عظة البطريرك الرّاعي في عيد بشارة العذراء «متفرقات

 

 

 

عظة البطريرك الرّاعي في عيد بشارة العذراء

 

 

 

 

 "ها أنا أمة الرّب، فليكن لي بحسب قولك" (لو 1: 38).

 

 

إخواني السّادة المطارنة الأجلاء

قدس الرؤساء العامّين

الآباء والإخوة والأخوات الأحباء.

 

 

 

1. عندما بلّغ الملاك جبرائيل مريم، عذراء النّاصرة المخطوبة ليوسف، دعوتها الإلهيّة، لتكون أمّ ابن الله بقوّة الرّوح القدس، أجابت "نعم"، بطاعة الإيمان. واتّخذت موقع الخادمة للمولود فيها ولتدبير الله الخلاصيّ. إنّها، باسم كلّ مدعوّ ومدعوّة إلى خدمة المسيح والتّصميم الإلهيّ في الكنيسة، أعطت الجواب – المثال المنفتح على كلّ ما يريده الله: "ها أنا أمة الرّب فليكن لي بحسب قولك" (لو 1: 38).

 

 

2. يسعدني أن أحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة في بداية السّنة الثّامنة من خدمتي البطريركيّة بالنّعمة الإلهيّة وموآزرتكم، أنتم إخواني السّادة المطارنة، أعضاء سينودس كنيستنا البطريركيّة المقدّس، المتواجدين هنا مع المطرانين الجديدين سيمون فضّول ويوحنا-رفيق الورشا، وأولئك الغائبين بداعي الشّيخوخة والمرض وعلى رأسهم غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس، ومطارنة أبرشيّاتنا في النّطاق البطريركيّ وبلدان الإنتشار، وموآزرة الرّؤساء العامّين الحاضرين معنا، والرّئيسات العامّات، والكهنة والرّهبان وسائر أبناء كنيستنا المقدّسة. فإنّي أحيّيكم وأحيّيهم جميعًا بالمحبّة والشّكر والتّقدير.

 

3. إنّنا نقدّم ذبيحة الشّكر لله على السّنة السّابعة من خدمتي معكم الّتي انقضت على خير بنعمته، مع الاستغفار عن كلّ خطأ ونقص وإهمال، وعن كلّ ما لم يكن وفق مرضاته. ونستلهم أنوار الرّوح القدس ليضيء على خدمتنا المشتركة ويقودنا إلى الحقيقة كلّها. ملتمسين حماية أمّنا مريم العذراء، سلطانة الرّسل وأمّ الكنيسة.

 

4. ويطيب لي، كما في نهاية كلّ سنة من خدمتي وبداية السّنة الجديدة، أن أُعلن وأُوزّع رسالتي العامّة السّابعة بعنوان: "الحقيقة المحرِّرة والجامعة: وثيقة لاهوتيّة توضيحيّة حول مواضيع من تعليم الكنيسة". وقد قرّرنا سويّة إصدارها في دورة حزيران 2017 لسينودس كنيستنا المقدّس، بعد أن هيّأت مشروعها، مشكورة، اللجنة الأسقفيّة الّتي سبق وعيّنناها لهذه الغاية. ثم تواصل العمل على إعدادها في ضوء ما سلّمنا السّادة المطارنة تباعًا من ملاحظات واقتراحات وتعديلات. نأمل أن تساهم هذه الرّسالة في وضع حدّ للخلافات الدّائرة حول بعض من مواضيع تعليم الكنيسة. فإنّ من واجبنا، كرعاة مؤتمنين على وديعة الإيمان والتّعليم الصّحيح، أن نساعد كهنتنا ورهباننا وراهباتنا وسائر المؤمنين من أبناء كنيستنا على فهم الحقيقة الّتي علّمها ربّنا يسوع المسيح، كلمة الله، والتّقليد المقدّس الحيّ وتعليم الكنيسة، من أجل حماية الإيمان وعيشه وتثقيفه.

 

5. فرأينا من الواجب تضمين الرّسالة ستّة فصول: الأوّل، حول الوحي الإلهيّ ونقله ووديعة الإيمان؛ الثّاني، حول الكتاب المقدّس وعصمته وتفسيره؛ الثّالث، حول الإيمان بحقائق الحياة الأبديّة؛ الرّابع، حول إكرام السّيدة العذراء والقدّيسين والذّخائر؛ الخامس، حول الشّيطان وصلاة التّعزيم أو التّقسيم؛ السّادس، مخصّص لتوجيهات راعويّة من أجل تطبيق هذه الوثيقة والالتزام بمضمونها.

 

إنّنا نكلها إليكم، إخواننا السّادة المطارنة، وإلى الرؤساء العامّين والرّئيسات العامّات، من أجل التعمّق في مضمونها مع كهنتكم ورهبانكم وراهباتكم، كي ينقلوا تعليمها صافيًا إلى أبناء كنيستنا وبناتها الأحبّاء، لمجد الله وإعلاء شأن الكنيسة وخلاص النّفوس.

 

6. "ها أنا أمة الرّب" (لو 1: 38). جواب طاعة الإيمان هذا من مريم هو جواب الكنيسة، برعاتها وشعبها ومؤسّساتها. فمريم، العذراء والأم، هي صورة الكنيسة وأيقونتها. في مرآتها يجد كلّ واحدٍ وواحدة منّا وجهه الحقيقيّ. تشكّل مريم، عذراء النّاصرة المخطوبة ليوسف البار، حلقة في خاتمة تاريخ الخلاص وبدايته. هي حلقة في خاتمة مسيرة طويلة لشعب الله في العهد القديم الّذي هيّأ مجيء المخلّص والفادي؛ وحلقة في بداية مسيرة شعب الله الجديد الّذي هو الكنيسة، بميلاد المخلّص والفادي المنتظر آخذًا منها الحياة البشريّة. إنّه وحده محور التّاريخ وملؤه، كما كتب بولس الرّسول: "ولمّا بلغ ملء الزّمن، أرسل الله ابنه مولودًا لامرأة، في حكم الشّريعة، ليفتدينا، فننال حالة البنين" (غلا 4: 4).

 

7. ملء الزّمن هو "زمن المسيح"، وبالتّالي "زمن الكنيسة". ما يعني أنّه زمن ملكوت الله أي زمن الحقيقة والعدالة، زمن المحبّة والحريّة، زمن الأخوّة والسّلام، زمن خلاص كلّ إنسان، روحيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا.

 

فلأنّ زمن المسيح هو زمن الإنسان وخلاصه، انطلقت الكنيسة تعمل من أجل هذا الخلاص الرّوحي أوّلاً وأساسًا. وبما أنّ الإنسان وحدة متكاملة بكلّ أبعادها، اعتنت الكنيسة أيضًا بخلاصه التّربوي والاجتماعي والصّحي. فأسّست المدارس والجامعات والمؤسّسات الخيريّة والمراكز المتخصّصة لليتامى والمسنّين والمعوّقين وذوي الاحتياجات الخاصّة، والمستشفيات والمستوصفات. واعتنت بخلاصه الاقتصادي، فأنشأت المجمّعات السّكنيّة، وأمّنت فرص عمل وإنتاج بتثمير أراضيها، وبتأجيرها لمشاريع زراعيّة واقتصاديّة وسياحيّة. ولم تستطع الوقوف مكتوفة الأيدي أمام الظّلم المُمارس بحقّ أي إنسان أو جماعة أو شعب، وأمام أي ضرر بالمجتمع أو بالمؤسّسات التّربويّة والاستشفائيّة، أو بالوطن وكرامته وسيادته وازدهاره.

 

من أجل كلّ ذلك، كانت وتظلّ الكنيسة حرّة من المصالح الخاصّة ومن الأشخاص والألوان السّياسيّة، فاستطاعت دائمًا أن تخاطب الضّمائر، وتبتعد عن أي نوع من المساومة، مرتكزة في كلّ ذلك على المبادئ الرّوحيّة والأخلاقيّة، وعلى الثّوابت الوطنيّة.

 

8. البشارة لمريم وميلاد المسيح في ملء الزّمن يعنيان أنّ الله الخالق هو سيّد التّاريخ البشريّ وتاريخ الخلاص، وأنّ الإنسان، كلّ إنسان، معاون له في تحقيقه، وفقـًا لدعوة خاصّة بكلّ شخص، وللنعمة المجّانيّة، ولمواهب الرّوح. المسيحيّون العائشون في العالم مدعوُّون لبناء ملكوت الله فيه، ولتقديس العمل والنّظام الزّمني، السّياسي والاقتصادي والاجتماعي. فلا يمكن بناء تاريخ بشريّ سليم، بمعزل عن تاريخ الخلاص. إنّ الحكم الزّمني، تشريعًا وتنفيذًا وإدارة وقضاء وأمنًا، خاضع لشريعة الله الطّبيعيّة والموحاة والأخلاقية، لكي تأتي أعماله سليمة وبنّاءة ومثمرة.

 

ونحن في الدّعوة الكهنوتيّة والأسقفيّة والرّهبانيّة خصّنا الله بنعمة فريدة، من دون أي استحقاق من أحد. فكم يجدر بنا أن نكون أمناء لها، متّصفين بطاعة الإيمان وتواضع الخدمة على مثال أمّنا وسيّدتنا مريم العذراء! ولا ننسينّ أن كلمة "نعم" لإرادة الله عندها استمرّت من "نعم" البشارة السّارة، إلى "نعم" مرارة الصّليب. وهي ليست مجرّد كلمة من الفمّ، بل طاعة بملء العقل والإرادة والقلب. نعم البشاره، أصبحت أم الكلمة المتجسّد يسوع المسيح التّاريخي؛ ومع نعم الصّليب، أضحت أمّ المسيح السّري الّذي هو الكنيسة.

 

هذه هي أمثولة بشارة العذراء، الّتي نجعلها بشارتنا كلّ يوم، فتكون فينا دعوة متجدّدة من الله لكلّ واحد وواحدة منّا، وجواب طاعة في الحلو والمرّ من حياتنا، وخدمة بدون حساب.

 

صلاتنا إلى الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سلطانة الرّسل وأمّ الكنيسة، أن يمنحنا نعمة تجديد وعودنا، لمجد الثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

موقع بكركي.