عدلٌ ورحمة... تماهي أم تناقض؟ «متفرقات

 

 

 

 

يتخبّط إنسان اليوم، وسط عاصفة من الأجواء المشحونة بالغضب والعنف، وبمختلف أشكال رذائل الإنسانيّة، التي تُبعده عن حقيقة الخالق. يرفض تتميم وصاياه، التي تعطيه الحياة، كما المحافظة عليها، من خلال ممارسة العدل والرّحمة.

 

جعلت الحضارة، بالمطلق الإنسان خاليًا من صفات الله (الحُسن). أَوَليست عدالة الله هي رحمة؟ أوليس إنسان اليوم، يتعامل بحسب شريعة "السنّ بالسنّ والعين بالعين"، ويواجه الشرّ بالشرّ، والخطيئة بالخطيئة، ويعتبر ذلك عدلاً؟ لكن ليست هذه هي عدالة الله. لقد واجه الله تمرّد وخطيئة الإنسان، بالغفران والخلاص.

 

 

كم يخلط عالمنا اليوم بين مفهوم المساواة ومفهوم العدالة، فيعتقد في فكره وتصرّفه، أنّ العدالة مساواة. هل يجب أن نذكّر إنسان اليوم، أنّ الله هو محبّة؟ وهذه المحبّة مُعَبَّر عنها من خلال عدله ورحمته؟ ألا يريد الله أن نشترك معه في الحياة الإلهيّة؟ أَشرَكَ الله الإنسان بحبّه، وأراد أن يصل البشر جميعهم إلى الخلاص. أعطى الله القدرة للإنسان أن يحبّ كما هو أحبّ، أن يعمل الصّلاح والغفران، كما هو صالَحَ الإنسان وغفر له. أين إنسانُ عصرنا من هذه الحقائق الإلهيّة؟

 

 

عدالة ورحمة

 

ظهرت محبّة الله أيضًا من خلال صفاته: العدل والرّحمة، أي ليس عند الله من ظلم ولا اعوجاج ولا محاباة. ويظهر العدل بحسب المفهوم الإنسانيّ، أنّه مبدأ جوهريّ ومفهوم قانونيّ وخُلُقيّ؛ يضع حدًّا للظلم، ويعطي الحقّ لأصحابه، كما يُنصفهم من خلال المساواة، أي إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه. العدل هو صفة إنسانيّة، أَمَرَ الله بها البشر، مستمدّين فكر الله عند ممارسته العدل في ما بينهم. يُعَبَّر عن حسن سير العدالة، عندما يتفاعل من خلاله سلوك الإنسان تجاه أخيه الإنسان، لا سيّما تجاه الحقوق وبخاصة عندما يضمن الواجب الأخلاقيّ والإيجابيّ، من جهة ضمان تفعيل وأداء هذه الحقوق "إنصاف المظلومين، والدّفاع عن المهمّشين، والضعفاء، والفقراء من خلال مناصرة قضاياهم وحالاتهم"، وذلك عبر الإصغاء لهم والإقرار بحقوقهم ومعاونتهم للحصول عليها، وروح الإنصاف.

 

العدل هو مسؤوليّة كلّ أفراد المجتمع، لا سيّما المنوطين بتحقيق العدل من خلال القضاء العادل والنزيه والكُفء على جميع الأصعدة. فالذي يسير على خطى الله، أو على طريقه أيّ طريق الحقّ والحقيقة، لا بدَّ له من أن يختار نعمة الله وخلاصه، من خلال إظهار العدالة للآخرين وتطبيقها بحسب النظرة الإلهيّة.

 

يحثّ الله الإنسان لممارسة العدل، ويطلب منه الدخول في الحقّ والبرّ من أجل خلاصه. وهذا يعزّز فرص نجاح السّلام بين البشر أجمعين. بالمُطلق يبحث الإنسان عن العدل، ويريد تطبيقه، ولكن هل عدل البشر هو عدلٌ وإنصافٌ؟ أمّ أنّه استغلال؟ كم يرفض أفراد من مجتمعنا عدالة الأرض ويتكّل فقط على عدالة السّماء؟

 

 

رحمة معاشة

 

تَظهر رحمة الله، من خلال طول أناته ولطفه، وصبره تجاه البشر، بالرّغم من دينونته لهم. فالله هو أبو المراحم، وإله كلّ تعزية. الجميع أَخطأ، فاحتاجوا كلّهم إلى خلاص الله، ورحمته وغفرانه. هذا يدلّنا على أنّ هناك ارتباط وثيق، بين أبوّة الله ورحمته، كما هناك ارتباط عميق، بين رحمة الله ومحبّته للإنسان، والذي يهب العطايا والنعم والمواهب للإنسان، لكي يجسّد أفعال المحبّة والعيش بالعدل وممارسة الرّحمة مع أخيه الإنسان، كما هو بادلها للإنسان بطريقة مجّانيّة وغير محدودة. يدعو الله الإنسان، لممارسة الرّحمة وعيشها، من خلال مظاهر العطف، والوداعة والتواضع، والامّحاء وحتّى الغفران والمسامحة. تتطلّب ممارسة رحمة الله، أن يكون سلوك الإنسان وأدائه، مطابقـًا لفكر الله، وتصرّفاته مع أخيه الإنسان. من هنا، عليه أن يتمثّل بالله، فيكون رحيمًا، كما أنّ الله رحيم. ولكي يحصل الإنسان على رحمة الله، عليه أن يكون رحيمًا.

 

الرّحمة بمعناها الواسع، هي الرأفة والتعاطف. هل يجب أن يعيش الإنسان في البؤس والذلّ، والخطيئة واليأس والظلام، ليكتشف وجه الرّحمة، التي لا حدود لها؟ هل نؤمن أنّ الله يحبّنا أكثر من أنفسنا؟ علينا أن نقرّ بذلك عندما نحصل على رحمته اللامتناهيّة، بالرّغم من ضعفنا وخطيئتنا.

 

 

 

ليتَ إنسان اليوم، يعي حقيقة الله: فالله رغم خطيئة الإنسان، لا يبحث عنه ليعاقبه، بل ليعامله بالرأفة والحنان، ويعطيه القدرة على الخلاص. ألا يجب على الإنسان أن يتصرّف بتلك المبادرة والذهنيّة؟ يدعو الله الإنسان، أن يكون رحيمًا كما هو رحيم. كلّما ازدادت أعمال الرّحمة في عالمنا، كلّما ازداد وجود الله بين البشر أي في حياتهم.

 

 

أعمال أم أقوال؟!

 

عندما يقوم الإنسان بأعمال الرّحمة، يشعر بقوّة تتغلّب على كلّ شيء، وتملأ حياته فرحًا وسلامًا، وحبًّا ومغفرةً. تظهر أعمال الرّحمة، من خلال إشباع الجائع، إرواء العطشان، كسوة العريان، إيواء الغريب، وزيارة المريض والسجين والاهتمام بهما، كما المساعدة على تعزية المحزونين، والمتألّمين والمجروحين، والمنبوذين والمهمّشين، والمظلومين والبائسين. ولكي تأتي تلك الأعمال ناجحة، لا بدّ من الإصغاء أوّلاً إلى الله، والتأمّل برحمته، لجعلها نمط حياة. من هنا، لا يحقّ للإنسان، أن يدين أخاه الإنسان، أيّ بالحكم المُبرم؛ بل ترك رحمة الله تعانقه، فتدخل إلى قلبه وفكره، أي نمط حياته، من خلال تصرّفاته وأدائه تجاه كلّ إنسان.

 

يمكننا القول، أنّ العدل والرّحمة لا يتعارضان، بل هما بعدين لواقع واحد يكتمل في المحبّة. فالرّحمة ليست العفو، أو التغاضي عن أعمال المُذنب، أو التهاون في تطبيق القانون، من خلال العدالة، لأنّ هذا السّلوك وهذا التفكير، يشجّع على ممارسة العنف والشرّ، بل هي تدفع المُذنب نحو التوبة والندامة، من خلال العقاب والقصاص، وتأهيله ومرافقته ومتابعته، في طريق التوبة والإصلاح والتعويض عن الأعمال السيّئة، التي اقترفها تجاه نفسه أوّلاً، ومن ثمَّ تجاه الآخرين والحقّ العام.

 

ألا نعتقد أنّ مسيرة الرّحمة خير ترميم للحقّ؟ بالتأكيد. الرّحمة لا ترفض العدالة أو تتجاهلها، ولكنّها تحتويها كمؤدّب للشفاء، وليس للإقصاء، بل تنبسط نحو المحبّة، التي هي في أساس العدالة الحقيقيّة، لأنّ الرّحمة تتحقّق في المحبّة والغفران. ذكرنا آنفًا، أنّ رحمة الله لا تلغي عدله، لأنّها تبرّر الخاطئ أمام الله، علمًا أنّ الله يعمل في آن بوحي رحمته ووحي عدله. فالرّحمة ليست في القلب فقط، وإنّما في الأعمال وعدم "تهديم" الآخر والانتقاد اللاذع والمؤذيّ والحقد وعزل الآخر وتهميشه، وإقصائه واستعمال الأفكار المُسبقة والشرّيرة. هل الرّحمة حاجة لعصرنا؟ هل هي شعار أم واقع؟

 

 

نعم، ولكن؟!

تتجلّى الرّحمة، عندما يتعاضد البشر في ما بينهم، حول قضايا إنسانيّة، ومن خلال المعاملة الحسنة، التي تظهر من خلال التفاني والصبر، والسخاء والمجّانيّة.

 

لتكن الرّحمة فضيلة يتباهى فيها الإنسان، من خلال سلوك صحيح ومنهاج واضح، نابع من نظام تفكير، مبنيّ على ثقافة التسامح والغفران، والعطاء والبذل، من أجل تخفيف آلام أفراد المجتمع، المتأتيّة من الظلم والعوز، والأمراض النفسيّة، والمعتقدات الخاطئة، والبطالة والعنف، والخوف من الغد، وعدم الأمان والأمن، وعدم الاستقرار والتعديّ على الحرّيات العامّة، وعدم المساواة والعدالة الاجتماعيّة. أليست الرّحمة شرط أساسيّ للحصول على الخلاص؟

 

لنبني ونعمل على ثقافة الرّحمة، بجعلها "ملموسة" و"مُعاشة". لنفتح قلوبنا على مصائب الإنسان واحترامه، لكي نداوي جراحاته قدر المستطاع.

 

لنقتنع أنّ الرّحمة هي إعطاء "فرصة جديدة" للمذنب التائب، الذي قرّر العودة إلى حياة الصلاح، بعد تأهيله ومرافقته ومتابعته على جميع الصّعُد.

 

لنؤمن أنّ الإنسان التائب قادرٌ على التحوّل والارتداد والتجدّد، في حال أعطيناه الثقة والحضور والمحبّة.

 

لنصنع من عصرنا عصر الرّحمة، وليس عصر الإقصاء والدينونة والإلغاء؛ بل لنتذكّر رحمة الله، لأنّه سوف يديننا برحمته. فعندما نصنع رحمة، سوف نُدان برحمة، فذلك هو العدل.

 

لنعمل على تثبيت الرّحمة، لأنّها الدرب الذي يوحّدنا مع الله والإنسان. أَوَلا يستحقّ إنسان عصرنا الرّحمة بالرغم ممّا نشهده كلّ يوم؟

 

الرّحمة ضروريّة لتطبيق العدالة، لنبني معًا رحمة الحبّ وعدالة الحقّ.

 

 

 

الأب نجيب بعقليني