه، إذ إنّه دائماً عطيّة مجانيّة". وبالتالي وفي هذا المنظار يتردّد صدى الإعلان الجميل: هذا هو معنى الإيمان الكبير أن نقود السفينة إلى العرض تلبية لدعوة الرَّبِّ يسوع بدون خوف من المستقبل المفتوح الذي يدفعنا إليه الرُّوح القدس.

 

 

 

 

واليوم تابع الأب جاني يقول كلّ ما يحصل هو حدث بطريقة أو بأخرى ولكن يمكن في هذا المنظار أن يحيد نظرنا عن الحدث الحقيقيّ ولذلك ينبغي على العودة إلى خبرات التقليد الكبيرة التي تحييها ذكرى حيّة ومبدعة ولاسيّما إلى تلك الخبرة القويَّة مصدر وذروة حياتنا أي الليتورجيّا ولاسيّما الإفخارستيّا أن تجعلاننا نتنبّه من استعمال كلمة حدث بشكل مفرط لأنَّ الحدث الوحيد بالنسبة لنا هو فصح الربِّ يسوع.

 

 

 

 

وختم الأب برناردو فرنشيسكو ماريا جاني تأملّه بالقول ليحوّل عيشنا اليوميّ للذكرى من خلال الإصغاء إلى الكلمة والاحتفالات الليتورجيَّة وصلوات الساعات حياتنا إلى خدمة تمجيد لكي تعيد شهادتنا رجال ونساء زمننا إلى عهد جديد مع الله في الحاضر الذي يعطينا إيَّاه فنقود هكذا البشريّة بأسرها بدون خوف وتردّد نحو المستقبل الذي يعدُّه الرَّبُّ لنا.       

       

 

 

إذاعة الفاتيكان.