يسوع المخلّص الفادي انتظار الشّعوب «متفرقات

 

 

 

يسوع المخلّص الفادي انتظار الشّعوب

 

 

 

في هذا الأحد الأخير قبل الميلاد، نذكر نسب يسوع إلى العائلة البشريّة (متى 1: 1 – 17)، وهو الإله الذّي لا بداية له. لقد بدأ معها وفيها تاريخًا جديدًا. إنّه آدم الثاني الّذي جدّد الخليقة بموته وقيامته، وحرّرها من عبوديّة الخطيئة والموت، بعدما كان آدم الأوّل قد أفسدها بخطيئته.

 

يسوع ابن الله الذي صار إنسانًا هو مفصل التاريخ ومحوره. فبات يقال: "قبل المسيح، وبعد المسيح". تُتلى في هذا الأحد سلسلة من الأسماء، وضعها متّى في إنجيله بشكل انحداري تبدأ مع ابراهيم وتنتهي مع يوسف خطّيب مريم. وتوجد سلسلة أخرى وضعها القدّيس لوقا بشكل تصاعدي من يوسف إلى آدم (لو 3: 33-38). في كلتا السلسلتَين أسماء أبرار وأسماء خطأة، للدّلالة أن المسيح جاء مخلّصًا وفاديًا للجميع.

 

 

 

1. ليست هذه اللائحة حصريّة. بل نسّقها القدّيس متّى بشكل متجانس في ثلاث حقبات تتألّف كلّ واحدة من 14 جيلاً. يحتوي هذا التقسيم رموزًا ومعاني لاهوتيّة.

 

إنّ عدد ١٤ هو مجموع سبعتين (٧+٧)، ومجموع السباعيات ستّة، أي ستّ مرات سبعة. عدد سبعة يرمز إلى الكمال. وبهذا يعترف متى أنّ العهد القديم يحتوي على كمالات. تكرار الكمالات، لستّ مرات، يدلّ على أنّ الله كان يجدّد العهد مع الشعب كلّما سقطوا في الخطيئة: "عهدًا جديدًا أقيم معكم" (إر ٣١: ٣١).

 

ولكن أيضًا، نرى أنّ العهد القديم لم يتمكّن من أن يثبت. بل كان العهد يسقط بسبب الخطيئة، ليتمّ تجديده من قبل الله. لذلك بقي العهد القديم على ستّ سباعيّات. العدد ستّة يرمز إلى النقص. إذًا العهد القديم ناقص. وهكذا يأتي يسوع ليكمّله. المسيح هو السباعيّة السابعة في هذه اللائحة لأنّه هو الكمال كلّه. وهو يختصر في نفسه كلّ المشروع الخلاصيّ. يأخذ يسوع مكان كلّ واحد منّا ويتمّ الخلاص من أجلنا. لذلك يمكنني أن أقول أنّ المسيح تجسّد من أجلي أنا ومن أجل خلاصي.

 

2. من ناحية أخرى نرى كيف المسيح تجسّد فعلاً في ملء الزمن. انتظرنا ستّة سباعيّات حتّى اكتملت. وعندها أتى المسيح، السباعيّة السابعة. هذا الأمر يعلّمنا الانتظار والصبر. فالخلاص بحاجة إلى وقت ليتمّ. ولكن في وقت الانتظار هذا، لا يتوقّف الله عن العمل. هو ليس غائبًا، بل يتمّم ما يلزم حتّى بلوغ "ملء الزمن" الضروريّ للخلاص. نجد في اللائحة كيف أنّ الله أرسل ملوكًا أبرارًا ليخفّفوا عن الشعب معاناته؛ ما يعني أنّ الله لم يغب عن شعبه في العهد القديم.

 

3. وبما أنّ يسوع هو السباعيّة السابعة، لا يمكننا إهمال أي قسم من السباعيّات السابقة، وإلاً سقط الرسم كلّه ولم يعد يسوع السباعيّة السابعة. لنصل إلى السابعة نحن بحاجة إلى كلّ واحدة من الستّة السابقة. هذا يعلّمنا انّه لا يمكن إهمال أي جزء من الكتاب المقدّس، بعهده القديم، وإلا لن نفهم عمق رسالة الإنجيل. كلّ صفحة في الكتاب المقدّس هي ضروريّة في بناء إيقونة الخلاص التي رسمها الربّ الإله منذ فجر التاريخ حتّى اكتماله في نهية الأزمنة.

 

4. يربط القدّيس متى نسب الرّب يسوع الإنسان بمحوري العهد القديم: "ميلاد يسوع المسيح ابن داود، ابن ابراهيم" (الآية 1). يسوع المسيح "ابن داود" ليس فقط بالمعنى البشريّ، بل بالمعنى المسيحانيّ. فداود هو أوّل من سمّي "مسيح الربّ"، أي المختار من الله والمكرّس بالمسحة، الزيت المقدّس، لبناء شعب الله وبناء المملكة الّتي ترمز إلى الكنيسة وكانت تدعى "مملكة إسرائيل" في تلك الحقبة. إلاّ أنّ مملكة إسرائيل تدمّرت في السبي، كما دمّر آدم جنّة عدن بالخطيئة. ومن حينه لم يتمكّن اليهود من إعادة إعمار المملكة. فوعدهم الله على لسان الأنبياء بمسيح آخر نهائيّ، يرسي أسس مملكة تدوم إلى الأبد. فيسوع "ابن داود" هو الملك الأبدي الّذي يحقّق الخلاص بموته وقيامته، ويؤسس مملكته الأبديّة، الّتي هي الكنيسة ويجعلها "أداة الخلاص الشّامل".

 

وهو "ابن ابراهيم"، أبي المؤمنين الذي كان له الوعد الإلهي بذرّية كَرِمال البحر، عندما دعاه ليترك بيته وعشيرته وأرضه، ويذهب إلى مكان يريه إيّاه الله. في شخص يسوع تحقّق الوعد إذ من موته وقيامته وُلدت الكنيسة الّتي تدوم إلى الأبد، وهي ذرّية المولودين من معموديّة الماء والرّوح، ذريّة مثل "رمال البحر"، لا تحصى عدًّا.

 

5. نتوقّف عند أسماء أساسية في تاريخ الخلاص.

 

أ- اسحق ابن إبراهيم هو رمز التسليم الكلّي لله، والثقة التي تفوق الموت. فقد ربطه ابوه فوق الحطب ليقدّمه ذبيحة لله، كما أمره. فلم يفتح الصبي فاه، وفيما استلّ إبراهيم السكّين وهَمّ بذبح ابنه، أوقفه الله، واستبدل الصبي بحَمَل وجده في العلّيقة على مقربة منه. اسحق هو رمز يسوع المسيح الذي جاد به الآب السماوي، وقدّمه ذبيحة فداء على الجنس البشري، والآب نجّاه بقيامته من بين الأموات. أما الحمل فظلّ ذبيحة الفصح طيلة العهد القديم.

 

اسحق يدعونا لئلا نخاف من التضحية في سبيل الله، فإن لها ثمارًا وفيرة نحن نجهلها. والله وحده يعرفها في سرّ تدبيره. فلا نسقط في تجربة الاستهلاكية بكل ابعادها.

 

ب- يعقوب بن اسحق هو الضعيف بالنسبة لأخيه عيسو القوي البنية، ومحبّ الصيد في البراري. هذا "الضعيف" منحه الله البركة، فأنجب اثنَي عشر ولدًا هم أسباط الشعب القديم إسرائيل الاثني عشر. اسحق هو رمز يسوع المسيح الذي اختار اثني عشر رسولًا، وجعلهم أعمدة الكنيسة المعروفة بشعب الله الجديد.

 

يعلّمنا يعقوب أهميّة الاتكال على الله في إنجاب البنين، لأنّ الله يحقق بواسطتهم تصميمه الخلاصي. ولا أحد يعرف الدور الذي رسمه الله لكل واحد وواحدة.

 

ج- داود الملك المسيحاني هو رمز المسيح الملك الأبدي، كما رأينا. باتّكاله على الله أسّس المملكة التي ستتحوّل مع المسيح إلى الكنيسة المنتشرة في أربعة أقطار العالم. بتواضعه وطواعيّته للروح القدس كتب المزامير المئة والخمسين وهي أجمل صلوات يخاطب بها المؤمنون الله، وهي أفضل وأغنى صلوات الكنيسة.

 

لكن داود سقط في الخطيئة، إذ ضاجع بتشابع امرأة اوريّا. هذا دليل على ضعف الإنسان وحاجته الدائمة إلى نعمة تسنده في ضعفه. وقد نبّهنا بولس الرسول بقوله: "أيّها الواقف، إنتبه ألا تقع" (1كور10: 12).

 

د- سليمان الملك، ابن داود، عُرف بحكمته. لكن مع ابنه رحبعام انقسمت المملكة بين مملكة الشمال ومملكة الجنوب. وظلّت المملكة منقسمة حتى مجيء المسيح، إذ كان اليهود لا يخالطون السامريّين، إلى أن تمّ اللقاء بين يسوع والمرأة السامرية، ثمّ مع السامريّين، وقد قضى معهم بضعة أيام.

هو الربّ يسوع يُسقط جدران العداوة والانقسام والنزاعات، ويعمل على إعادة الإلفة بين الناس عبر قلوب مُحبّة. عيد الميلاد دعوة لنا للمصالحة والتآخي وعيش جمال الأخوّة.

 

6. نلاحظ في السلسلة وجود أربع نساء عشْن في الخطيئة وأكملْن مسيرة الأجيال إلى أن وُلدت مريم، ابنة الناصرة، أقدس النساء، البريئة من كلّ دنس خطيئة أصليّة وشخصيّة.

 

أ- تامار الأرملة ولدت فارص وزارح من يهوذا، من دون زواج بل بالحيلة متخفّية بزيّ البغاء. نذكّر بأنّ يهوذا هو بكر أولاد يعقوب الاثني عشر. فعلت تامار ذلك لأنّها لم تنجب أولادًا قبل وفاة زوجها.

 

ب- راحاب هي امرأة الهوى في أريحا التي ساعدت يشوع قبيل دخوله المدينة بأن أنقذت جواسيسه من أيدي الملك وفتحت لهم باب الهرب. ويعتبر التقليد أنّ سلمون الذي وَلد منها بوعز هو أحد الجنديين الجاسوسين اللّذين أنقذتهما راحاب. هذا المُلك الذي بني على الحرب والجاسوسيّة، لم يؤمّن الخير للمملكة فجاء مُلك المسيح المبنيّ على الحبّ والسلام. ونحن مدعوّون أن لا ندع أنفسنا ننجرف في تيار الاحتيالات للمكاسب الشخصيّة، بل أن نجد في المسيح، رئيس السلام، مثلاً لنا في حياتنا اليوميّة.

 

ج- راعوت المرأة الموآبيّة الوثنيّة أصرّت على البقاء مع حماتها العجوز بعد ترمّلها، حتّى تخدمها وتعتني بها عن طريق التقاط السنابل المتساقطة من الحصّادين؛ وكان هذا نوعًا مذلاًّ من الاستعطاء. ولذلك قرّرت نعمى حماتها أن تؤمّن لها الزوج، بدل ولدها الذي مات. فأرشدت راعوت كيف تتسلّل ليلاً على البيدر في الحقل لتنام قرب بوعز، بعد أن عاقر الخمر. فولد منها عوبيد. يعلّمنا سفر راعوت كيف أنّ البشر يجهدون للمحافظة على حياتهم. وكيف يخطف الموت الأحبّاء، زارعًا خلفه البؤس. وها يسوع آت اليوم ليكون السند لكلّ متعب موجوع، والأخ لكلّ وحيد متروك، وليفتح باب الحياة الأبديّة لكلّ من خسر وجوده على هذه الأرض.

 

يعلّمنا بوعز الشهامة بما يتحلّى به من تفهّم لما قامت به راعوت في الحقل. ويسوع هو الفاحص الحقيقيّ للقلوب والكلى وهو من يعرف أعماق قلبنا ويفهم ضعفنا ويساعدنا على إيجاد السبيل لتخطّيه والخروج منه.

 

د- بتشابع، امرأة اوريا، هي التي ارتكب معها داود الملك خطيئته وتاب، وكتب مزمور: "إرحمني يا الله كعظيم رحمتك... إليك وحدك خطئت، والشّر قدّامك صنعت". هذا يعلّمنا أنّنا جميعًا معرّضون على الدوام للخطيئة ولا يمكننا بالتالي أن نطمئنّ فنتوقّف عن الجهاد الروحيّ. نحن مدعوّون للتمثّل بربّنا يسوع الذي جرّبه الشيطان في البريّة من دون أن يقدر على استدراجه إلى حبائله.

 

ونرى أيضًا كيف تفسد الخطيئة بيت داود نفسه، إذ يسقط ابنه سليمان في أفظع منها. فهذا الأخير، رغم الحكمة التي منحه الله إيّاها، ترك نفسه للزواج من نساء عديدات وغريبات. ممّا سيسبب انقسام أبنائه بعد موته، سنة ٩٣٣ ق. م. فانقسمت المملكة إلى اثنتين بين ابنيه.

 

 

*  *  *

ثانيًا، الإرشاد الرسولي "فرح الحب"

 

1. نختم اليوم نقل آخر موضوع من مضمون الفصل الثالث، وهو العائلة والكنيسة (الفقرات 86-88). تُسمَّى الكنيسةُ العائلة "كنيسة منزلية" (نور الأمم، 11). فيها ينعكس، بالنعمة الإلهية وحياة الشركة بين الزوجين وأفراد العائلة، سرُّ الثالوث الأقدس. في العائلة يُنقل الإيمان من جيل إلى جيل، ويتعلّم الأولاد الصلاة وروح الخدمة وبهجة العمل والمحبة الأخوية والسخاء في الصفح والاتّكال على عناية الله بثقة الأبناء.

 

2. الكنيسة هي عائلة العائلات، وتغتني منها بصفتها عائلات منزلية. بفضل سرّ الزواج تصبح العائلات خيرًا للكنيسة. وهكذا الكنيسة خير للعائلة والعائلة خير للكنيسة. هذه هي التبادلية بينهما. لذلك تجب المحافظة على العائلة وتعزيز روحانيّتها ورسالتها لتظلّ على مستوى هذا التبادل.

 

3. إنّ دعوة الاتّحاد الزوجي هي لتعزيز الحبّ بشكل دائم ومعمّق بحيث يتربّى الأولاد عليه في قدسيّته وطهارته. هذا الحبّ المعاش في العائلة هو قوّة لرسالة الكنيسة. يختبر الزوجان، من خلال اتّحادهما في المحبة، سعادة الأبوّة والأمومة، ويتشاركان في المشاريع والرغبات والأتعاب والهموم. كما يتعلّمان فرح الاهتمام الواحد بالآخر، والصفح المتبادل، ويتساندان في الصعوبات التي تعترض حياتهما وحياة العائلة. ويختبران تخفيفها بولادة حياة جديدة. وهكذا دعوة العائلة فريدة ولا غنى عنها.

 

 

 

*  *  *

  

 صلاة

   

 

 أيّها الربّ يسوع، لقد انتسبْتَ إلى العائلة البشرية بولادتك العجيبة من مريم العذراء في بيت يوسف البتول، وجعلتَنا ننتسب إلى "العائلة الإلهيّة" بولادتنا أبناءً وبنات لله من الماء والروح، بالمعمودية والميرون. فالشّكر لك على هذه المحبّة التي أرسلكَ لها الآب السماوي، وأفضتَها في قلوب البشر وقلوبنا بالروح القدس. ساعدْنا بالنعمة لنعيش قدسيّة هذا الانتماء. وكما سلكت إلينا عبر الأجيال، أعطنا بنعمة روحك القدوس أن نسير إليك عبر دروب حياتنا اليوميّة. إحمِ عائلاتنا المسيحيّة وقدّسها بنعمة سرّ الزواج لتكون "كنائس منزليّة" شاهدة للحبّ النابع من قلب الله، ومربّية عليه. فيرتفع من كلّ بيت نشيدُ المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

التنشئة المسيحية للبطريرك الراعي - موقع بكركي