روحانية الرسول «متفرقات

 

 

 

 

 

 

 

 

يتواصل في زمن العنصرة انكشاف وجه الكنيسة. إنجيل (متى 12: 14-21 ) يجعلها على مثال رأسها يسوع المسيح الّذي كان يجول في كلّ ناحية ليشفي البشر من جراحاتهم الجسديّة والرّوحيّة والمعنويّة والأخلاقيّة. وهي مثله خادمة تدبير الله الخلاصي.

 

 

 

 

1. جرى الحدث الإنجيلي من بعد أن شفى الرّب يسوع إنسانًا يده يابسة يوم سبت في الهيكل، فاعتبره الفرّيسيّون انتهاكًا لشريعة السّبت. "فخرجوا وبدؤوا يتشاورون كيف يقتلون يسوع" (الآية 12). خافوا على مصالحهم فانتقدوا يسوع، لا لشيء ولكن لأنّ الجماهير تتبعه فيخسرون من "زعاماتهم" على الشّعب. فالفرّيسيّون كانوا حزبًا سياسيًّا، وإن كان له طابع دينيّ، وكانوا يتحضّرون لخوض انتخابات أعضاء السنهدرين، المعروف باسم المجمع اليهوديّ، والتي كانت تتمّ كلّ سنة، أو كلّ ثلاث سنوات على أبعد تقدير. خاف الفريسيّون من أن يتقدّم يسوع مع تلاميذه من هذه الانتخابات. فإن شفى المرضى فسوف ينتخبه الناس، ويخسر الفرّيسيّون بالتالي أصواتًا ثمينة. انزعاجهم لم يكن بالحقيقة من أنّ يسوع يخالف شريعة السبت، بل من أنّه كان يشفي المرضى. هو جشعهم بالسلطة جعلهم يفضلون أن يبقى الناس مرضى على أن يخسروا شيئًا من مكاسبهم. إنّهم مثال الحاكم الأنانيّ الجشع، يسخرون الدين من أجل مصالحهم ويستهترون بمصالح الناس وبصحّتهم من أجل مكاسب دنيويّة.

 

 

 

نرى في هذا المشهد صورة "السياسة الفاسدة" التي تعمل لصالح أصحابها ومكاسبهم، بدلاً من أن تسعى للصالح العام. كان الحريّ بالفريسيّين أن يفرحوا لشفاء المرضى وللخير الذي يقدمه يسوع للشعب. ولكنّهم كانوا يفضلون أن يحكموا شعبًا مريضًا من أن يكون ثمن الشفاء خسران سلطانهم الشخصيّ. تعلّمنا الكنيسة أنّ السياسة "فنّ شريف" غايته الخير العام والنظام العام. ويدعونا الربّ يسوع إلى اختيار القادة الصالحين ومساندتهم كما يدعونا إلى محاسبة الفاسدين، دفاعًا عن الحقّ والعدل والخير.

 

 

 

 

 

2. الموآمرة على قتل يسوع موآمرة سياسيّة بدأت مذ راح النّاس يتعلّقون به أكثر من سلطاتهم الدّينيّة-السّياسيّة.

 

 

 

هو الشرّ يستفحل بالإنسان. ليست كلّ خطايانا ناتجة عن مجرّد ضعف بشريّ، وكأنّي مساق بشيء من "قدريّة الحالة بالبشريّة" إلى ما أرتكبه من أخطاء. هذا عذر يسعى إليه الإنسان ليخفّف من ثقل وخز الضمير.

 

 

 

ونرى كيف أنّ المصالح البشريّة تعمي العيون وتقود الإنسان إلى إزالة الخصم، وإلغائه. كثيرًا ما يصل الإنسان، حين يتمادى في غيّه، إلى إلغاء الله من حياته. أمّا الله فلن يتخلّى عنّا. فهو أمين في وعوده. وهو من قال: "ها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر" (متى ٢٨: ٢٠). ولكنّه قال أيضًا: "ها أنا واقف على الباب أقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشّى معه وهو معي" (رؤ ٣: ٢٠). الربّ الذي خلقنا أحرارًا، يحترم حريّتنا إلى آخر الحدود. هو معنا، ولكنّه عند الباب.

 

 

 

 

 

3. "أمّا يسوع فانصرف من هناك، وتبعه كثيرون، فشفاهم جميعًا" (الآية 15).

 

لم يهرب يسوع خوفًا، بل تصرّف بحكمة وفطنة، متجنّبًا الشّر الّذي لا يجدي بل يتفاقم. هذا الموقف يعلّمنا في بلدان الشرق الأوسط المجروحة بالنزاعات والحروب التي تهدّد بإفراغ المنطقة من مواطنيها وبخاصّة من المسيحيّين. إنّنا مدعوّون إلى الكثير من الحكمة وحسن التصرّف، من أجل المحافظة على وجودنا فيها. إنّ وجودنا في هذه الأرض رسالة إلهيّة فلم نولد هنا بمجرّد صدفة، بل أنّ الربّ يرى فينا رسله الخاصّين إلى هذه البقعة من الأرض، التي شهدت تجسّد ابن الله وتحقيق تصميم الله الخلاصي.

 

 

 

بانصرافه تبعه كثيرون لأنّه يعطيهم كلمة الحياة. هم يعلمون أنّهم، باتّباعه يعرّضون أنفسهم إلى خطر ليس بقليل. فالفريسيّون كانوا أكبر حزب في تلك الأيّام. ولكنّ الروح التي بثّها يسوع فيهم، هي التي كانت تدفعهم إلى هذا الموقف الشّجاع والحرّ.

 

 

 

كم نحن بحاجة إلى رؤية المؤمنين الحقيقيّين اليوم يتبعون المسيح وكنيسته ويتمسكّون بها أمام العالم بأسره، في عصر بات أعداء الكنسية لا يحصون ولا يعدّون، من الخارج والداخل على حدّ سواء. بل تُهاجم الكنيسة بعنف كبير في كلّ مرّة تتمسّك بالقيم والأخلاق، وتعلن التعليم الذي سلّمه إليها الربّ يسوع. وكم يؤسفنا أن يستهين المسيحيّون أنفسهم بالمسؤولين في كنيستهم، ويتّهمونهم بأبشع الأمور، دون أيّ دليل على ذلك. فهم بتصرّفهم هذا يحمّلون ضميرهم وينزلقون في خطايا سوء النيّة والنميمة والاتّهام بالزور.

 

 

 

 

 

4. مثل هذا الموقف يشكّل علامة فارقة أمام الجميع. وهي الشّهادة للمسيح من دون حياء أو خوف أو خجل. إنّها شهادة يحتاجها عالم اليوم، من أجل إعلان الحقيقة، والتّنديد بالظّلم، والدّفاع عن الضّعيف والمظلوم، والمناداة بالسّلام، ورفض الحرب، وممارسة العدالة، واحترام القانون.

 

 

 

نحتاج إلى شهادة شبيبتنا المسيحيّة الملتزمة، وشهادة الأزواج والعائلات بأمانتهم لعهد الحبّ الزّوجي، وديمومة الرّباط العائلي، ومقاومة تيّار الانفصال والتّراخي وانتهاك العهد المقدّس الّذي قطعه الزّوجان أمام الله والكنيسة وبينهما.

 

 

قدّم الرّب يسوع "شهادة الأمانة لرسالته" فشفى جميع الّذين تبعوه من كلّ عللهم الرّوحيّة والمعنويّة والجسديّة. من المعتاد أن نرى يسوع يشفي مريضًا أو إثنين. إنّ أكبر عدد يُخبرنا عنه الإنجيل هو شفاء البرص العشرة (لو ١٧: ١١-١٩). أمّا هنا، بسبب تمسّك هذه الجموع بيسوع رغم الخطر، وبسبب شهادتهم وإيمانهم المعاش والملموس، شفاهم جميعًا: "إيمانكم شفاكم، إذهبوا بسلام". لا أحد أكرم من يسوع. هو الصادق الأمين في محبّته ورحمته.

 

 

 

 

نحن أيضًا، ورغم ما نعانيه من آلام، فإنّنا مدعوّون إلى الانفتاح على الرسالة، أي أن نتابع فعل الخير مع كلّ الناس، حتّى مع أعدائنا، وأن نتابع نشر كلمة الربّ المفرحة.

 

 

 

باتّباعنا الصادق ليسوع لا بدّ أن ننال "الشفاء". هذا الشفاء الذي يؤمّنه لنا يسوع ليس بالضرورة شفاءً جسديًّا، بل هو أهمّ من ذلك بكثير. مواهب الربّ لنا تشفينا من كلّ علة في حياتنا: من الحزن والانهيار من الضياع والتجارب من السقوط في الهلاك. هذا هو الشفاء الأساسيّ في حياة الإنسان. فما فائدة الصحة لإنسان محطّم القلب، منهزم في الحياة. نستذكر على سبيل المثال القدّيسة رفقا التي حملت جسدًا محطّمًا، أما روحها فكانت تضجّ بالحياة والسعادة.

 

 

 

5. "حذّرهم يسوع من أن يشهروه" (الآية 16)، تواضعًا من جهّة، وأمانةً لرسالة المحبّة والرّحمة كواجب لا يُحمد عليه عندما يتمّه، واحترامًا لحساسيّة الفرّيسيّين الّذين تآكلتهم الغيرة والحسد. وبذلك أيضًا عاش يسوع ما سبق وعلّم: "لا تعملوا الخير أمام النّاس ليروكم، وإلاّ فلا أجر لكم عند أبيكم الّذي في السّماوات. فإذا صنعتَ خيرًا لأحد، لا تطبّل ولا تنفخ بالبوق، كما يفعل المراؤن في الشّوارع والمجامع، لكي يمدحهم النّاس" (متى 6: 1-2).

 

 

 

6. تمّت فيه نبؤة آشعيا النّبي: "هوذا فتاي الّذي اخترته. حبيبي الّذي رضيت به نفسي" (الآية 18). تحقيق نبؤة آشعيا عبارة ترد مرّات عديدة في إنجيل متّى، لا بل هي تشكّل نوعًا من الخيط الرابط لنصوص هذا الإنجيل، كما تحكم الرباط بين العهد القديم والجديد. نكتشف هنا الوحدة الكيانيّة بين العهدين، فلا يمكننا قراءة العهد الجديد من دون العودة إلى أساس الحدث في العهد القديم. كما لا يمكننا قراءة العهد القديم، قراءةً مسيحيّةً، إلاّ على ضوء العهد الجديد والحدث المسيحانيّ. هذه دعوة لنا للتعمّق في معرفة الكتاب المقدّس بكلّ إجزائه. فكلمة الله تحيينا وترشدنا في سبيل الخلاص.

 

 

 

 

يسيء البعض فهم هذه العبارة، "ليتمّ ما قيل بالنبيّ"، معتبرين أنّ فيها نوعًا من "التبصير" وقراءة المستقبل كأنّ الروح القدس منح الأنبياء قدرةً على معرفة الغيب، فأخبروا بما سوف يحدث في المستقبل. لا تقبل الكنيسة مثل هذه القراءة للأنبياء. فما قالوه هو "بشارة" بمعنى أنّهم، وبإلهام الروح القدس، أدركوا مخطّطات الله وسبله فأعلنوا تلك الحقائق. مثلاً، فهم الأنبياء أنّ الله المحبّة لا يمكنه أن يتخلّى عن شعبه، لذلك لا بدّ أن يأتي ويخلّصهم. وهذا ما تمّ عند تجسّد يسوع. كما فهموا مدى صعوبة رسالة المسيح المنتظر، وأنّه لا بدّ من أن يعاني الآلام للتوصل إلى نشر رسالته. وهذا ما تمّ عند موت يسوع على الصليب. وهنا يذكّرنا القدّيس متّى بنصّ من أشعيا (أش ٤٢: ١-٤) عنوانه "نشيد العبد المتألّم"، يعرض فيه صفات المسيح، ومعاناته من أجل الرسالة.

 

 

 

النبوّة هي أساسًا إلتزام بالربّ وبكلمته، وإليها مدعوّ جميع المؤمنين. ولذلك تعلن الكنيسة أن كلّ معمّد نبيّ، بمعنى أنّه مدعو ليشهد لله ولإرادته التي أظهرها بابنه يسوع المسيح وأنّه شريك في كهنوت المسيح العام وملوكيته. على ضوء هذا المفهوم، ليس النبي شخصًا "يقرأ المستقبل" ويعلم الغيب. فهذه الأمور مخفيّة عن الإنسان، كلّ إنسان، وهي في علم الله وحده دون سواه: "أمّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلمها أحد، ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن، إلاّ الآب" (مر ١٣: ٣٢). بل النبيّ هو المدعوّ من الله لينقل كلامه إلى الشعب وإلى الملك والحاكم، كما نشهد في أنبياء العهد القديم، مثل: موسى وصموئيل وعاموس وآشعيا وإرميا وحزقيال وسواهم. (الحقيقة المحررة والجامعة ٢١).

 

 

 

 

 

7. مضمون نبوءة آشعيا ومفهومه:

 

 

 

"هوذا عبدي". هذه الكلمة يقولها الله، لا آشعيا. كلمة "عبد" عبرانيّة الأصل مشتقّة من فعل "صنع". أنا عبد الله تعني أنّ الله صنعني. أنا "تحفة الله" بالنّسبة إلى كلّ المخلوقات الأخرى.

 

 

عندما يسمع المؤمن اليوم هذا النداء أنّه "عبد الله" عليه أن يشعر بكرامته وفرادته. بالتالي هذا النداء هي دعوة لنا لنحافظ على يد الله وصورته التي فينا، متصرّفين بما يليق مع هذه الصورة وهذا المثال.

 

 

في العهد القديم، طُبّق هذا النشيد على كلّ مؤمن ملتزم بالربّ، كالأنبياء والملوك. ولكن، بما أنّ الإنسان ضعيف، ويسقط في الخطيئة، لم يستطع أحد أن يثبت مع الله. لذلك، يرى القدّيس متّى أنّ يسوع وحده، المنزّه عن كلّ خطأ، هو العبد الحقيقيّ الذي يحقّق مشروع الله ويقوم بما لم يقدر الناس على القيام به. إن هذا النشيد يطبّق اليوم على جميع المؤمنين باسمه. فالمسيح فتح لنا الطريق بموته على الصليب، ونحن نتبع خطاه في خدمة الله لتحقيق مشروعه الخلاصيّ.

 

 

 

"الّذي اخترته". النّص العبري يقول "الذي أعضده". الله اختاره وبالتّالي يعضده ويسانده، لكي يتمّم رسالته. "أعضد" تعني أولاً أقف بجانبه وأساعده: الله لن يتخلّى عن هذا العبد لأنه يفعل إرادته. الله صادق من بداية النشيد. يقول لعبده: طريقك معي لن تكون بدون صعوبات ومحن، ولذا، أنزل لأكون إلى جانبك، كي لا تبقى وحيدًا وبدون القدرة اللازمة. هذا ما قاله يسوع المسيح لكلّ واحد منّا: "احمل صليبك واتبعني". بدون يد الله لا يستطيع أحد إكمال مسيرته الإيمانية.

 

 

 

"حبيبي" اللفظة العبريّة تقول "مختاري" وهي كلمة تعني أن الله بحث عنه مليًّا. الله يختارنا وهو يدقّق فينا. هو اختار كلّ واحد وواحدة منّا وأعطاه رسالةً ومخطّطًا خلاصيًّا ودعوةً تتناسب تمامًا مع قدراته ومع الوزنات التي وضعها فيه. الله يعلم من يختار ولأيّ مهمّة يرسله، لذلك، علينا، متى سمعنا صوته أن لا نتردّد ولا نخاف. فهو لا يرسلنا إلى المجهول. بل لقد أعدّ كلّ شيء، بكثير من العناية والتأنّي.

 

 

 

الله يعرف أفكاري وضعفي ومكنونات قلبي. ويرضى بي، رغم كلّ شيء. يرضي بي لدرجة أنّني "حبيبه". يجب أن لا تردعنا الخطيئة التي فينا عن الانطلاق وراء الله.

 

 

 

بسبب أمانة عبد الله يرضى الله عنه: "الّذي رضيت به نفسي". تظهر هذه الأمانة في الثّبات بوجه المحنة. نتذكّر الرّب يسوع في بستان الزّيتون عندما صرخ إلى الآب من شدّة المحنة: "أبعد عنّي هذه الكأس!" ثمّ استدرك بالأمانة وقال: "ولكن لا مشيئتي بل مشيئتك" (لو 22: 42).

 

 

 

8. إلى الآن كان اختيار "عبد الله". ثمّ تكشف نبوءة آشعيا رسالته: "سأضع روحي عليه". إنّها المسحة الإلهيّة الّتي تخوّله القيام بالرّسالة الموكلة إليه. مع المسحة تُعطى النّعمة الإلهيّة الّتي تشفي وتعضُد وتُعزّي وتُشدّد. وهي ضمانة إلهيّة من أجل النّجاح في إداء الرّسالة.

 

 

 

أما الرّسالة فهي "أن يبشّر الأمم بالحق" أي بكلمة الله، يعلنها لجميع النّاس والشّعوب في أربعة أقطار العالم، ولا سيّما لغير المؤمنين (الأمم). هذه الرّسالة هي رسالة الكنيسة اليوم وفي كلّ جيل.

 

 

 

9. تتكلم نبوءة آشعيا عن نهج عبد الله:

 

"لن يماحك ولن يصيح، ولن يسمع أحد صوته في السّاحات" (الآية 19).

 

 

 

لا يريد الله منا فتح حرب كلاميّة، او نقاشات فيها حقد. البشارة لا تكون بالهجوم على الآخر أو بقول كلام جارح له. كيف لي أن أبشّر بمحبة يسوع بهذه الطريقة؟ نبشّر بالمثل الصالح، بعيش الإيمان أمام الناس. عندما كانت الكنيسة مضطهدة في العصور الأولى، يقول آباء الكنيسة أنّ الوثنيّين آمنوا بمجرد النظر إلى المسيحيّين: "انظروا كم يحبّون بعضهم بعضًا حتى أن الواحد مستعدّ أن يضحّي بحياته من أجل الآخر".

 

 

 

في أيامنا هذه، باتت صفحات التواصل الاجتماعيّ أبواقًا مفتوحةً للماحكات والصياح. الكلّ يهاجم الكلّ، وبأساليب تخلو من أقلّ أصول التهذيب في الحديث، لا بل ويتم دفع المال من أجل "إسماع صوتنا في الساحات"، عكس ما يقوله الكتاب المقدّس هنا.

 

 

البشارة ليست سجالات ومواقف. التبشير بإله المحبة لا يمكن أن يكون الاّ بالمحبة، وبعيش المحبة، "فالإناء ينضح بما فيه". هذا الأمر لا يخلو من الصعوبة، حتّى على رؤساء الكنيسة. فكلام الافتراء جارح. ولكن يجب أن نتذكّر ما يقوله الربّ في هذا النصّ نفسه: "أعضده" و "أجعل روحي عليه". على هذا نتّكل.

 

 

 

"قصبة مرضوضة لن يكسر، وفتيل مدخّن لن يطفئ". لهذه الكلمات معانٍ وشروحات متنوّعة. لكن مغزاها واحد: الصّبر والاحتمال وسط المحن والمصاعب، لأنّ الله متّكلنا. نختار من بين الشّروحات الشّرح التّالي: نجد هنا صورةً السفر، بمعنى الجهاد مع الله، ومسيرة القداسة. القصبة الطويلة، نمسكها لنمشي بها في الصحراء. والفتيل هو السراج الذي نضيئه للاستنارة في الليل. فالسير ليلاً في الصحراء أقلّ حرارةً من النهار. ولكنّ الرحلة طويلة جدًا وشاقّة لدرجة أنّ القصبة انثنت، من كثرة ما ألقى الإنسان عليها بثقله والقنديل، سينطفىء لقلّة الزيت المتبقّي فيه. لدرجة أن الإنسان سيفقد الأمل. لكنّ الربّ سيحافظ على السراج مضيئًا.

 

 

 

10. تبلغ الرّسالة نجاحها بالشّكل المضمون: "إلى أن يصل بالحق إلى النّصر. وباسمه تجعل الأمم رجاءها" (الآية 20-21).

 

يضمن لنا الله نجاح الرسالة، لأنّها رسالته هو. ومن ناحية ثانية، ما يضمن النجاح هو أنّ الأمم تترجّى هذا الخلاص. الأمم هم جميع الشعوب. إذًا، يريدنا الله أن نفهم أنّ كلّ الناس ينتظرون البشرى السارة. نجد في يومنا كثيرين يرفضون أن يسمعوا أيّ شيء عن المسيحيّة، بل يقاومون الكنيسة وتعاليمها. يحاول هؤلاء إيهامنا أنّ العالم بعيد جدًا عن المسيح وعن كلامه. ولكن الحقيقة هي غير ذلك.ش

 

 

هذه الآية تتوجّه إلى المبشّرين كي لا يفقدوا الأمل من نجاح مهمّتهم؛ وتتوجّه إلينا كي لا نقفل يومًا باب قلبنا بوجه أحد، معتبرين أنّه غارق في الخطيئة بشكل أن لا توبة ولا خلاص له ممكنين؛ وتتوجّه أيضًا إلى الأهل والمربّين الذين يحكمون أحيانًا على أولادهم بالفشل؛ وتتوجّه إلى الزوجين اللّذين، أمام صعوبات الحياة اليوميّة، يحكمان على رباطهما المقدّس بالفشل، معتبرين أن لا مجال بعد ذلك لأيّ مصالحة. لقد أنشأت الأبرشيّات مراكز إصغاء للأزواج الذين يواجهون صعوبات في العلاقة. ندعو الجميع ليلجأوا إليها، قبل اللجوء إلى المحاكم الروحيّة. 

 

 

 

*  *  *

 

ثانيًا، جمعيّة سينودس الأساقفة الخاص بالشّبيبة (3-28 تشرين الأوّل)

 

 

 

نبدأ اليوم التّحضير مع الشّبيبة لجمعيّة السّينودس الخاصّة بهم، من خلال نقل مضمون وثيقة "أداة العمل" الّتي عليها تنعقد الجمعيّة. وهي حصيلة المشاورات الّتي أُجريت في العالم، عبر المجالس الأسقفيّة ولجان الشّبيبة والأبرشيّات والرّعايا والمؤسّسات، وفقًا للأسئلة الّتي طُرحت في وثيقة "الخطوط العريضة".

 

 

موضوع السّينودس الرّوماني: "الشّباب والإيمان وتمييز الدّعوة". تتناوله "إداة العمل" بثلاثة أقسام كبار عنوانها ثلاث كلمات: التّعرّف والتّفسير والاختيار.

 

 

في القسم الأوّل، التعرّف: الكنيسة تصغي للواقع، لأوضاع الشّبيبة اليوم في مختلف مناطق العالم. في هذا القسم خمسة فصول: واقع الشّبيبة واختباراتها والتّحديات الأنتروبولوجيّة والثّقافيّة، والكنيسة الّتي تسمع للشباب.

 

 

في القسم الثّاني، التّفسير: الكنيسة توضح مفهوم الإيمان عند الشّبيبة وتمييز دعوتهم في الحياة. يتضمّن هذا القسم أربعة فصول: الشّبيبة كبركة، والدّعوة في ضوء الإيمان، وديناميّة الدّعوة وتمييزها، وفنّ مرافقة الشّبيبة على مختلف الأصعدة.

 

 

 

في القسم الثّالث، الاختيار: يساعد هذا القسم آباء السّينودس لاتّخاذ التّدابير اللاّزمة كتوجيهات تختصّ براعويّة الشّبيبة. في هذا القسم أربعة فصول تتناول النّظرة الشّاملة، ومرافقة الشّبيبة، والجماعة المسيحيّة المُبشَّرة والمُبشِّرة بالإنجيل، وإحياء راعويّة الشّبيبة وتنظيمها.

 

 

 

بعد هذه النّظرة الشّاملة لهيكليّة "أداة العمل"، سنبدأ الأسبوع المقبل بنقل مضمون الأقسام وفصولها. لكنّنا مذ الآن ندعو للصلاة من أجل نجاح هذه الجمعيّة السّينودسيّة لخير شبيبتنا وشبيبة العالم. ومعلوم أنه يوجد في العالم مليار وثمانمية ملايين شاب وشابة ما بين 16 و 29 سنة من العمر، أي أقلّ بقليل من ربع البشريّة، ولو أنّ العائلات تشير إلى انخفاض متدرج لنسبة الشّبيبة. هذا العدد الضّخم من الشّباب يشكّل الوجه الّذي تتّخذه البشريّة غدًا، أعني العائلة والمجتمع والكنيسة والدّولة. لذا، يجب أن يولى الشّباب عناية خاصّة من قبل الجميع.

 

 

 

 

*   *  *

صلاة

 

أيّها الرّب يسوع، أنت صورة الكنيسة، بأفرادها ومؤساستها، وفقًا لنبوءة آشعيا الّتي تمّت فيك. وقد أشركت الكنيسة بمسحتك المثلّثة الأبعاد: النّبويّة بنقل كلام الله في الكرازة بالإنجيل والتّعليم؛ والكهنوتيّة بتقديم الذّات قربانًا مقبولاً مع قربانك الخلاصي، وبتوزيع نعمتك عبر خدمة الأسرار من أجل تقديس النّفوس؛ والملوكيّة برعاية شعبك المؤمن وجمعه بالوحدة على أساسٍ من الحقيقة والمحبّة. هبنا، ربِّ، نعمة الثّبات في المحنة، على مثالك، كي نبلغ إلى النّصر بتحقيق تصميم الله الخلاصي، كما فعلت أنت. فنرفع نشيد المجد والتّسبيح للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 

 

التنشئة المسيحية - الأحد الثّامن من زمن العنصرة

 

البطريرك الراعي - موقع بكركي