عظة البطريرك الرّاعي - الأحد الخامس من زمن القيامة «متفرقات

 

 

"يا سمعان بن يونا أتحبّني أكثر من هؤلاء؟ إرعَ خرافي" (يو16:21)

 

 

 

 

      1. سؤال الرّبّ المثلَّث لسمعان - بطرس هدَفَ إلى ثلاثة: تذكيره بنكرانه ثلاث مرّات، والتّأكيد له عن غفرانه، واعتبار حبّه ليسوع أساسًا أصيلًا لتسليمه رعاية خرافه. لقد ندم بطرس على نكرانه ليسوع، "وبكى بكاءً مرًّا" (متى 75:26). فغفر له الرّبّ، إذ تأكّد من الحبّ الكبير الذي في قلبه، فاختاره لينقل محبّته إلى جميع النّاس الذين افتداهم بموته على الصّليب، سالكًا طريق الألم، إذ قال له: "إتبعني!" (يو19:21).

 

 

 

      2. نقدّم الذّبيحة الإلهيّة اليوم، مع صلاة وضع البخور في نهايتها، لراحة المثلَّثي الرّحمة أبينا البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير، وأخينا المطران رولان أبو جوده. وقد دعاهما الله إليه في غضون أسبوع، للدّلالة على اتّحادهما بالمحبّة والخدمة المتفانية في البطريركيّة مدّة أربعٍ وأربعين سنة، قائمة على الصّلاة والتّجرّد والعطاء بدون حساب. نسأل الله أن يشركهما في وليمة عرس الحمل، وهما متّشحان بثوب النّعمة النّاصع البياض.

 

 

 

 

      3. لقد آلمتنا في العمق، كما جميع النّاس، داخليًّا وخارجيًّا، الإساءةُ النّكراء التي لحقت في الأمس، بالمثلّث الرّحمة البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير، وجثمانُه في مثواه على أرضنا، وروحُه تنعم بالرّؤية السّعيدة في السّماء. لقد خطر في بالي مشهدُ الجنديّ الرّومانيّ الذي طعن بالحربة قلب يسوع الميت على الصّليب، فكان جواب المسيح الفادي أن جرى من قلبه دم وماء (يوحنا 34:19). الدّمّ هو الرّمز لحبّه الغافر والدّاعي إلى التّوبة وتغيير مجرى الحياة السّيّئة. والماء رمزٌ لماء المعموديّة الذي نولد منه أبناء وبنات الله جددًا. هذه هي الثّقافة الرّوحيّة والأخلاقيّة التي ينبغي أن تبثّها دائمًا المسيحيّة في ثقافات الشّعوب والأمم.

 

 

 

 

      4. السّؤال الذي وجّهه الرّبّ يسوع إلى سمعان – بطرس للتّأكّد من حبّه المميّز له، هو إيّاه وجّهه على التّوالي إلى المثلَّثي الرّحمة. وجّهه إلى الشّاب نصرالله في ريفون، عندما سلّمه محبّته ليحملها إلى الذين افتداهم، بالدّعوات المتتالية إلى كلٍّ من رسالة الكهنوت والأسقفيّة والبطريركيّة والكرديناليّة. كما فعل مع الشّاب رولان في جلّ الدّيب، عندما خصّه بالدّعوتين: إلى الكهنوت والأسقفيّة.

 

 

 

 

      فهِم كلاهما أنّ الدّعوة، على أنواعها، هي الشّهادة لمحبّة المسيح، وأنّ المسؤوليّة، بقدر ما ترتفع درجتها، ترتفع أيضًا في واجب التّفاني في الخدمة المتجرّدة حتّى الموت عن الذّات. فبعد السّؤال والجواب المثلّثين بين يسوع وسمعان بطرس، تنبّأ له الرّبّ عن موته في سبيله وسبيل رسالة الكنيسة للفداء، وختم قائلاً: "إتبعني" في هذا الطّريق. هكذا فعل مثلّثا الرّحمة اللّذان يبقيان لنا المثال والقدوة، وهما يشفعان بنا لدى العرش الإلهيّ. وإذ نصلّي لراحة نفسيهما، نعرب عن تعازينا الحارّة لإخواننا السّادة المطارنة، أعضاء السّينودس المقدّس، ولأهلهما وأنسبائهما، ولاسيّما من آل صفير وأبو جوده الأحبّاء.

 

 

 

      5. سؤال الرّبّ يسوع إيّاه موجّهٌ إلى كلّ واحد من الذين دعاهم الى الدّرجة المقدّسة في الشمّاسيّة والكهنوت والأسقفيّة. فإذ يشركهم الكاهن الأزليّ و"راعي الرّعاة" يسوع المسيح في سلطانه الكهنوتيّ المثلّث: التّعليم والتّقديس والرّعاية، إنّما يشركهم أوّلاً في رسالة محبّته وخدمته المتفانية والمضحّية وحمل صليب الفداء. والسّؤال موجّهٌ إلى كلّ الذين واللّواتي دعاهم المسيح للسّير على خطاه إلى المحبّة الكاملة في الحالة الرّهبانيّة عبر نذور الطّاعة والعفّة والفقر. فمن واجب المسؤولين الكنسيّين، أكانوا في الرّعيّة أم في الأبرشيّة أم في الرّهبانيّة، أن يعتبروا أنّ النفوس هي "خراف المسيح" التي افتداها بدمه، لا خرافهم هم، ما يعني خدمتها ومقاربتها بروح المسيح "الراعي الصالح الذي يبذل نفسه فدًى عن الخراف" (يو11:10).

 

 

 

      6. والسؤال موجّهٌ أيضًا إلى كلّ مسؤول في المجتمع والدّولة، وفقًا لنوع مسؤوليّته ودرجتها. فرسالتهم إنّما هي ممارسة مسؤوليّتهم وسلطتهم بحبّ وبروح الخدمة والعمل الدّؤوب من أجل توفير الخير العام، الذي منه خير جميع المواطنين وكل مواطن. هذا الخير العام يوفّره المسؤولون عندما يشمل كلاًّ من الشّأن الاقتصاديّ والاجتماعيّ والتّشريعيّ والاداريّ والثّقافيّ. فتتأمّن هكذا أوضاع الحياة الاجتماعيّة التي تمكّن الأشخاص والجماعات من تحقيق ذواتهم تحقيقًا أفضل (الكنيسة في عالم اليوم، 26 و 74).

 

 

 

      7. واضحٌ من هذه الصّفحة الإنجيليّة، أنّ المسيح جعل محبّته شرطًا أساسيًّا في قلب من تُسند إليه سلطةٌ في الكنيسة. هذا الشّرط مطلوبٌ أيضًا في قلب كلّ مسيحيّ يتولّى سلطةً في المجتمع أو في الدّولة، لأنّ السّلطة من التّدبير الإلهيّ. فالله الخالق وضع للعالم نظامًا لكي يعيش النّاس والشّعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا شؤون مدينة الأرض، فينعم الجميع بالخير والعدل (راجع شرعة العمل السّياسيّ، ص 5).

 

 

 

      8. تعلّم الكنيسة أنّ السّلطة السّياسيّة لا تأخذ شرعيّتها الأخلاقيّة من ذاتها بل من سعيها إلى تأمين الخير العام بالوسائل الجائزة أخلاقيًّا، أي على قاعدة الخير لا الشّرّ، والعدل لا الظّلم، والعدالة الاجتماعيّة لا الإقصاء والمحسوبيّة.

 

 

 

      وعلّم الرّبّ يسوع أنّ السّلطة خدمةٌ وبذلٌ للذّات في سبيل الجميع، وهي تفقد جوهرها وغاية وجودها ومبرِّرها، إذا أصبحت تسلّطًا (مر45:10).

 

 

 

      8. إنّنا نصلّي إلى الله من أجل كلّ مسؤول في الكنيسة والمجتمع والدّولة، لكي يعي موجبات سلطته تجاه الله والنّاس، ويهتدي بأنوار الرّوح القدس في فنّ خدمة الخير العام بالتّفاني والتّجرّد، لمجد الله والواحد والثّالوث الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 

موقع بكركي.