علامَ تتأسّس الشهادة؟ «متفرقات

 

 

علامَ تتأسّس الشهادة؟

 

 

الجواب بسيط: على موت يسوع، على تضحيته السامية في المحبّة، وقد بذل نفسه على الصّليب كي تكون لنا الحياة (يوحنّا 10، 10). المسيح هو العبد المتألّم الذي يتكلّم عنه النبيّ أشعيا (52، 13 -15)، والذي بذل نفسه فداءً عن كثيرين (متّى 20، 28). إنّه يحثّ تلاميذه، كلّ واحد منّا، على أن يحمل صليبه كلّ يوم ويسير وراءه على درب المحبّة الكاملة لله الآب وللإنسانيّة: "ومَن لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقّني. مَن وجد نفسه يفقدها، ومَن فقد نفسه من أجلي يجدها" (متّى 10، 38 -39).

 

إنّه منطق حبّة الحنطة التي تموت لتثمر وتعطي الحياة (يوحنّا 12، 24). يسوع نفسه هو حبّة الحنطة الآتية من الله، حبّة الحنطة الإلهيّة، الذي يدع نفسه يسقط على الأرض، يجعل نفسه ينسحق، ويتكسّر في الموت، ومن خلال هذا تحديدًا، ينفتح وبالتالي يمكنه أن يحمل ثمارًا في اتّساع العالم. فالشّهيد يتبع الربّ على أكمل وجه، وذلك بتقبّل الموت بحريّة من أجل خلاص العالم، في برهانٍ سامٍ على الإيمان والمحبّة (نور الأمم، 42).

ومرّة أخرى نتساءَل، من أين تلد القوّة لمواجهة الاستشهاد؟

 

من الاتّحاد العميق والحميم بالمسيح، وذلك لأنّ الاستشهاد والدّعوة إلى الاستشهاد ليسا نتيجة جهدٍ بشريّ، بل هما استجابة لمبادرة ونداء من الله، إنّهما عطيّة نعمة الله، التي تمكّننا من وهب حياتنا من أجل محبّة المسيح والكنيسة، وبالتالي للعالم.

 

إذا قرأنا حياة الشّهداء سنبقى مذهولين للصّفاء والشّجاعة في مواجهة العذاب والموت: تظهر قوّة الله بالكامل في الضعف، وفي فقر مَن يتّكل عليه ويضع رجاءه في الله وحده (الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس 12، 9).

 

ولكن من المهمّ التشديد على أنّ نعمة الله لا تقمع أو تكبت حريّة مَن يواجه الاستشهاد، لا بل على العكس تُغنيها وتُبرزها للعيان: فالشّهيد هو شخص حرّ بِشكلٍ سامٍ، حرّ تجاه السّلطة، وتجاه العالم؛ وهو شخص حرّ، يسلّم الله كلّ حياته في عمل حاسم، بِفعل إيمان سامٍ، ورجاء ومحبّة، يضع نفسه بين يدي خالقه وفاديه؛ يضحّي بِحياته كي يرتبط بِشكلٍ كامل بِذبيحة المسيح على الصّليب. وبكلمة واحدة، الاستشهاد هو فعل محبّة كبير ردًّا على محبّة الله الشاسعة.

إخوتي وأخواتي الأعزّاء، لسنا على الأرجح مدعوّين إلى الاستشهاد، ولكن لا أحد منّا يُستثنى من الدّعوة الإلهيّة إلى القداسة، وإلى عيش الحياة المسيحيّة على مستوى عالٍ، وهذا يعني أن نحمل على أكتافنا صليب كلّ يوم. وخاصّةً في زمننا حيثُ يبدو أنّ الأنانيّة والفرديّة تسودان، يجب أن نلتزم جميعًا كجهد أوّلي وأساسيّ أن ننمو كلّ يوم بِمحبّة أكبر لله وللإخوة من أجل تحويل حياتنا وبالتالي تحويل عالمنا أيضًا. لنسأل الله، بشفاعة القدّيسين والشهداء، أن يُضرم قلوبنا لتكون قادرة على المحبّة كما أحبَّ هو نفسُه كلَّ واحدٍ منّا.

 

 

البابا بنديكتس السادس عشر - 2010