وجوهَ رحمة الله «متفرقات

 

 

 

وجوهَ رحمة الله

 

 

 

 

“مسّت طرف ردائه، فتوقّف للحال نزف دمها” (لو18: 47)

 

1. في هذا الأحد الثالث من زمن الصَّوم، تتأمّل الكنيسةُ في آية شفاء امرأة تعاني من نزيف دم منذ اثنتَي عشرة سنة، وقد أنفقت كلّ مالها على الأطبّاء من دون جدوى. فعلّمها إيمانها أنّها إذا استطاعت أن تلمس ولو طرف رداء يسوع تشفى. وهذا ما حصل في الواقع: “فلمّا لمست طرف ردائه، توقّف للحال نزيف دمها” (لو18: 47).

 

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيّا الإلهيّة، ملتمسين فيها من الله أن يشفي كلّ مريض ينزف في صحّته، وأن يشفي كلّ واحد وواحدة منّا من أي نزيف يعاني منه.

 

أكان نزيفـًا روحيـًّا وأخلاقيـًّا من جرّاء الخطايا المتكرِّرة والتي لا يتوب عنها؛

 

أم كان نزيفـًا معنويًّا من جرّاء حزن على فقدان شخص عزيز، أو عدم احترام وانتهاك كرامة؛

 

أم كان نزيفـًا مادّيًا من جرّاء الفقر والحرمان؛ أم كان نزيفـًا وطنيًّا من جرّاء تعطيل المؤسَّسات الدّستوريّة، والتراجع الاقتصاديّ، والفساد في الإدارات العامّة، وهجرة خيرة قوانا الحيّة.

 

3. فيما نرحّب بكم جميعًا، نحيي سيادة المطران يوسف سويف رئيس أساقفة أبرشيَّـتنا في قبرص والأب مارسيلو غالياردو الرَّئيس الإقليميّ لجمعيّة الكلمة المتجسِّد الآتي من الأرجنتين مع الوفد المُرافق، ونرحّب بمعالي وزير العمل سجعان قزي. ونحيِّي بكثير من الأسى والألم عائلة الشاب المرحوم سهيل الحلبي، ابن الإحدى والعشرين سنة من العمر، الذي ودّعناه معهم منذ حوالي أسبوعين. إنّنا نجدّد التعازي لوالدَيه وشقيقه وسائر أنسبائه. ونذكره بصلاتنا في هذه الذبيحة الإلهيّة، راجين له الرّاحة الأبديّة في السّماء، ولأسرته العزيزة العزاء الإلهيّ.

 

4. وكم آلمنا وجميع اللبنانيِّين مقتل الشاب المرحوم مرسيللينو ظاماطا ابن السَّادسة والعشرين من العمر، وقد طعنه بسكين في قلبه في ساحة ساسين، الأشرفية، مجرمان، واحد فلسطيني وواحد لبنانيّ. هذه الحادثة المؤلمة والمدانة، التي حصلت منذ خمسة أيّام، أعادت إلى أذهان اللبنانيّين الجريمة الوحشيّة الأخرى، جريمة قتل المرحوم جورج الرّيف في بيروت وفي وضح النّهار وعلى مرأى من سكان الحيّ. والقضاء يسير طريقه بشكلٍ روتيني، وكأنّ هذه الجريمة وسابقتها تحتاجان إلى براهين.

 

فبات المواطنون يشعرون بأنّ الدولة لا تحميهم، والمجرمون يعتبرون أنّ السّاحة في إمرتهم ومقتل المواطنين مباح لهم ساعة يشاؤون وكيفما يشاؤون، طالما لا رادع لأحد، بل يحظى بتغطية سياسيّة ما. ومعلوم أنّ “العدلَ أساسُ المُلك”. ولئن كانت عدالة الأرض متعثّرة، فعدالةُ الله قائمة إلى الأبد، وما زال صوتُ الله يأمر: “لا تقتل!”، ويقول لكلّ قاتل ما قاله لقايين: “أين أخوك؟ إنّ دماءَه تصرخ إليَّ” (تك4: 9 و11). وفي كلّ حال يجب على الدولة أن تحمي المواطنين من القتلة والمجرمين الذين يسرحون ويمرحون. ومن أجل هذه الغاية توليها القوانين حقّ إنزال العقوبة القصوى (راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2267).

 

 

5. عندما “لمست المرأة النازفة طرف رداء يسوع شُفيتْ” (لو8: 47).

 

انسلّت المرأة بين الجمع الغفير قاصدة يسوع بإيمان كبير، وفي قلبها شوق لأن تلمس فقط طرف ردائه لتشفى من نزيف دمها. وهكذا حصل. فكان إيمانها مصدر شفائها، من بعد أن أنفقت كلّ مالها على الأطبّاء، مدّة اثنتَي عشرة سنة، من دون أيّة فائدة. هذا ما أراد الربّ يسوع إظهاره للجمع عندما أصرّ سائلًا: “مَن لمسني؟” (لو8: 45)، وأتت المرأة مرتعدة واعترفت بفعلتها أمام الحاضرين. أمّا يسوع فقال لها: “يا ابنتي، إيمانك، خلّصك، إذهبي بسلام” (لو8: 48).

 

6. بقوّة إيمان المرأة النازفة شفاها يسوع من دائها، ليبيّن لنا في هذه الآية أنّه هو الذي يشفينا من كلّ أنواع النزف التي تصيبنا، إذا التمسنا بإيمان الشفاء منها. وكما أنّ نزيف الدم يؤدّي إلى الموت، كذلك أي نزيف آخر يؤدّي إلى ميتات متنوّعة.

 

فالنزيف الرّوحي والأخلاقي يؤدّي إلى موت إنسانيّتنا المخلوقة على صورة الله، وإلى موت العلاقة السليمة مع الله والناس، وموت القيم الروحيّة والأخلاقيّة. هذا النزيف يؤدّي إلى الموت الأبديّ المعروف بالهلاك.

 

والنزيف المعنويّ، من جرّاء الحزن وانتهاك الكرامة، يؤدّي إلى الموت النفسانيّ والانكفاء على الذات، والكفر بكلّ شيء، فإلى موت طعم الحياة وقيمتها ومعناها.

 

والنزيف الاقتصاديّ يؤدّي إلى حالة الفقر والحرمان، وإلى موت سعادة الحياة الزوجيّة والعائليّة، وموت الطاقات البشريّة المحرومة من الوسائل التي تمكّنها من تحقيق ذاتها. وعلى المستوى العامّ، الفساد في الوزارات والإدارات العامّة، وسلب المال العامّ، وتعطيل الحياة الاقتصاديّة يؤدّي إلى موت النموّ الاجتماعي، وفرص العمل، وإفقار المواطنين وإقحامهم على الهجرة والكفر بوطنهم.

 

والنزيف الوطنيّ، المتأتِّي من فقدان الولاء للوطن، ومن إعطاء الأولوية للمصالح الخاصّة والفئوية والمذهبيّة على حساب الخير العامّ، والمتأتّي من دوام مخالفة الدستور والقوانين والواجبات، وفي رأسها عدم انتخاب رئيس للجمهوريّة، يؤدّي إلى انحلال المؤسَّسات الدستوريّة، وانتشار الفوضى في التصرفات والمواقف التي تستبيح انتهاك سيادة الدولة وسيادة الدول الأخرى، ولاسيّما الصديقة منها.

 

كلّ هذه الأمور تؤدّي إلى هدم الدولة على المستوى الداخليّ والإقليميّ والدّولي. إنّنا نقدّر جهود الإرادات الطيبة التي تعمل على وقف النزيف الوطني، وعلى ترميم العلاقات مع الدول الصديقة في محيطنا العربي.

 

7. إيمان المرأة النازفة بيسوع شفاها. نحن بحاجة إلى هذا الإيمان لكي نتوجّه إلى الله ملتمسين الشِّفاء من كلّ أنواع نزيفنا الشَّخصيّ والإجتماعيّ والوطنيّ. لكن هذا الإلتماس يقتضي وعيًا لنوع النزيف، وإقرارًا به. نحن لا نلتقي المسيح على الطريق، لنلمس طرف ردائه، بل نلتقيه في كلمة الإنجيل وتعليم الكنيسة التي تمسّ عقولنا وضمائرنا وتنقـّـيها من الكذب والضلال؛ ونلتقيه في نعمة سرَّي التوبة والقربان التي تمسّ قلوبنا ونفوسنا وتقدّسها؛ ونلتقيه في وصيّة المحبّة التي إذا عشناها، أدخلتنا في صميم الاتّحاد بالله والوحدة مع جميع الناس.

 

هذا اللقاء بالمسيح يجعلنا بدورنا فاعلين ناشطين في إيقاف أيّ نزيف يتعرّض له الآخرون، ويتعرّض له المجتمع والدولة، بقوّة اتّكالنا على نعمة الله ومعونته.

 

8. إنّنا نحيّي جميع الأشخاص والمؤسَّسات وكلّ الملتزمين في الكنيسة والمجتمع المدني، أفرادًا وجماعات، في معالجة مختلف أنواع النزيف الشَّخصيّ والجماعيّ. ونشكر الله عليهم. هؤلاء يُسمَّون “وجوهَ رحمة الله” في عالمنا.

 

ويشكّل من أرضنا الطوباويّ أبونا يعقوب هذا الوجه بامتياز، الظاهر في مؤسَّساته بدءًا من مؤسّسة دير الصَّليب في جلّ الديب التي تضمّ ألف مريض نفساني وعقلي وعصبي، وصولًا إلى جميع المؤسّسات الإنسانيّة والاستشفائيّة والاجتماعيّة والتربويّة التي وضعها في عهدة راهباته، في جمعيّة راهبات الصَّليب.

 

ولا ننسى “وجوه الرَّحمة” الخفيّة العاملة في المستشفيات وفي مؤسَّسات الكنيسة الاجتماعيّة والإنسانيّة، وتلك التي تحتضن مريضًا أو عجوزًا أو معوّقـًا داخل جدران البيوت. إنّنا نشكر كلّ الذين يقاربونهم بمحبّتهم.

 

إنّ زمن الصّوم الكبير ويوبيل سنة الرَّحمة هما “الزمن المقبول” لكي نكون بدورنا، كلُّ واحدٍ في مكانه، رسلَ رحمة، نعكس وجه الله الرَّحوم، الذي له نرفع المجد والتسبيح، الآب والابن والرُّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

عظة البطريرك الراعي - أحد النازفة - موقع بكركي