"نعم" مريم «متفرقات


"نعم" مريم


لقد غيّرت «نَعَم» مريم وجه العالم. ففي اللّحظة التي قالت فيها هذه الصبيّة من الناصرة في الجليل: «هاءَنذا»، أصبح الله جزءًا من تاريخ الإنسان، لا كخالقه الكليّ القدرة والبعيد عنه، ولا حتّى كهذا الله الذي يسيرُ مع شعبهِ عبرَ تاريخه الطويل، ولكن الله الذي يبحث عن الاتّحاد بمحبوبهِ، كمثلِ شابٍّ يسعى للزواج من بكرٍ؛ وفي مريم تزوّج البشريّة.


التجسُّد،« مَنطِق الحُب».


مَن سيتوصّل إلى فَهم أو على الأقل إلى تفسير سرّ الله الذي صارَ إنسانًا؟ إنّ ذلك يشبه القصص الخُرافيّة حيث يتزوّج الملِك فلاحة فقيرة، بعد أن فتَنهُ جمالها. ومع ذلك فإنّ سرّ «التجسُّد» ( كما نُسمّيهِ) ليس إلا ثمرة لقصّة حُبٍّ طويلة. فكما أنّ الإنسان لا يستطيع أن يجِد راحتهُ إلاّ في الله، ألا يمكننا القول أنّ الله لا يستطيع أن يجِد راحتهُ إلاّ في اتّحادهِ مع الإنسان، محبوبهِ؟


عندما تحوّل الإنسان بعيدًا عن الله، خالقهُ، في معصية آدم، احترمَ الله حريّتهُ لكنّه لم يستسلم أبدًا لهذا الانقطاع في العهد. إنّ التاريخ البشريّ بأكملهِ ما هو إلاّ تعبير عن محبّة الله هذه، وهو - من شدّة محبّتهِ للإنسان، خليقتهِ - يسعى لاستعادة الاتّحاد مع محبوبهِ.


من ابراهيم إلى مريم .


قصّة الحُبّ هذه ابتدأت مع ابراهيم، «خليل الله» و«أبو المؤمنين». وعلى مرّ العصور كان الله يقترب. بعدَ ابراهيم، إسحق ويعقوب، توجّه الله إلى موسى قائلًا لهُ: «إنّي قد رأيت، رأيتُ مذلّة شعبي، وسمعتُ صُراخَهُ بسبب مُسخّريه؛ نعم، علمتُ بآلامِه فنزلتُ لأنقذهٌ...» (خر 3: 7) لأكونَ «الله – مع – شعبه».


وبالتتابع كان داوود ثمّ سليمان، ومن بعدهما الأنبياء. وكان الله قد قال لداوود: بدلًا من أن تبني لي بيتًا (الهيكل) لسُكنايَ، سأجعلُ منكً بيتًا لي (2صم 7: 1-16) سأُقيم عندكَ وأكون «الله - مع - شعبهِ»، وسأمسحُ كلّ دمعةٍ من عيونهم (رؤ 21: 3-4).


لكنّ ذروة التاريخ البشريّ بأكملهِ كانت في طلب الله من مريم الناصرة. ففي اللّحظة التي قالت فيها «نَعَم» بَلغَت قصّة حُبّ ومصالحة الله للبشر إلى ذروتها وأمكنهُ أن يُصبح إنسانًا (يتجسّد).

تجسُّد الله في يومنا هذا.


إذا تذكّرنا في هذا الزمن بلحظة النّعمة هذه وشكرنا إلهنا المُحِبّ على رغبته التي لا تُصدّق في الإندماج بمحبوبه، الإنسان، فليكُن ذلك لا على أنّه ذكرى رائعة لحدَث تمَّ في التاريخ  نشعر إلى الأبد بالامتنان لله ولمريم من أجله، إنّما لكي نجرؤ اليوم - حيث يتحوّل العالم بعيدًا عن هذا الإله المُحِبّ ويشوّه وجههُ بالتعصُّب الأعمى الذي يدمّر خليقتهُ - أن نُعيد إلى الله الفرصة لمواصلة وتجديد نعمة حضورهِ في العالم، تجسّدهِ؟


كما كان الله بحاجة لمريم، فهو يحتاج إلى كلمة «نعَم» من قِبلِنا لمواصلة تجسّدهِ واستكمال عمله الخلاصيّ. هل نجرؤ على قراءة إنجيل البشارة، على أنّه حوار ليس بين الملاك جبرائيل ومريم العذراء، لكن كحوار بين الله وبيني، الرّجل/ والمرأة ؟


هل من الممكن أن أتصوّر أنّ الله يختارني اليوم ويقول لي بأنّني «ممتلئ نعمة ً»، وأنّه ينبغي لي أن لا أخاف، وأنّهُ بحاجةٍ لي لكي يتجسّد، ليكون حاضرًا في عالم اليوم؟ هل من الممكن أن يقول لي: إن لم تُعطِني يديكَ، كيف سأبني عالمًا جديدًا؟ إن لم تُعطِني عينيكَ ولسانكَ، كيف سيتمكّن هذا العالم المُلحد أو اللامبالي من أن يفهم أنّ الله ينظر إليه ويتحدّث معهُ؟ والأهمّ من ذلك، إن لم تُعطِني قلبكَ، فأين سيتمكّن العالم من اللقاء بمحبّة الله والتي بدونها ستغرق البشريّة في اللامعنى واليأس؟


الروح القدُس يُظلّلكِ.


أعلم بأنكَ ستشعر باضطرابٍ عميق أمام هذا الواقع وأنكَ ستطرح عليّ السؤال نفسه الذي طرحته مريم على الملاك: «كيف يكون هذا؟»، فأنا ضعيف كليًّا، خاطئ كليًّا، ومحدود كليًّا.

اسمع جوابي لمريم واجعل منه جوابكَ: دَع الروح القدُس يُظلّلكَ... فما من شيء مستحيل على الله.


لا تُطفئ الرّوح؛ استقبلهُ؛ كُن فقيرًا بما فيه الكفاية لتكون جاهزًا لاستقبال الرّوح القدُس. قاوم الخطيئة ضدّ الرّوح، فهي الوحيدة التي لا تُغتفَر، لكن يبدو للأسف أنّها الأكثر انتشارًا اليوم، مع ما يُسمّى بالدّولة الإسلاميّة والاستبداد الذي تمارسه باسم الله والصراع من أجل السّلطة الذي يُحيل الكثير من الشعوب والبلدان إلى العبوديّة كما كان سابقـًا في مصر وبابل.


بعدئذٍ، وأمام اعترافك بالعجز، يتابع الله ليقول بأنّ ما من شيء مستحيل معهُ. وكما جعل حياة زكريّا وأليصابات مُثمرة، ألن يكون الله قادرًا على الاستمرار في قصّة حُبّهِ في كلّ واحدٍ منّا؟ إنّه ينتظر منّي أن أقول له: «ها أنا، خادمكَ/ خادمتكَ، فليكن لي بحسب قولكَ».


خاتمة:

عندئذٍ، لن يكون الحدَث السّامي للتجسّد ذكرى رائعة من الماضي، إنّما واقع لا يزال مستمرًّا حتى اليوم، لشعب الله السّائر في الظلمة (أش 9: 11) الذي سيرى نورًا عظيمًا ويكون قادرًا على القول (مع القدّيس بولس في رسالته إلى أهل روما - القراءة الثانية): «المجد لله بيسوع المسيح أبدَ الدهور» والسّلام على الأرض لبنيّ البشر. بفضل «نَعَم» مريم و«نَعَم» الكثير من المؤمنين في كلّ أنحاء العالم، وجميع الرّجال والنساء ذويّ الإرادة الحسَنة، الله موجود وسيكون دومًا مع شعبه، عمّانوئيل، إلى الأبد.



الأب هانس بوتمان اليسوعيّ.