ماذا أحيا اليوم؟ «متفرقات

 

ماذا أحيا اليوم؟

 

 

ماذا أحيا اليوم؟ هل من أملٍ يحرّكني؟ هل من رجاءٍ يسكنني ويلوّن حياتي بالمعنى والفرح؟ هل لديّ انتظار لشيءٍ ما أو لتحقيق مشروعٍ جميلٍ يراودني؟ هل أترقّب مجيء أحدٍ أو عودته بعد طول غياب؟

 

للإجابة على التساؤلات هذه، لربّما من المفيد أوّلاً أن نتذكّر أنّه من أصعب الخبرات التي نعيش وأكثرها إيلامًا خبرة فقدان المعنى لحياتنا ولكلّ ما نعمل؛ خبرة فقدان الأمل والرّجاء والدّخول في حالة من اليأس الظاهر أو المبطّن الذي يقودنا شيئًا فشيئًا إلى نوعٍ من العقم والموت الباطنيّ حتى ولو بدا علينا في الظاهر أنّنا أحياء كثيرو الحركة والنشاط! إنّها حالة مَن يعيش بلا انتظارٍ لأي شيءٍ مرتقب وبالأخص أيضًا لأي شخصٍ يجيء ويحضر الله الحي معه!

 

وعلى صعيد الإيمان، كم هي مؤلمة الخبرة حينما نشعر أنّ الله صار غائبًا، أو أنّ تأخّره في المجيء إلينا أفقدنا الرّجاء به وشهيّة البحث عنه! وحتى أعمالنا وإنجازاتنا، ولو كانت تحقـِّق النجاح ظاهريًا، ألا تصير تحمل معها في العمق موتًا محتّمًا بدل المحبّة المسيحيّة الحاملة الحياة، لأنّنا بِتنا ونحن نعملها منفصلين عن الله وبالتالي عن بحر محبّته الرَّحيمة التي يمكنها وحدها تغيير العالم في صميم قلبه؟ عندها كم يصبح كلّ شيءٍ تافهًا، كم نشعر بالضياع والحزن والتشتت، ويا لتعاستنا الكبرى!

 

ولكن هذه العلامات نفسها ألا تدعونا بالأحرى لتغييرٍ جدّي في حياتنا فنتدارك أسباب ما نعيش ونعالجه بحزم شجاعٍ خلّاق؟! فهل غاب الله يا ترى فعلاً ونهائيًا؟! ألسنا نحن بالأحرى مَن نغيّبه عنّا بشكلٍ أو بآخر أغلب الأحيان؟! وماذا يا ترى لو كان الله يأتي لزيارتنا في كلّ وقتٍ ولا نريد التعرّف إليه، لأنّه يأتينا بشكلٍ لا ننتظره، ولسنا في حالة استعدادٍ لمجيئه؟!

 

في الواقع، إن كان الله هو الإله المحبّ الرّحوم فعلاً فهو لا محالة آتٍ، وإلّا لا يكون الإله الحيّ الحقّ! "مهما تأخّر جايي"! كلماتٌ رائعة لفيروز تعبّر عن "إيمان ساطع" بأنّ الله لا ولن يتأخّر في مجيئه إلينا، فقط لو نحن فتحنا شبابيكنا وسمحنا لشعاعٍ من شمس محبّته السّاطعة أن ينسلّ إلى غرفتنا الباطنيّة وينير "بحر ليلنا" مهما اشتدّت عتمته!

 

فمحبّة الله الرَّحيمة هذه تعرف ضعفنا وواقعنا الصّعب، ولذا فهي أقرب منّا إلينا، ولا تني تحنو علينا داعيةً إيَّانا "في كلّ لحظة" ليس فقط لعدم الاستسلام لليأس وفقدان المعنى، بل أيضًا لعقد العزم بحزمٍ، بقوّة نعمته القديرة، على صنع التغيير الفارق عبر الخروج من حالة التفاهة والسطحيّة التي نعيش، وتحويلها إلى حالةٍ متأجّجة باستمرار من الترقّب والانتظار الفاعلين في قلب غياب الله الظاهر أو تأخّره في المجيء إلينا، خصوصًا مع كثرة ما نعانيه من أزمات في واقع تخبّطنا المستمرّ.

 

حينما سأل بطرس يسوع الذي كان سيترك رسله بعد وقتٍ قريب ليذهب إلى النهاية في طريق الحبّ حتى الموت، إن كان يوجّه كلامه له ولرفاقه حول ضرورة السّهر الباطنيّ في انتظاره وترقّب مجيئه، أجابه يسوع بسؤالٍ آخر يحمل في عمقه دعوةً لبطرس ليكون حقـًا لا "مدبّرًا أمينًا وحكيمًا" على ذاته وبرامجه وأمور بيته الخاصّ وحسب، بل ذاك الذي يصنع التغيير في العالم عبر وعيه لدعوة سيِّده تلك، التي يوجهّها له ولنا بحبّه المنتظر بصبر على أبواب قلوبنا (لو12/ 41 -42).

 

وما هي هذه الدّعوة يا ترى إن لم تكن دعوةً للدّخول معه في شراكة حقيقيّة تجعل بطرس ورفاقه الرّسل طبعًا (لأنّه يمثّلهم ويتكلّم باسمهم) يعيشون رسالة يسوع الفريدة باتّحادٍ عميق معه شخصيًا، فيشاركونه بذله وهبة ذاته "بأمانةٍ وحكمة"، عاملين بتفانٍ مع حبّه العامل لأجلنا "في كلّ حين" لعيش شرف الخدمة في "توزيع حصص" المحبّة التي أودعهم إيّاها لأحبَّائه الآخرين.

 

بهذه الدّعوة يكشف لنا يسوع ما كان يسكنه ويحرّكه هو شخصيًا: الانتظار والترقّب بالنسبة له ليسا حالة يعيشها باستمرارٍ وحسب بل هما عملٌ متجسّد "في كلّ وقت" يعبّر عن محبّته التي لا حدّ لأمانتها للآب ولنا، وحكمته "الجنونيّة" المسكوبة بلا حسابٍ على الصّليب ليهب لحياتنا الملء والمعنى.

 

في الواقع، يسوع وحده هو "الوكيل الأمين الحكيم" الذي يُعطي حياته وكلمته طعامًا حقيقيًا يهب الحياة لكلّ من ينتظره ويترقّب مجيئه. يسوع وحده بحريّته المُطلقة هو الذي جعل من نفسه ذلك "العبد" الذي لا يجد المعنى لحياته والطعام لشخصه إلّا في التفاني حبًا حتى الموت طاعةً لأبيه وقد غدا أيضًا "سيّد" حياته وذاك الذي منه ينتظر ويترقّب أدنى إشارات الأمر "في كلّ حين"، وبهذا المعنى غدا يسوع "الكاهن الأوحد" أيضًا.

 

كم سيكون بطرس وسائر الذين أقامهم يسوع لخدمة "خدّامه" الأحبّاء، سعداء ومغبوطين حقـًا، إذا ما "عرفوا مشيئة سيّدهم" الأوحد، وأخذوا يخدمونه "بأمانةٍ وحكمة" باحثين بعونه عن حضوره في كلّ إنسان ومترقّبين مجيئه المستمرّ بالأخص "في إخوته الأصاغر"، وما أكثرهم في عصرنا الآن!

 

كم سيكون بطرس ورفاقه مغبوطين مطوّبين حقـًّا، إن تعلّموا – خصوصًا من أخطائهم ونكرانهم – كيف يكونون بكلّّيتهم للسيّد الذي دعاهم وأقامهم ليشاركوه في كسر خبز الكلمة الحلوة لأولئك الأصاغر ويجودوا عليهم بأسرار المحبّة المحيية التي أئتمنهم عليها بثقة لا حدّ لها! وبالعكس كم يستحقّ بطرس ورفاقه الضرب والخزي إن انفصلوا عن سيّدهم وراحوا "باسمه" يستغلّون مسؤوليّاتهم ومناصبهم – على غرار مَن لم يعرفوه بعد – ليعبثوا بالإخوة الأصاغر ويستخدموهم لمصالحهم الشخصيّة ونزواتهم المتقلّبة!

 

 

 

 

 

 

الأب غسان السّهوي اليسوعي.