زمن الدنح «متفرقات



زمن الدنح


زمن الدنح أو زمن الغطاس، يذكّرنا بحدث تاريخيّ من تاريخ الخلاص، له أبعاده وحقائقه. الحدث التاريخيّ هو معموديّة يسوع، في نهر الأردنّ، على يد يوحنّا المعمدان. وقد رواه الإنجيليُّون: متى (3: 13-17)، ومرقس (1: 9-11)، ولوقا (3: 21-22)، ويوحنّا (1: 26-34). نزل يسوع في الماء وسكب يوحنّا الماء على رأسه. فكانت لفظة الغطاس.


وحدث ظهور إلهيّ على مرأى ومسمع الحاضرين: "ففيما يسوع يصلّي، انفتحت السّماء، ونزل عليه الرّوح القدس بصورة جسميّة، كمثل طائر حمام، وسُمع صوتٌ من السَّماء يقول: "أنت ابني الحبيب، الذي به سُررت".


هذا الظهور يُسمّى الدنح المشتقّ من اللّفظة السُّريانيّة الآراميّة "دِنْحو". إنّه في الحقيقة ظهور الله الواحد والثالوث: الآب بالصوت، والإبن بحضوره بشخص يسوع المسيح، والرّوح القدس في صورة طائر حمام. وكان أيضاً "ظهوره" المسيح المُرسل من الله، وهو ابن الله.


يذكّرنا زمن الغطاس بمعموديّتنا، وقد ولدتنا ثانية، أبناء وبنات لله من الماء والرّوح، كما أوضح الربّ يسوع لنيقوديمس (يو3: 3-5). معموديّتنا هي عمل الله الواحد والثالوث: محبّة الآب ظلّلتنا وجعلتنا أبناء وبنات له بالإبن الوحيد، ونعمة الإبن قدّستنا وجعلتنا أعضاء في جسده، وحلول الرّوح القدس حقّق فينا عمل الفداء وجعلنا إنساناً جديداً.


كونه زمن الدنح، أي الظهور، المسيحي مدعو "ليظهر" في وجهه المسيحاني: متحرّراً من حالة الخطيئة التي تغلّب عليها بالمعموديّة، ومتصرِّفاً كونه إبناً لله في حياته الروحيّة، شاهداً في أعماله ومواقفه للمسيح وقد أصبح عضواً في جسده، ويقول مع بولس الرّسول: "أنا أحيا. لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ" (غل2: 20)


وملتزماً برسالة الكنيسة وقد أصبح عضوًا فيها مشاركًا في كهنوت المسيح العامّ المثلَّث: النبويّ والكهنوتيّ والملوكيّ. بهذه الصفة: يتقبّل الإنجيل ويجسّده في أعماله ومواقفه (البُعد النبويّ)؛ يُشارك في ذبيحة المسيح، ويضمّ إليها قرابين أعماله الصالحة وأفراحه وأحزانه (البُعد الكهنوتيّ)؛ يُصارع الحقد والظلم والشّر، وينشر المحبّة والعدالة والأخوّة (البعد الملوكيّ).


يوحنّا يشهد أنّ يسوع هو "حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم" (يو1: 29). بنتيجة الخطيئة الأصليّة وخطايا الناس الشخصيّة، بات العالم يعيش في حالة خطيئة روحيّة، أصبحت خطيئة اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، إذ أضحت مجموعة خطايا شخصيّة لا يتوب عنها الناس، فتتفشّى وتنتشر الأفعال والممارسات.


وهكذا صارت حياة الإنسان معركة بين الخير والشرّ. وحده يسوع بموته فدى عن خطايا البشر وشرورهم، صُلب على الصّليب وهو بريء منها، وبقيامته انتصر على الخطيئة والشّيطان، محرِّراً الإنسان، كلّ إنسان، بنعمته من سلطان الشّر. والمؤمن يستطيع أن ينتصر بدوره على الخطيئة والشّيطان بنعمة المسيح.


عندما تقدّم يسوع مع الخطأة، على تنوّع خطاياهم، نحو يوحنّا لقبول معموديّة التوبة، تضامن مع الخطأة، لا مع خطاياهم. فحملها وقبلها ككاهن يفتديها، ودشّن رسالته كعبد الله المتألّم، الذي تنبّأ عنه أشعيا قائلاً: "لقد حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا. طُعن بسبب معاصينا، وسُحق بسبب آثامنا. أُنزل به العقاب من أجل سلامنا، وبجُرحه شُفينا... كحمل سيق إلى الذبح ولم يفتحْ فاه" (أشعيا 53: 4و5و7). 


ويوحنّا الذي امتلأ هو أيضاً من الرّوح القدس، بحلوله على يسوع المعتمد، تنبّأ في اليوم التالي، عندما رأى يسوع مارًّا، بأنّه هو "حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم" (يو1: 29).


معموديّة يسوع الحقيقيّة، التي منها جاءت معموديّتنا، هي معموديّة موته فاديًّا ومخلصًا. عنها تكلّم مع يعقوب ويوحنّا ابنَي زبدى، عندما سألهما: "أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سأشربُها، وأن تعتمدا المعموديّة التي سأعتمدها؟ (مر10: 38).


في معموديّة يوحنّا حمل يسوع خطايا البشر، وفي معموديّة موته ودمه المُراق على الصّليب غسل خطايا البشر، متمِّماً هكذا إرادة الآب بحبّ لا حدّ له. إنّه حمل الفصح الجديد. قال عنه بولس الرّسول: "المسيحُ فصحنا، قد ذُبح" (1كور5: 7)، و"لم يُكسر له عظم" (يو 19: 36)، مثل حمل الفصح القديم (خروج 12: 46).


عندما تقدّم ليقبل معموديّة يوحنّا، عبّر عن قبوله بمعمودية الموت من أجل غفران خطايانا. فجاء صوت الآب من السّماء يعلن هذا القبول، ويعلنه للبشر أجمعين ابنه الحبيب. وبهبوط الرّوح القدس عليه، للجنس البشريّ بأسره.


عندما انفتحت السّماء، التي كان قد أغلقها آدم وجميع الخطأة، وتقدّست المياه بنزول يسوع إليها، وعاد الرّوح يخيّم عليها ليجعلها وسيلة للخلق الجديد (راجع كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 535-536). 


صلاة


أيّها الربّ يسوع، لقد جعلتنا بالمعموديّة خلقاً جديداً، وبك أبناء وبنات لأب واحد في السّماء، وإخوة وأخوات بعضنا لبعض. ساعدْنا بنعمتك لكي نعيش جمال هذه البنوّة، وسعادة هذه الأخوّة. قوّنا على محاربة الظاهرات المعادية لبنوَّتنا لله وللأخوّة الشّاملة. إنّ زمن الغطاس يذكّرنا بمعموديّتنا التي جعلت الجميع أعضاء في جسدك، وأعطتهم ثقافة الوحدة والتضامن والتعاون. وبدنحك أظهرت نفسك للعالم أنّك المسيح، الأخ الأكبر للبشريّة، أعطنا أن نظهر نحن أيضاً إخوة بعضنا لبعض، فنبني معًا ومعك السّلام الحقيقيّ، الثابت والعادل والشامل والدائم. فالسّلام يجعلنا أبناء وبنات حقيقيّين لله، وجديرين لأن نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.




البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – التنشئة المسيحية  2014