كلمة البابا خلال القداس الإلهي الذي ترأسه في باليرمو «متفرقات

 

 

في إطار زيارته إلى باليرمو ترأس قداسة البابا فرنسيس ظهر يوم السبت القدّاس الإلهيّ بمناسبة الذكرى السنويّة الخامسة والعشرين على استشهاد الطوباويّ الأب بينو بوليزي وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها:

 

 

 

يحدِّثنا الله اليوم عن الانتصار والهزيمة. وفي القراءة الأولى يقدِّم القدِّيس يوحنّا الإيمان كـ"الغلبة التي غلبت العالم" (يوحنا ٥، ٤) فيما ينقل إلينا الإنجيل قول يسوع: "مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها" (يوحنا ١٢، ٢٥). هذه هي الهزيمة: يخسر من يحبّ حياته. لماذا؟ بالتأكيد ليس لأنّه ينبغي علينا أن نكره الحياة بل يجب أن نحبّها وندافع عنها لأنّها عطيّة الله الأولى؛ ولكن ما يحمل إلى الهزيمة هي المحبّة الأنانيّة لحياتنا أي أن نعيش لأنفسنا فنخسر.

 

 

 

 

 علينا إذًا أن نختار: محبّة أو أنانيّة. إنَّ الأناني يفكّر فقط بالاعتناء بحياته ويتعلّق بالأشياء والمال. وحياة كهذه تنتهي بشكلٍ سيّئ على الدوام: فيبقى الإنسان وحده، يملأه الفراغ. تمامًا كما لو أن حبّة القمح التي يخبرنا عنها الإنجيل بقيت منغلقة على نفسها فتبقى وتموت تحت الأرض؛ أمَّا إذا انفتحت وماتت فستنمو وتحمل ثمارًا. قد تقولون لي إنَّ بذل الذات والحياة في سبيل الله والآخرين هما تعب بلا جدوى لأنَّ العالم لا يسير على هذا النحو، إذ للسير قدمًا لا تنفع حبوب القمح وإنّما المال والسّلطة. لكنَّ الله لا يمارس السُّلطة ليحلَّ مشاكل عالمنا بل دربه هي على الدوام درب الحب المتواضع: وحده الحبّ يحرِّر من الداخل ويمنح السّلام والفرح، ولذلك فالسلطة الحقيقيّة بحسب الله هي الخدمة.

 

 

 أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، نحن مدعوُّون اليوم لنختار الجانب الذي نريد اتّخاذه: أن نعيش لأنفسنا أو أن نبذل حياتنا. وحده بذل الحياة يغلب الشرّ، وهذا ما كان يعلِّمه الأب بينو: لم يكن يعيش لكي يراه الناس ولا لكي يطلق نداءات ضدّ المافيا كما وأنّه لم يكتفِ بأنّه لم يكن يسبب الأذى لأحد بل كان يزرع الخير على الدوام. لقد كان منطقه يبدو خاسرًا ولكنّه كان محقًّا لأنَّ منطق الإله-المال هو الخاسر. لننظر إلى داخلنا. الامتلاك يدفعنا على الدوام لنرغب في المزيد وهذا إدمان سيّئ. من يمتلئ بالأمور الماديّة ينفجر أمَّا مَن يُحبّ فيجد نفسه ويكتشف كم هي جميلة مساعدة الآخرين وخدمتهم ويجد الفرح الداخليّ والابتسامة الخارجيّة، تمامًا كالأب بينو.

 

 

 

 لخمس وعشرين سنة خلت، عندما توفي في يوم عيد ميلاده، كلّل انتصاره بالابتسامة، بتلك الابتسامة التي لم تسمح لقاتله أن ينام إذ قال: "لقد كانت تلك الابتسامة تشعُّ بنور مميّز". لقد كان الأب بينو أعزلاً لكنَّ ابتسامته كانت تحمل قوّة الله. نحن بحاجة للعديد من الكهنة المبتسمين، ولمسيحيِّين مبتسمين لا لأنّهم لا يأخذون الأمور على محمل الجد وإنّما لأنّهم أغنياء فقط بفرح الله ولأنّهم يؤمنون بالحبّ ويعيشون من أجل الخدمة. لأنّه في بذل الحياة فقط يجد المرء السَّعادة إذ أنَّ "السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأَخْذ" (أعمال ٢٠، ۳٥).

 

 

 

 لقد كان الأب بينو يعرف أنّه يخاطر ولكنّه كان يعرف أيضًا أن الخطر الحقيقيّ في الحياة ليست المخاطرة وإنّما العيش بين الرفاهيّة والأساليب المختصرة لتحقيق الأهداف. ليحرّرنا الله من حياة تكتفي بأنصاف الحقيقة. ليحرّرنا من الاعتبار أنّ الأمور تسير جيّدًا إن كانت تناسب مصالحي. ليحرّرنا من الاعتقاد بأنّنا أبرارًا إن لم نقم بشيء لمواجهة الظلم. ليحرّرنا من اعتبار أنفسنا صالحين لأنّنا لا نؤذي أحدًا. أعطنا يا ربّ الرَّغبة في فعل الخير والبحث عن الحقيقة فنبتعد عن الكذب والزور ونختار التضحية لا الكسل؛ الحبّ لا الحقد والمغفرة لا الانتقام.

 

 

 

 نحن نعطي الحياة للآخرين ولا نسلبها منهم. لا يمكننا أن نؤمن بالله ونكره أخانا. وهذا ما تذكرنا به القراءة الأولى: "إِذا قالَ أَحَد: "إِنِّي أُحِبُّ الله وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا". هو كاذب لأنّه يكذِّب الإيمان بإله- محبّة. إنَّ الله – المحبّة يرفض العنف ويحبّ جميع البشر. لذلك ينبغي حذف كلمة "حقد" من الحياة المسيحيّة لأننا لا يمكننا أن نؤمن بالله ونستعبد أخانا. لا يمكننا أن نؤمن بالله ونكون رجال مافيا. إنَّ الذي ينتمي للمافيا لا يعيش حياة مسيحيّة لأنّه يجدِّف من خلال حياته على اسم الله-المحبّة. نحن بحاجة اليوم لرجال محبّة ولا لرجال شرف، لرجال خدمة ولا لرجال استعباد، نحن بحاجة لنسير معًا ولا لنركض وراء السلطة.

 

 

 ينتهي إنجيل اليوم بدعوة يسوع: "مَن أَرادَ أَن يَخدُمَني، فَليَتبَعني". فليتبعني أي لينطلق في المسيرة. لا يمكننا إتباع يسوع بواسطة الأفكار وإنّما يجب أن نكون فاعلين، وبهذا الصدّد كان الأب بينو يكرّر على الدوام "إن فعل كلٌّ منّا شيئًا ما فسنتمكّن من فعل الكثير!". كم من الأشخاص بيننا يعيشون كلماته هذه؟ لنسأل اليوم أنفسنا أمامه: "ماذا يمكنني أن أفعل؟ ماذا يمكنني أن أفعل من أجل الآخرين وأجل الكنيسة؟". لا تنتظر الكنيسة لكي تفعل لك شيئًا بل ابدأ بنفسك. ولا تنتظر المجتمع بل ابدأ بنفسك! لا تفكّر بنفسك ولا تهرب من مسؤولياتك بل اختر الحبّ!

 

 

 

 هكذا فعل الأب بينو، الفقير بين فقراء أرضه. لقد كان الكرسي في مكتبه مكسورًا، ولكنَّ الكرسي لم يكن محور حياته لأنّه لم يكن يجلس ليرتاح بل كان يعيش في مسيرة ليُحبّ. هذه هي الذُهنيّة الرابحة. هذا هو انتصار الإيمان الذي يولد من بذل الذات اليومي. هذا هو انتصار الإيمان الذي يحمل ابتسامة الله إلى دروب العالم. هذا هو انتصار الإيمان الذي يولد من عار الاستشهاد إذ "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه". إن كلمات يسوع هذه المكتوبة على قبر الأب بوليزي تذكّرنا جميعًا بأن بذل الحياة كان سرُّ انتصاره، سرُّ حياة جميلة. ونحن نختار اليوم أيضًا حياة جميلة.

 

 

 

 

إذاعة الفاتيكان.