عظة البطريرك الراعي - ختام سنة الشهادة والشهداء «متفرقات

 

 

 

عظة البطريرك الراعي - ختام سنة الشهادة والشهداء

 

 

 

 

 

"سيكونُ لكم في العالم ضيق، لكن ثِقوا أنا غلبتُ العالم" (يو16: 33)

 

    

1. في آخر خطاب وداعي ليسوع، وقد أتت ساعة انتصاره على عالم الشرّ بموته وقيامته، والتلاميذ في حالة خوف وضياع، أكّد لهم أنّه خرج من عند الآب وأتى إلى العالم، ويترك العالم ويذهب إلى الآب الذي أحبّهم لأنّهم أحبّوه وآمنوا به وبرسالته الخلاصيّة. وأضاف: "قلتُ لكم كلّ هذا ليكون لكم بي السّلام. سيكون لكم في العالم ضيق، لكنْ ثقوا أنا غلبتُ العالم" (يو16: 33).

    

2. بهذا الكلام تقوّى المؤمنون بالمسيح، وراحوا يشهدون له ولإنجيله الخلاصي بين الأمم والشعوب، بقوّةِ وشجاعةِ المحبّة والحقيقة. كثيرون منهم بلغوا إلى أداء شهادة الدم وفي قلوبهم سلام المسيح. وهكذا واجهوا الاضطهادات من دون أي خوف. فكتبَ يوحنا الرّسول إلى هؤلاء كلامًا يصلح لكلّ مؤمن ومؤمنة في أيّ مكانٍ وزمان: "أكتبُ إليكم لأنّكم أقوياء، ولأنّ كلمة الله ثابتة فيكم، ولأنّكم غلبتم الشّرير... ولأنّكم غلبتم الأنبياء الكذبة، ولأنّ الله الذي فيكم أقوى من الشّر الذي في العالم... ولأنّكم وُلدتم من الله فغلبتم العالم" ( 1 يو2: 13- 14؛ 4: 4؛ 5: 4-5).

     

3. يُسعدنا أن نختتم معًا سنة الشهادة والشّهداء التي بدأناها في عيد أبينا القدّيس مارون، في 9 شباط من العام الماضي، وقد شئناها سنة يوبيلية نتذكّر فيها شهداء كنيستنا المعروفين وغير المعروفين، بعد مرور ألف وخمسماية سنة على استشهاد الرّهبان تلاميذ مار مارون الثلاثماية والخمسين، وفي سنة 517، دفاعًا عن إيمانهم الكاثوليكي المُعلَن في مجمع خلقيدونية (451)، الذي أثبت أنّ في شخص ابن الله، يسوع المسيح، طبيعتَين كاملتَين، إحداهما إلهيّة والثانية بشريّة.

  

 4. إنّا في المناسبة، نشكر الله على ما أفاض من نِعَم علينا وعلى المؤمنين، الذين كرّموا شهداءنا القديسين، وشهود الإيمان، بصلواتهم وزياراتهم التقويّة إلى المعابد والمزارات، وعلى كنيستنا ووطننا. ونعرب عن شكرنا للّجنة البطريركيّة التي نظّمت إحتفالات هذه السّنة اليوبيليّة برئاسة سيادة أخينا المطران منير خيرالله. وقد ذكرنا بصلواتنا أخواننا المسيحيّين الذين سقطوا ضحايا الإعتداءات باسم الدّين في بلداننا المشرقيّة، وذكرنا معهم كلّ الضّحايا البريئة التي دفعت معهم جزية الدمّ، لمصالح الدول السّاعية إلى مكاسبها الاقتصاديّة والسّياسيّة والاستراتيجية. نحن نصلّي كي تغسل دماء الأبرياء، بقوّة دم الفادي الإلهي، الشّر الكامن في قلوب أمراء الحروب، وأن تكون مصدر حياة جديدة لأوطانهم.

   

وتذكّرنا الشّهداء الذين سقطوا على أرض وطننا لبنان منذ بداية حرب 1975 حتّى اليوم، وسألنا الله أن يجعل دماءهم فداءً عن الوطن وشعبه ومؤسّساته. والتمسنا نعمة الإلتزام بمسلكٍ جديد نبني به ما تهدّم من كياننا واقتصادنا، ومن قيمنا الرّوحيّة والأخلاقيّة والوطنيّة. فإنّ دماءهم تستصرخنا جميعًا لأنّهم "ماتوا لنحيا نحن". وصلّينا كي ينعم الله على بلادنا برجالات دولة مسؤولين يبنون ولا يهدمون، يعملون لقيام الدّولة وازدهارها، لا للمكاسب الرخيصة، الخاصّة والفئويّة، على حساب الخير العام. فلا يمكن القبول بأن يخضع أبناء شعبنا لاستشهاد اقتصادي يضعهم في حالة فقر وحرمان؛ ولاستشهاد اجتماعي يحرمهم من حقوقهم الأساسيّة في المأكل والمسكن والتّعليم وفرص العمل، والدّواء والعناية الصّحيّة، والماء والكهرباء والبنى التّحتيّة. فلا يجدي نفعًا دقَّ ناقوس الخطر من قبل المسؤولين السّياسيّين، بل عليهم أن يبادروا إلى استئصال الفساد، وإيقاف الرّشوة وسرقة المال العام وهدره، وفرض الخوّات.

   

 5. "قلت لكم كلّ هذا، ليكون لكم بي السلام". هو سلام المسيح، المسكوب في قلوبنا وقلوب جميع المؤمنين، الذي يقوّينا ويثبّت إيماننا بالرجاء ويجسّده بالمحبة. هذا السّلام يأتينا من كلام الله الذي نقبله في قلوبنا، ومن نعمة الأسرار التي تقدّسنا وتقوّينا، وننمو به في مدرسة المسيح على هدي الروح القدس المعزّي الذي "يعلّمنا كلّ شيء ويذكّرنا بكلّ ما قاله المعلّم الإلهي، ويقودنا إلى الحقيقة كلّها" (يو14: 25- 26).

     

إنّ قول الربّ يسوع "ليكون لكم بي السلام" يعني أنّ المؤمن لا يكفيه الإيمان بحدّ ذاته لمواجهة الصّعاب والمحن، بل يحتاج إلى مساعدة النعمة الإلهية، كما أكّد الربّ لبولس الرسول في محنته: "تكفيك نعمتي" (2 كور12: 9). نتذكّر هنا والد ذاك الصّبي الذي كان فيه روح نجس يعذّبه كثيرًا. فعندما قال له يسوع: "إذا كنت قادر أن تؤمن، فكلّ شيء ممكن للمؤمن"، صاح الوالد للحال: "عندي إيمان! فساعدني حتّى يزيد" (مر9: 23- 24).

    

6. "سيكون لكم في العالم ضيق، لكن ثقوا أنا غلبتُ العالم". العالم في إنجيل يوحنا هو عالم الشّرّ، والشّهوات الثلاث الرّئيسيّة: شهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الحياة (1يو2: 16). في هذا العالم العدائي يُدعى المؤمنون بالمسيح للشّهادة له ولو كلّفهم ذلك تقديم شهادة الدّمّ. 

 

فالمسيح "الشّاهد الأمين" هو شهيد الله بامتياز، إذ بذبيحة ذاته الطوعيّة أدّى شهادة أمانته العظمى للرسالة التي أولاه إيّاها الآب. كان يعلم يسوع مسبقًا بموته، لكنّه قبله بتمام رضاه، تعبيرًا عن أمانته الكاملة للآب (راجع يو 10: 18). وعند ساعة محاكمته قال: "أنا وُلدتُ وأتيت إلى العالم لأشهد للحقّ" (يو18: 37).

 

الكنيسة ونحن أعضاؤها "ولدنا من الماء والروح" لنشهد للحقّ، لنعلن إنجيل المسيح الذي فيه حقيقة الله والإنسان والتاريخ، كما أعلنها الربّ يسوع للعالم. إنّ وصيّة بولس الرسول لتلميذه طيموتاوس، التي سمعناها في القراءة، تدعو كلّ واحد وواحدة منّا لإعلان إنجيل الحقيقة: "أناشدُك في حضرة الله والمسيح يسوع، بحقّ ظهوره وملكوته: "بشِّر بالكلمة، وداوم على ذلك في وقته وفي غير وقته. وبِّخْ وأنِّب وعِظْ، بكلّ أناة وتعليم، لأنّه سيأتي وقت لا يحتمل فيه الناس التعليم الصحيح... فكنْ متيقّظًا في كلّ شيء، واحتمل المشقّة، واعملْ عمل المبشّر، وتمِّمْ خدمتك على أكمل وجه" (2 طيم 3: 1-5).

   

 7. استشهاد المسيح هو أساس الكنيسة. فقد ولدت منه مثل السّنبلة من حبّة الحنطة التي تقع في الأرض وتموت (راجع يو12: 24). واستشهاد إسطفانوس والرسل كان الدّافع الأوّل لانتشار الكنيسة. لذلك ردّد آباؤها بدءًا من ترتليانوس: "دم الشّهداء بذار المسيحيّين". وهكذا نمت الكنيسة وانتشرت، بما فيها كنيستنا المارونيّة بفضل شهدائها الذين ساروا على خطى "الشّاهد الأمين الصّادق" (رؤيا3: 14)، يسوع المسيح.

     

فإنّا معهم، وهم قائمون حول عرش الحمل وقد غسلوا حُللهم وبيّضوها بدمه، "وهو الذي يهديهم إلى ينابيع ماء الحياة" (رؤيا 7: 14-17)، نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين.

 

 

موقع بكركي.