عظة المطران بولس مطر في قداس رأس السنة «متفرقات

 

 

 

 

 

عظة المطران بولس مطر في قداس رأس السنة

 

 

إحتفل رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر، بقدّاس رأس السنة الجديدة على نيّة السّلام في لبنان والشّرق والعالم، في كنيسة سيّدة الورديّة في رأس بيروت، يحيط به كاهن الرَّعيّة النائب الأسقفيّ للشّؤون الرَّاعويَّة المونسنيور أنطوان عسّاف، الأباء ريمون القسيس، غي سركيس وعِمَّانوئيل قزّي. وشارك فيه وزير الثقافة غطـَّاس الخوري، رئيس المجلس العامّ المارونيّ الوزير السَّابق الشيخ وديع الخازن، أعضاء الهيئة التنفيذيّة للمجلس، السَّفيرة جورجين ملاط، مستشار رئيس منظمّة فرسان مالطا فرانسوا أبي صعب، ممثـِّلون عن هيئات راعويَّة وإجتماعيَّة ومصلّون.

وبعد الإنجيل المقدّس ألقى المطران مطر عظة جاء فيها: "منذ إحدى وخمسين سنة، أعلنت الكنيسة يوم الأوّل من كانون الثاني يومًا عالميًا للسَّلام. وهل من أمنية أجمل من أمنية السَّلام يتبادلها الناس في مناسبة مطلع العامّ الجديد؟ لا بل هي الأمنية الأغلى عند الشّعوب، لأنَّ السَّلام وحده يعطي فرصة للحياة بأن تحفظ وتستمر، والسَّلام وحده يفسح في المجال ليبني الإنسان نفسه ويزدهر ويفرح.


لكن هذه الأمنية التي تردّدها جميع الشفاه والتي ترغبها القلوب والعقول معًا، ما زالت بعيدة عن أرض الواقع، تحاصرها الصّراعات من كلِّ جانب، وكأنّ حلولها يدخل في باب المستحيلات. ولقد جرَّب الناس منذ القدم إحلال السَّلام في علاقاتهم بعضهم مع بعض، وذلك عن طريق الوسائل البشريّة المعروفة، فلم ينالوا سوى نتائج هزيلة وسريعة التلاشي أمام الفتن والحروب التي بقيت لها القوّة الأقوى في تاريخهم.

 

ومن بين هذه الوسائل البشريّة عرف العالم فرض السَّلام بالقوَّة من قبل المسيطرين، وإجبار الضعفاء على الإذعان لما تعوَّد الناس أن يسمّوه "سلام العبيد". إن مثل هذا السَّلام لا يحسب سلامًا بل هو استعباد للآخر وحرمانه حتى من ذاته بعد أن يكون قد حرم من حقوقه. ولقد علّمنا التاريخ أنَّ أيَّة قوَّة ماديّة قاهرة اليوم ستصبح مقهورة غدًا. والغطرسة ليست قيمة بحدِّ ذاتها وهي لا تؤدّي إلى السَّلام، لا بل هي تقتل الفرص لحلوله بين البشر.

 

أمّا السَّلام الآخر الذي حاول النّاس أن يسعوا وراءه فهو سلام توازن القوى بين فريقين أو أكثر. فإذا كانت لفريق قوّة موازية لفريق آخر، لا أحد منهما يتجرَّأ على الحرب ضدّه بل يقبلان السّلام معًا، ولكن إلى زمن محدود. إذ يكفي بعد ذلك أن يقوى فريق على فريق حتى تقع الحرب بينهما ويزول السّلام، فنعود من جديد إلى سلام القوّة وسلام العبيد.

نحن نأسف كلّ الأسف أن يكون سلام البشر لا يتعدّى هذه الصّور التي أعطيناها عنه. ولذلك يبقى السَّلام ضعيفـًا في الأرض ومعرضًا للفح كلِّ ريح غازية أو عدوانيّة أو طامعة بخيرات الآخر، دون الاكتراث بحقوقه ولا حتى بوجوده. وكم قرأنا عن نظريّة المدى الحيوي الذي يحفظه كلّ قوي لذاته أو لجماعته على حساب الآخرين ولو في حاجاتهم الأساسيّة.


لكن الإيمان أوحى إلينا بأنّ الله قد تدخّل في تاريخ البشر وأنّه وعدهم بسلام يأتي من عنده، على أن يكون في الوقت عينه ثمرة قبول الناس أنّهم إخوة وأنّهم خلقوا جميعًا على صورة الله ومثاله ليؤلفوا عائلة بشريّة واحدة لا يوجد فيها قوي على ضعيف ولا من يعتبر نفسه باسم دينه أو باسم قوميته، أو باسم أي انتماء آخر فوق غيره، وكأنّ هذا الأمر حقٌّ له أبديّ.

 

فهلا أدركنا معنى تجسّد الابن الإلهيّ الذي صار إنسانًا مثلنا ليضمّنا إليه في إنسانيّة واحدة متصالحة وملتزمة لوصايا ربّها؟ بهذه الحال ينزل السَّلام من السَّماء على الأرض ويستقرّ فيها بقوّة الله ونعمته. إنّ هذا السَّلام جاهز في السَّماء على الدّوام. ولكن يبقى أن تجهِّز الأرض نفسها لقبوله. فعندما نتحوّل إلى أخوة حقيقيّين ينزل إلينا سلام الله أبينا وسلام ربّنا يسوع المسيح وسلام الرُّوح القدس الذي يغيّر وجه الأرض. فلتكن لنا في هذا اليوم المبارك صلاة خاشعة من أجل هذه الأخوّة بين الناس ومن أجل السّلام ليحلّ في قلوبهم ويفتحوها على المحبّة. ولنسأل الله أن يُنير جميع العقول ليقبلوا من الأفكار ما في ربِّنا يسوع المسيح، فتحيا بها نفوسهم ويعمّ فيها السّلام.

ولقد شاء قداسة البابا فرنسيس لثلاث سنوات خلت أن يدعو جميع الناس إلى التلاقي حول قناعات واحدة تسهم في قبولهم المشترك للسّلام وفي العمل من أجله بقوّة واندفاع كبيرين. فوجّه إلى الكنيسة والعالم رسالة حول الأرض والبيئة معتبرًا إيّاها بيتنا المشترك الذي علينا أن نتعاون كلّنا دعمًا لحسن مصيره.

 

فتقوى فينا تلك النزعة إلى التقارب وإلى الجهد المشترك في سبيل الخلاص، لأنّ خلاص الأرض إمّا أن يكون للجميع وإمّا لن يكون لأحد. في هذه الرّسالة يلفت البابا إلى ضرورة تخطّي مفهوم الحدود الطبيعية بين دولة ودولة وبين شعب وشعب. فاحتباس الحرارة ضمن الغطاء الجويّ للأرض لن يكون لقارة دون أخرى أو لدولة دون سائر الدول. فالخطر يداهم الجميع. والأرض التي أعطانا الله إيّاها التي وفـَّر لها كلّ الشروط البيئيّة المؤاتية لتحتضن الحياة والإنسان، هي البيت الذي يضمّنا جميعًا على الرّغم من خلافاتنا وتنوعاتنا ومشاحناتنا الكثيرة. ولن يكون لنا بيت في الدنيا سوى هذا البيت. فإن نحن أفسدنا الحياة فيه فلن يكون لنا سكنى في غيره ويكون الانتحار الجماعيّ للبشريّة بأسرها. إنّ قداسة البابا لا يهتمّ مباشرة بالأمور العلميّة ولا بالحلول المطروحة لمشاكل البيئة. لكنّه يريد من خلال رسالته هذه أن يجمع الناس على همّ واحد هو همّ العيش معًا وهمّ قبول الواحد منّا للآخر، لعلّنا بذلك نتّجه مع الإنسانيّة إلى بناء ملكوت واحد هو ملكوت الأخوّة الإنسانيّة، وما نسمّيه في إيماننا المسيحيّ ملكوت الله.

في هذا اليوم بالذات، أي في مطلع السنة الجديدة الآتية عليكم بخير، يوجّه البابا فرنسيس رسالة جديدة إلى العالم يدعو فيها جميع النّاس إلى مواجهة مشكلة خطيرة من مشاكل الكون، مع الرّجاء بأن يتمّ السّعي إلى حلّها بروح المحبّة والسّلام. إنّها مشكلة ناجمة عن صراعات البشر المستمرّة في ما بينهم وعن التفاوت الاجتماعيّ في الخيرات التي خلقها الله ليستفيد منها الجميع دون استثناء.

 

إنّها مشكلة المهجّرين في العالم، الذين باتوا اليوم بعدد مئة وخمسين مليون مهجر في العالم، ومشكلة اللاجئين من بينهم وقد صاروا يعدون حوالى اثنين وعشرين مليون لاجئ في كلّ أنحاء الأرض. فهل نستطيع في ضوء هذه الأرقام أن نصف هذا العالم بأنّه عالم سلام؟ وهل نستطيع القول أنّ السّلام هو الذي يخيّم على الشعوب؟ فيقول قداسته أن هذه المعضلة البشريّة يجب أن تجد لها حلاً ناجمًا عن روح السّلام وعن احترام الكرامات البشريّة والتضامن بين الناس وانفتاح الشعوب بعضها على بعض. وإلا فإن المشاكل ستجد لها تعقيدات خطيرة وسوف تولد لا سمح الله أخطارًا إضافية فوق الأخطار الحالية المتفاقمة. 

يوافق قداسته على أنّه من الطبيعيّ أن تكون لكلّ دولة طاقتها على استقبال الوافدين إليها. لكنّه يعلن أيضًا بأن هذه الطاقة يجب أن تستعمل كلّها لاستقبال اللاجئين فهؤلاء ليسوا عالة على الشعوب الضعيفة بل هم في غالب الأحيان أناس مندفعون إلى العمل في سبيل مستقبل أفضل، ما يعطي الشعوب المستقبلة قوّة مضافة على قوّتها الأساسيّة. يكفي من أجل ذلك أن ننظر إلى اللّبنانيِّين الذين هاجروا إلى أقاصي الأرض وأسهموا في كلّ مكان في نهضة البلدان التي استقبلتهم. فهم بهذا المعنى مثال يُحتذى أمام جميع الشّعوب.


هكذا يدعو قداسته إلى تخطّي الأنانيّات والعصبيّات الضّيقة وإلى الانفتاح على الرّوح الإنسانيّة التي تسهم وحدها في صنع السّلام وفي تدبير الشؤون المستعصية في قلب المجتمعات. وفي قناعة البابا أيضًا أن السّلام غير ممكن في الأرض من دون هذه النزعة الإنسانيّة عند الجميع، ومن دون أن يرفق الإنسان بأخيه، فيتحول من وقع يومًا ضحيّة اليأس والظلم والأحقاد إلى إنسان يتمتّع بحس المحبّة والتواصل والعرفان.

لقد قال الرّبّ يسوع في عظته على الجبل، "طوبى لفاعلي السّلام فإنّهم أبناء الله يدعون". وهو بذلك يُعلّمنا أنّ السَّلام يعمل من أجله ولا يهدى فقط من دون مشاركة بشريّة في صنعه أو في انتشاره. السّلام عمليّة دقيقة تتمّ كلّ يوم وعلى يد كلّ إنسان. فلنفتح قلوبنا لهذا السّلام الذي نكتشفه اكتشافًا ونبنيه حجرًا حجرًا في كلّ جماعات الأرض.

 

وقد حدّثنا الرّب يسوع أيضًا عن "أهل السّلام" و"أبناء السّلام". فلنكن نحن أيضًا من أهل هذا السّلام ومن المنضوين تحت لوائه دون تردّد ولا تراجع. ولنطلب بدالة الأبناء أن يقصر الله أيّام الحروب في منطقتنا والعالم، وأن يقترب حلول السّلام بقوّته القادرة على كلِّ شيء. وليحفظ الله قلوبكم وعقولكم بالمسيح يسوع ملك السّلام، له المجد والشكر إلى الأبد. آمين". 

 

 

المركز الكاثوليكي للإعلام.