عظة البطريرك الراعي - الإبن الضّال «متفرقات

 

 

 عظة البطريرك الراعي - الإبن الضّال

 

 

 

 

 

"إنّ ابني هذا كان ميتًا فعاش، وضالاً فوجد" (لو 5: 24)

                                                

 

1. إنّ رجوع الإبن الضّال إلى بيت أبيه، في هذا المثل الإنجيلي، يرمز إلى الخاطي الّذي يدرك خطيئته، ويعي حالة البؤس الرّوحي والإجتماعي والكنسي الّذي بلغ إليه. فيتوب ويرجع إلى الله، إلى سعادة الشّركة معه ومع الجماعة المؤمنة والمجتمع. عنه يقول الآب السّماوي ما قاله ذاك الأب الّذي طار فرحًا بعودة ابنه الضّال: "إنّ ابني هذا كان ميتًا فعاش، وضالاً فوجد" (لو 5: 24).

 

2. اختتمنا أمس "سنة الشّهادة والشّهداء" الّتي كنّا قد افتتحناها في 9 شباط من العام الماضي بمناسبة عيد أبينا القدّيس مارون، لتُختتم في 2 آذار الجاري في عيد أبينا البطريرك الأوّل مار يوحنّا مارون.

 

فيُسعدنا اليوم أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة الّتي دعا إليها مكتب التّنسيق بين المؤسّسات المارونيّة، ويشارك فيها أعضاء هذه المؤسّسات وأصدقاؤها. ويطيب لنا جميعًا أن نشارك بما يليها من نشاطات للمناسبة وهي التّالية:

 

 النّشاط الأوّل، إزاحة السّتارة عن تمثال الشّهادة والشّهداء للنحّات بيار كرم، وتقدمة المهندس نعمة فرام مشكورًا. هذه المنحوتة من البرونز بطول مترين وربع، وبعرض متر، مرفوعة في باحة كنيسة الصّرح الشّماليّة لتشهد بما تحمل من رموز ومعانٍ: صليب المسيح المشعّ بأنوار القيامة؛ وفي الأسفل الشّهيد المتألّم والمتمسّك بالإنجيل في وجه قوى الشّر المقابلة، فيما يحتضنه والكنيسة رداءُ السّماء؛ وفي الأعلى تشعّ شمس الحقيقة، والشّهادة الّتي ترتقي الدروب نحو السّماء حيث مسكن الشّهداء الأبرار. 

 

النّشاط الثّاني هو تقديم النّسخة الأولى من كتاب مار يوحنا مارون، الّذي حقّقه الأبّاتي أنطوان ضو الأنطوني مشكورًا، وتوزيعه، وهو تقدمة من سخاء المهندس أنطوان أزعور.

 

والنّشاط الثّالث تقديم "أوبيرات الشّهادة والشّهداء". فأعرب عن تقديري للأستاذ جورج عرب على وضع كلماتها، وللفنّانين الّذين اعتنوا بالألحان والتّوزيع الموسيقي والإنشاد والاستوديو، وللمهندس نعمة فرام الّذي سخا بها.

 

 

3. لقد بلغنا مع هذا الأحد الرّابع إلى منتصف زمن الصّوم الكبير الّذي تتلو فيه الكنيسة إنجيل الإبن الضّال. وهو مثل يشرح فيه الرّب يسوع مفهوم الخطيئة ونتائجها، والتّوبة ومكوّناتها، والمصالحة وثمارها.

 

فالخطيئة، كما تظهر من تصرّف الإبن الأصغر، هي سوء استعمال خيرات الدّنيا، والإفراط بالحريّة الشّخصيّة، من دون أي رباط وشركة مع الله. وهي بالتّالي تعلّق القلب والفكر والإرادة بالعطايا وإهمال الله معطيها ونسيانُه والإستغناءُ عنه. فكانت نتيجتها الإفتقار من القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، وانحطاط الكرامة أمام الله والنّاس (الآيات 11-17).

 

4. التّوبة، كما ظهرت عند الإبن الضّال، هي وقفة رجوع إلى الله والذّات. فبالرّجوع بالفكر إلى الله ندرك غنى محبّته ورحمته والطّريق الّذي بسطه أمامنا بكلامه ووصاياه، وبالرّجوع إلى الذّات يدرك الخاطئ حالته الشّاذة والشّقيّة.فيندم ويقرّر الخروج من حالته هذه وأسبابها، راجعًا فعليًا إلى الله عن طريق الكنيسة الّتي سلّمها المسيح الرّب بسرّ الكهنوت سلطان سماع التّوبة ومنح الغفران، وفرض واجب التّكفير والتّعويض عن الخطايا والإساءات لله ولجماعة المؤمنين وللناس (الآيات 18-20).

 

5. أمّا المصالحة فهي جواب الله على توبة الخاطي. إنّها تنبع من قلبه المحبّ والرّحوم الّذي ينتظر عودة أبنائه الضّالين في طريق الحياة. تكفيه توبة القلب المنكسر، الظّاهرة في الرّجوع المخلص والقرار ببدء حياة جديدة. ثمار المصالحة الّتي يعلّمها الرّب يسوع بالرّموز أربع: استعادة حالة النّعمة المتمثّلة بالحلّة الفاخرة؛ تجديد عهد البنوّة مع الله المرموز إليه بالخاتم في الإصبع؛ السّير في طريق جديد المستنير بكلام الله كما نصلّي في المزمور: "كلامك مصباح لخطاي، ونورٌ لسبيلي" (مز 119: 105 )، وهو متمثّلٌ بالحذاء الجديد في رجليه؛ فالمشاركة في وليمة القربان على مائدتي الكلمة وجسد الرّب ودمه، المرموز إليها بوليمة العجل المسمّن (الآيات 20-23).

 

6. يعلّمنا تصرّف الله، نحن الخطأة الرّاجعين إليه، شهادة الغفران والمصالحة في عالم ينتشر فيه روح العداوة والحقد والإنقسام والإنتقام. فالمجتمع، في معظمه، ميّال إلى ممارسة شريعة "العين بالعين والسّن بالسّن" (تثنية 19: 21)، وشريعة "محبّة القريب وبغض العدوّ". هاتان الشّريعتان نقضهما المسيح بشريعته الجديدة وهي "عدم مقاومة من يسيء إلينا"، "ومحبّة الأعداء والصّلاة لأجل الّذين يضطهدوننا ( متّى 5: 38-39؛ 43-44). هذا التّصرّف الجديد ليس خنوعًا وضعفًا، بل هو قوّة المحبّة المسكوبة في القلوب بالرّوح القدس الّتي لا تتراجع أمام شهادة الدّم إذا فُرضت. وهم بذلك يشاركون المسيح في عمل الفداء.

 

إنّ شهادة الدّم هي وجه من وجوه الإستشهاد: فثمّة الإستشهاد الجسدي بالقتل والتّعذيب والتهجير؛والإستشهاد المعنوي بامتهان الكرامات وكبت الحرّيات؛  والإستشهاد القانوني بسلب الحقوق وممارسة الظّلم؛ والإستشهاد القضائي بتوقيف أشخاص وعدم محاكمتهم، وبتعطيل الأحكام القضائيّة، وتسييس العدالة وتوجيهها واستباحة سرّيتها إعلاميًا وسياسيًا، وبالمماطلة الطّويلة في إصدار الأحكام؛ والإستشهاد السيّاسي بإقصاء موظّفين من وظيفتهم في الإدارات العامّة، باتّهامهم وحرمانهم من حقّ الدّفاع عن النّفس، فيما هم مخلصون للقانون، وغير ملوّنّين بلون حزبي، وبإجراء تعيينات من لون واحد ومذهب واحد نافذ سياسيًا؛ والإستشهاد الإقتصادي بإفقار الشّعب وحرمانه من حقوقه الأساسيّة في السّكن والتّعليم والعمل والصّحة والبنى التّحتيّة. لا يمكن الإستمرار في هذه الحالات من الإستشهاد، والمسؤولون السّياسيّون غير مبالين، وهم معنيّون فقط بمصالحهم الخاصّة.

 

7. باختتام سنة الشّهادة والشّهداء، لا نطوي صفحة أصبحت من الماضي، بل ننطلق في مسيرة جديدة مزوّدين بما علّمتنا هذه السّنة اليوبيليّة عن معنى الشّهادة والإستشهاد، وما اختبرنا فيها من وعي وإدراك. نسأل الرّب يسوع "الشّاهد الأمين" والشّهيد الأوّل، أن يعضدنا جميعًا بنعمته كي، بقوّة الرّوح القدس وأنواره، نكون "شهودًا له إلى أقاصي الأرض" (أعمال 1: 8). فنرفع نشيد المجد والظّفر للثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 

 

موقع بكركي.