عظة البطريرك الراعي - عيد تجلّي الربّ «متفرقات

 

 

 

"تجلّى يسوع أمام عيونهم، وكانت ثيابه تتلألأ بيضاء جدًّا كالثلج" (مر 9: 2-3).

 

 

 

1. عندما أعلن يسوع أمام تلاميذه "أنّ عليه أن يتألّم كثيرًا، ويُرذل من الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة، ويُقتل، وبعد ثلاثة أيّام يقوم" (مر31:8)، كانت الصدمة لبطرس الذي سبق وأعلن أنّ يسوع هو "المسيح ابن الله الحيّ" (مر29:8). فاعترض قائلاً: "حاشى أن يكون لك ذلك". وبعد ستّة أيّام اصطحبه مع يعقوب ويوحنا إلى جبلٍ عالٍ، "وتجلّى أمام عيونهم، وكانت ثيابه تتلألأ بيضاء جدًّا كالثلج" (مر 9: 2-3).

 

 

 

فأراد بذلك تثبيت إيمانهم بألوهيّته، واستباق مجد قيامته من الموت، وكشف قيمة آلامنا الخلاصيّة، إذا ما ضُمَّت إلى آلامه.

 

 

 

2. يسعدنا أن نحتفل معكم، جريًا على تقليدٍ عريق، بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة، إحياءً لعيد تجلّي الربّ يسوع. من أجل هذه الغاية، شاء أسلافي البطاركة معكم، يا أهالي بشرّي الأعزّاء، تشييد كنيسة التجلّي في أرز الربّ الخالد والشامخ بمهابته، والمشبّهة به حكمة الله كما جاء في الكتاب المقدّس: "إرتفعتُ كالأرز في لبنان" (سيراخ 13:24). فنقدّم هذه الذبيحة الإلهيّة على نيّتكم، أيّها الحاضرون، ونيّة القيّمين على حماية غابة الأرز وتطويرها، وعلى نيّة كلّ أبناء بشرّي والمنطقة وكهنتهم. نذكر بصلاتنا أجيالكم الطالعة ومرضاكم وأبناءكم المنتشرين تحت كلّ سماء. ونصلّي لراحة نفوس موتاكم.

 

 

 

 

 

3. إنّنا في كلّ مرّة نزور الأرز، نشعر بالدعوة إلى الإرتقاء روحيًّا وأخلاقيًّا، ثقافيًّا ووطنيًّا، مثل الذين سبقونا من أبناء هذه المدينة وجبّتها الممتدّة بمدنها وبلداتها وقراها على ضفاف الوادي المقدّس ومداه. ونخصّ بالذّكر البطاركة العظام أمثال المكرَّم أسطفان الدويهي ونصلّي كي يظهر الله قداسته ويُرفع على مذابح الكنيسة؛ والبطريرك أنطون عريضه، رجل الإستقلال والميثاق الوطني؛ والمطران يوسف سمعان السّمعاني حافظ المكتبة الفاتيكانية، ورائد المجمع اللّبناني المنعقد سنة 1736 في دير سيّدة اللّويزة بزوق مصبح. ويضيق المجال لاستعراض مآثر البطاركة الآخرين والمطارنة أبناء هذه الأرض. ويفوق الجميع القدّيس شربل بسموّ قداسته. ولا ننسى رجال الفكر والثقافة والفنّ والأدب والشعر وعلى رأسهم جبران خليل جبران الذائع الصّيت في أدبيات العالم، ولاسيّما بلوحاته وكتابه "النبي" المترجَم إلى العديد من اللّغات.

 

 

 

ونشعر بالدعوة الى التجذّر في هذه الأرض، والصمود بوجه رياح المحن، والإصغاء لما يروي لنا الأرز والجبال والوادي المقدّس عن مآثر الآباء والأجداد، لكي نواصل التاريخ بكتابة صفحات مجيدة جديدة أمثالهم.

 

 

 

 

4. التجلّي المصحوب بترائي ايليّا وموسى يعني أنّ الربّ يسوع يحقّق بهاء صورة الله الكاملة التي ظهرت انعكاسًا على وجه موسى على جبل سيناء، وعلى وجه ايليّا على جبل الكرمل. ويستبق بمجد قيامته تحقيق صورة الله في الأبرار والقدّيسين، الذين قال عنهم الربّ يسوع: "يتلألأون كالشمس في ملكوت الآب" (متى 43:13). وهكذا، يتجلّى لنا يسوع بأنّه محور الأزمنة، ووسيط العالمَين: عالم الله وعالم البشر.

 

 

 

5. لا يقف حدث التجلّي عند حدود الماضي، بل هو دعوة لإجراء التغيير فينا، وقد عبّر عنه بولس الرسول بهذا النّداء: "أيّها الإخوة، تغيّروا بتجديد أفكاركم، ولا تتشبّهوا بهذا العالم، بل ميّزوا أين هي مشيئة الله الصّالحة والكاملة" (روم 2:12). وفي رسالته إلى أهل فيليبي وجّه دعوة أخرى للتغيير بقوله: "تخلّقوا بأخلاق المسيح، الذي أخلى ذاته، وأخذ مثال الخادم" (فيل 2: 5 و7).

 

 

 

 

حياتنا مسيرة تغيير تصبو بنا لنصير على مثال المسيح في مجده، على ما يقول أيضًا بولس الرسول: "إنّنا ننتظر محيينا ربّنا يسوع المسيح الذي سيغيّر جسد حقارتنا، لنصير شبه جسد مجده" (فيل 3 :20-21).

 

 

 

 

6. هذا الكلام موجّه إلى كلّ إنسان، وبخاصّة إلى كلّ مسؤول في العائلة والمجتمع، وفي الكنيسة والدولة. فعندما يغيّر المسؤول مجرى حياته الخاصّة بالصّلاة والتّوبة والتأمّل بكلام الله، إنّما يغيّر معه بيئته وكلَّ من يتعاطى معه. فلو طال التغيير الذاتي حياة المسؤولين في الدولة، لكان التغلّب على الفساد المستشري قد تمَّ، لأنّ مصدره فساد قلب الإنسان وأخلاقه؛ ولكان تأليف الحكومة قد حصل منذ أوائل أيّام التكليف، لأنّ سببه الأنانية والحسابات الشخصيّة والنوايا غير السّليمة.

 

 

 

ثمّ أليس من المعيب والمسيء مثلاً الكلام منذ الآن، ونحن في الثلث الأوّل من العهد الرئاسي، عن حكومة تحتسب انتخاب الرئيس المقبل؟  وكأنّ هذا الموضوع هو الهمّ الوحيد، وليس انتشال الشعب اللبناني من حالة الفقر والعوز، ولا النهوض بالاقتصاد في كلّ قطاعاته، ولا العمل على تقليص الديون والخروج من العجز، ولا تأمين فرص عمل لقوانا الحيّة، ولا الحدّ من هجرتها وافقار البلاد من قدراتها!

 

 

 

 

7. أمّا الصوت الذي سُمع: "هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا" (مر 7:9)، فهو دعوة لعدم الخوف من السّير على خطى المسيح في تغيير الذات، والتحلّي بالأخلاق الرفيعة؛ ودعوة لانتزاع شكّ الصّليب والألم والفشل والفقر والاضطهاد والظلم من نفوسنا. فهذا المسيح المتألّم هو إيّاه الممجَّد بالقيامة، كما ظهر في حدث التجلّي.

 

 

 

 

إنّنا نسأله الصمود في الإيمان والرَّجاء، بوجه محن الحياة وصعوباتها، حتّى نبلغ بنعمته إلى تغيير ذواتنا وتغيير وجه عالمنا. فنستحقّ أن نرفع من عمق قلوبنا نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدوس، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي - عيد تجلّي الربّ، كنيسة الأرز

موقع بكركي.