عظة البطريرك الراعي الإكليريكيّة البطريركيّة المارونيّة «متفرقات

 

 

 

  " كان الصّبيّ يسوع ينمو في النّعمة " (لو 52:2)

 

 

      1. لمّا عاد الصّبيّ يسوع، وهو ابن اثنتي عشرة سنة إلى النّاصرة، مع أبيه وأمّه من أورشليم، بعد أن مكث في الهيكل وأضاعاه ثلاثة أيّام، يقول لوقا الإنجيليّ: "رجع يسوع معهما إلى النّاصرة، وكان ينمو في القامة والحكمة والنّعمة قدّام الله والناس" (لو2: 51-52). نتأمّل هذا المساء في "نموّ الصّبيّ يسوع في النّعمة".

 

 

 

      2. بالرّجوع إلى نصّ الإنجيل نجد أنّه يعود ليتكلّم عن يسوع وهو في الثّلاثين من عمره، عندما اعتمد على يد يوحنّا، وبدأ رسالته بصومه الأربعينيّ وانتصاره على تجارب الشّيطان الثّلاث، وإعلان هويّته ورسالته في مجمع النّاصرة في ضوء نبوءة أشعيا (راجع لو 3 و 4). هذا يعني أنّ عمر الفتوّة والشّباب قضاه يسوع في إعداد ذاته لرسالته الخلاصيّة بالنّموّ في أبعادها الثّلاثة: البُعد الإنسانيّ بالقامة، والبُعد الفكريّ بالحكمة، والبُعد الرّوحيّ بالنّعمة. هذه الأبعاد تشكّل جوهر التّنشئة الكهنوتيّة التي تتبسّط فيها "الشّرعة" المعتمدة في كنيستنا المارونيّة، وتُطبَّق في مدارسنا الإكليريكيّة، والوثيقة الصّادرة عن مجمع الإكليروس بموضوع: "هبة الدّعوة الكهنوتيّة"1 بالإضافة إلى أبعاد أخرى من مثل التّنشئة الرّاعويّة والمسكونيّة والإرساليّة والحسّ الكنسي.

 

 

 

      3. حديثنا عن "النموّ في النّعمة: أو التّنشئة الرّوحيّة التي منها الرّوحانيّة الكهنوتيّة. إنّها بمثابة الرّوح في حياتنا الإكليريكيّة والكهنوتيّة. "النّموّ في النّعمة" هو كالرّوح في الجسد. بدونه تفقد الأبعاد الأخرى قيمتها في الكهنوت. وينطبق عليها ما كتبه بولس الرّسول عن المحبّة، إذ قال: "لو تكلّمت بلغات الناس والملائكة، ولي كلّ العلم، ولم تكن فيَّ المحبّة، فما أنا إلاّ نحاس يطنّ أو صنج يرنّ... ولو فرّقت جميع أموالي، وسلّمت جسدي ليُحرق، ولم تكنّ فيّ المحبّة، فما أنا بشيء" (1كور 13: 1-3). في هذا النّشيد كلّه توجد كلّ وجوه الرّوحانيّة الكهنوتيّة. أتمنّى أن تضعوه أمام أعينكم كلّ يوم.

 

 

 

      الرّوحانيّة في الحياة الإكليريكيّة والكهنوتيّة هي التي تعطي القوّة الجسديّة حياةً، والعلم اندفاعًا راعويًّا ورسوليًّا. بدونها يعبد الشّخص ذاته وراحته، ويتباهى بعلمه، ويفتقر من الفضائل الرّوحيّة والإنسانيّة. ويعتبر ذاته سيّد حالته الكهنوتيّة، وينسى أنّه مدعوّ من الله لرسالة إلهيّة سامية لا تخضع لمزاجه ومصالحه. ولهذا كتب بولس الرسول: "العلم ينفخ والرّوح يبني" (1كور 1:8).

 

 

 

 

      4. كيف ننمو في النّعمة؟ أو كيف نؤمّن تنشئتنا الروحيّة فتتوفّر عندنا الرّوحانيّة الكهنوتيّة؟ القاعدة الأساسيّة هي العيش في شركة الاتّحاد مع الله، والصّداقة المخلصة مع الربّ يسوع الرّاعي الصّالح، والانقياد لإلهامات الرّوح القدس. أمّا الوسائل فهي الصّلاة، والتّأمّل في كلام الله الذي به يتعرّف الإكليريكيّ إلى المسيح ويقتدي به، والمشاركة في القدّاس اليومي، وممارسة سرّ التّوبة بتواتر وبشكلٍ منتظم، بحيث يساعده على النّموّ في الفضائل ومراقبة الذّات، وعيش السّنة الطّقسيّة وفقًا للرّوحانيّة المستمدّة من أحداث الخلاص، زمنًا بعد زمن، وأحدًا بعد أحد، وعيش ليتورجيّا الأرض كانعكاس لليتورجيّا السّماء. ومن بين الوسائل أيضًا الإرشاد الرّوحيّ لدى مرشد يفتح له الإكليريكيّ قلبه لكي يستطيع المرشد أن يساعده في تخطّي الصّعوبات، ويوجّهه نحو سلّم الفضائل.

 

 

 

 

      5. الصّلاة عنصرٌ أساسيّ للنموّ في النّعمة، لأنّها ترفع النّفس والقلب إلى الله، وتهيّئ الجوّ لسماع الله الذي يخاطب القلب. هي صلاة فرديّة وجماعيّة وزيارة سجود أمام القربان بالإضافة إلى الفرض الإلهيّ المعروف بصلاة السّاعات، الصّباح والظّهر والمساء. إنّها صلوات بإسم الكنيسة، يكون فيها الإكليريكيّ المصلّي وسيطاً بين الله والناس: يمجّده ويشكره ويتوسّل باسمهم، ويلتمس لهم من لدنه الخير والنّعم. الكاهن الذي لا يصلّي يفرغ من الرّوحانيّة، فيتحجّر عقله وقلبه وضميره، وتتعطّل رسالته الكهنوتيّة ويفقد فرح الكهنوت والخدمة.

 

 

 

      6. تُضاف إلى كلّ هذه الوسائل الرّياضة الرّوحيّة السّنويّة التي توفّر مناسبة اللّقاء بيسوع في جوّ من الصّمت والتأمّل، وإلقاء الضوء على حياته طيلة السّنة المنصرمة. فيتّخذ الإكليريكيّ مقاصد للسّير على خطى المسيح في طاعته للآب وخدمة الإخوة.

 

 

 

      7. النّموّ في النّعمة يقتضي، بكونه السّير على خطى المسيح، التّحلّي بثلاث فضائل أساسيّة، بها ننتصر على شهوات الحياة الثّلاث التي يذكرها يوحنّا الرّسول (1يو16:2).

 

 

 

      أ- شهوة العين السّاعية إلى الكسب والتملّك بدون قياس، تقابلها فضيلة الفقر الإنجيليّ أي التّجرّد والاكتفاء بالضّروريّ والاتّكال على عناية الله، والعيش ببساطة، والاهتمام بالفقير والضّعيف.

 

 

      ب- شهوة الجسد التي تحمل الإنسان إلى أميال خلقيّة منحرفة. تقابلها فضيلة الطّهارة التي تمكّن من عيش واقع الجسد والمشاعر العاطفيّة بمنطق هبة الذات لله. هذه الفضيلة تنقّي العلاقات مع الأشخاص، وتولّد حبًّا صافيًا وإنسانيًّا وأخويًّا قادرًا على التّضحية والتّفاني حبًّا بالله والكنيسة.

 

 

 

      ج- كبرياء الحياة التي تنفخ الذات، فيمتلئ الشّخص من ذاته، ويظنّ أنّه هو سيّد كهنوته، وينسى أنّه يلبّي دعوة إلهيّة عليه أن يكون هو في خدمتها. تقابلها فضيلة الطاعة التي هي فعل إيمان وحريّة قلب نقف بهما ذاتنا بواسطة الطّاعة على خدمة الله والكنيسة. بالطّاعة يتّحد الكاهن بحكمة الله الذي يبني الكنيسة ويحدّد لكلّ واحد مكانه ورسالته.

 

 

 

      8. ومن الضّروريّ أن يكتسب طلاّب الكهنوت فضائل إنسانيّة أخرى من مثل: الأمانة، والفطنة، والإخلاص، وروح الإستقبال، والعاطفة، والجودة، والتّجرّد، والصّبر، والالتزام، والتحرّر من الذات، والعطف على الفقراء وذوي الاحتياجات الخاصّة والمرضى والمهمّشين.

 

 

 

      9. وممّا يعزّز النموّ في النّعمة واكتساب الرّوحانيّة الكهنوتيّة، تكريم السّيّدة شفيعة الكنيسة الجامعة وسلطانة الرّسل، والقدّيس يوسف المدعوّ من الله لخدمة شخص يسوع ورسالته بممارسة أبوّته، وسائر القدّيسين.

 

 

 

      10. إنّنا جميعًا نرافقكم بصلاتنا كي تهيّئوا نفوسكم وقلوبكم لهبة الكهنوت بروحانيّة عميقة تعطيكم فرح الخدمة وديناميّتها، وأنتم تسيرون على خطى المسيح الكاهن الأسمى، على هدي الرّوح القدس. ولتصبح حياتكم نشيد تمجيدٍ وتسبيحٍ للثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 

موقع بكركي.