عَلِّمْني يا رَبُّ طرقكَ فأَسيرَ في حَقِّكَ (مز 86/ 11) «متفرقات

 

 

عَلِّمْني يا رَبُّ طرقكَ فأَسيرَ في حَقِّكَ (مز 86/ 11)

 

 

ما من شيء يدخل الإنسان من الخارج يستطيع أن يجعله نجساً، أي يمنعه من السَّير نحو إتمام خلقه على صورة الله. النجس هو ما لم يُشارك به، فاسد بخليط من الأهداف والنوايا. هكذا، باللّغة الدّارجة نتكلّم عن «نبيذٍ صافٍ». والإنسان النجس هو الإنسان «الجالس بين مقعدين»، إنسان «النعم واللا»، إنسان «النعم ولكن».

 

 لهذا السبب يقول المزمور: «عَلِّمْني يا رَبُّ طرقكَ فأَسيرَ في حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبي فأَخافَ اْسمَكَ» (86، 11). أمّا النقاوة الشرعيّة فهي أمر آخر: إنّها تكمن في ممارسة الإنسان لعدد من الطقوس ذات معنى. ومشكلة كلّ طقس هي أنّه لا يُمكن البقاء على صعيد الحركات دون الذهاب إلى المعنى.

 

 فالوضوء الخارجيّ، النظافة، الغسل، يعني اختيار النقاوة الداخليّة كما وصفتها الآن. أقل من ذلك، الممارسة الصحيّة تجد ذاتها بهذه الطريقة مُكافأة بمعنى ديني. ولكي لا يُنسى هذا المعنى، تُرافق الحركات الطقسيّة دائماً بكلمات تشرح ما نبحث عنه من خلال الممارسات.

 

 فالقلب يكون منقسم، نجس، عندما يتوجّه في آنٍ معاً، إلى لله وإلى الأصنام. والتعداد الذي يقترحه يسوع على تلاميذه: والزِّنى والطمع والخبث والمكر والفجور والحسد والشتم والكبرياء والغباوة، يتناسب مع الممارسات الصنميّة، كعبادة المال، والجنس والإرادة في التسلّط، الخ...

 

 إنّها تشكّل «القوَّة والسلطات» التي وضعها يسوع تحت قدميه كما يقول لنا القدّيس بولس. من البديهيّ أنّ هذه القوّة والسلطات بإمكانها أن تستفزّنا من الخارج بكثير من العنف. في الحقيقة، إنّها لا تتركنا بدون أثر. ويسوع يقول لنا أن ما يأتينا من الخارج لا يمكنه بالفعل أن يهدمنا.

 

لكن ليس تمامًا. في الواقع، يمكن للأصنام أن تؤذينا كثيراً، والمسيح نفسه كان الضحيّة، فالحسد والخوف من فقدان السّلطة، قادا قادة الشّعب إلى صلب المسيح. فعندما يقول لنا المسيح أن ما يأتينا من الخارج لا يمكنه أن يفسدنا، فهو يوضح لنا تمامًا ما سيحدث على الصّليب. لقد تأذى جسديًّا لكنّه بقي طاهرًا.

 

 وما من شيء يمكن أن يفصله عن طبيعته الخاصّة التي هي الحبّ. لا بل على العكس، كلّما انتشر شواذ الإنسانيّة، كلّما كشف هذا الحبّ مجانيَّته المُطلقة. هنا، نكتشف الحبّ بشكله الصّافي.

 

في المجمل، كثيرون من بيننا قادرون على قبول هذا الأمر عقلياً، لكن كلّ شيء يتعقـَّـد عندما يكون الموضوع هو المغفرة الفعليّة: فالإرادة في الانتقام تُعلن كثيرًا عندما نجد أنفسنا في مواجهة الظلم وعدم العدالة. في هذه الحالة يستحوذ «النجس» على الكلمة التي فينا.

 

 كتلميذ للمسيح يظهر فينا شخص مختلف، آخر غيرنا مخفيّ حتّى الآن، جالس بدهاء وخبث على بابنا، كالخطيئة التي يتحدّث عنها الفصل 4 من سفر التكوين بخصوص جريمة قايين. آنذاك يظهر النجس الذي في قلبنا.

 

 ويسوع ينتقد الكتبة بأنّهم يتركون جانباً وصيّة الله ويتمسّكون بتقليد البشر (مر7/ 1-23). إنّه يدعونا لتجاوز كلّ ما هو دين، ووضع هذا الأخير حيث يجب أن يكون، لا في تقليد البشر، بل في وصايا الله.

 

 عن قصد أم لا، هؤلاء الوُجهاء، الكتبة، يمارسون الحكم باختيارهم هذا الموقف بدلاً من الموقف الآخر. فممارسة الحريّة هي بالتالي مصدر هذا الانحطاط في العلاقة مع الله. ولا يُمكن أن يكون هناك من نجس بدون الحريّة. وأحد المفكِّرين الفرنسيِّين يقول بأنّه علينا أن نختار جزءًا منّا لكي نميّزه. فليس كلّ ما يخرج من قلب الإنسان له ذات القيمة.

 

الملفت للانتباه أنّ يسوع لم يضع أصل الشرّ في روح نجس أو شرير، أو شيطان يعمل في العالم. لأنّه في هذه الحالة، الشرّ الذي نرتكبه يأتينا من الخارج، ممّا يعني أنّ ما يدخل في الإنسان يمكن أن ينجّسه. كما أنّ يسوع لم يتحدّث أبداً عن الطقوس الدينيّة.

 

وعندما يتحدّث بولس الرّسول في رسالته إلى أهل كورنتس (5/ 3-5) عن القوَّة والسُّلطات، فهو يتكلّم قبل كلِّ شيء عن «العصر»، عن العقليّات الجماعيّة التي نسبح فيها، لكنّها تأتي من نوع من مؤامرة الحريّات الفرديّة، والتي تجد مصدرها فينا. مثلاً هوس الاستهلاك.

 

 كما أنّ فينا أشخاصًا لسنا مضطّرين أن نعطيهم الكلام، مهما فكّر بعض عقائديي العفويّة. عفوية ليست بالضرورة حقيقة. ونصّ الإنجيل عند القدّيس مرقس (7/ 1-23) ينتهي بتعداد التصرّفات الشّاذة والتي تلتقي مع ممنوعات الوصايا العشر. كلّ هذه الممنوعات تخصّ في النهاية مختلف أشكال القتل.

 

 قتل الله، قتل ابن الله، وقتل أي إنسان. بالمقابل، الوصيّة الوحيدة، بالتأكيد هي وصيّة حبّ الله، التي لا يمكن ممارستها إلاَّ من خلال حبّ البشر، فهي ضدّ كلّ أنواع القتل. فالطقوس، مختلف الاحتفالات، والمراسم، الصّوم والانقطاعات تفقد كلّ قيمتها إن لم تكن تعبير عن هذا الاختيار الأساسيّ وتشجيع لممارسته.

 

 

 

الأب رامي الياس اليسوعي.