الصلاة والحياة والعمل (1) «أضواء

  

 

 

اعتياديا يعاني الانسان من صعوبة الربط بين الصلاة والحياة، واذن من صعوبة التوفيق بين الحياة كما تجري والحياة الروحية. لكن، ما دام الهدف الأسمى للمسيحي والمعنى الأعظم لحياته هو الاتحاد بالله، فلا يوجد مبدئيا ايّ تعارض بين الصلاة والحياة وبين الحياة الروحية والحياة في تفاصيلها المختلفة. فالانسان وحدة متكاملة في كل ابعاده المختلفة، وباستطاعته اذن ان يتحد بالله من خلال كل نشاط يقوم به وفي كل علاقة بشرية يبنيها ويتابعها وفي كل لحظة من لحظات حياته. على هذا، سنحاول ان ندرس ونعمّق الصلة الوثيقة بين الصلاة والحياة والعمل .

1- الصلاة المسيحية هي اتحاد بالثالوث الأقدس:

الصلاة في جوهرها هي لقاء بين الله والانسان. انها مقابلة واتصال بينهما، ففيها يبحث الانسان عن الله ليجده ويتحد به. وبالمقابل، في الصلاة يبحث الله عن الانسان ليجده ويتحد به. وعموما، يتوصل المسيحي الى التقرب من الله والالتقاء به اذا سعى، من خلال صلاته، على معرفة مشيئة الله وعلى العمل بموجبها في حياته اليومية. وبذلك يصلي ويعمل على مثال المسيح الرب الذي قال: " طعامي ان اعمل بمشيئته ( الأب السماوي) الذي ارسلني وأن اتمم عمله" ( يوحنا 4/ 34 ) . وهذا ما نطلبه في الصلاة الربية التي علمّنا اياها المسيح: " ابانا الذي في السماوات، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض".

ولكن على ارض الواقع، عندما نصلي نردد غالبا صلوات قد حفظناها ولا نعيشها، او نطلب من الله ما نريده ، دون ان نحاول اكتشاف ما يريده منا الأب السماوي. فلنتصور شخصا امام قضية بالغة الأهمية له ولمستقبله، كاختيار مهنة او وظيفة او شريك/شريكة حياة. فاعتياديا، قد يطلب ما يريده من الله ولا يتساءل ما قد يريده الله. فانه ينسى او يتجاهل بأن الصلاة الحقيقية تتطلب منه ان يضع امام الله الامكانيات العديدة المفتوحة له، وأن يبحث بكل صدق واخلاص عن ارادة الله له.

فاذا انفتح لله لاكتشاف مشيئته، فبامكانه ان يخاطب الله هكذا: " هل تريد، يا رب، ان اقبل هذه الوظيفة او تلك؟ ارني، يا رب مشيئتك. اكشف لي قصدك. وحّد ارادتي بارادتك. طهّر قلبي لاختيار ما تجده لخيري. انّر عقلي ليميّز مشيئتك." وبذلك يستطيع هذا الشخص ان يفكّر بعقله وقلبه وأرادته في مزايا هذه الوظيفة وفي عيوبها، حتى تتجلى له شيئا فشيئا مشيئة الأب السماوي. وقد تظهر له مشيئة الله واضحة في نهاية صلاته، او قد يستدعي الأمر الى العودة يوما بعد يوم الى ذات الصلاة والى التفكير والتشاور مع الآخرين، وذلك للاطمئنان الى مشيئة الله له. 

واذا قلنا ان الصلاة اتحاد بالله الآب ، وخاصة بمشيئته، كذلك ايضا انها اتحاد بيسوع المسيح، الابن الالهى، الذي قال: " استقروا فيّ كما استقر فيكم" ( يوحنا 4/15 ) ويتم الاستقرار في المسيح من خلال الصلاة ومن خلال كل سر من اسرار الكنيسة، ففيها يتم الاشتراك فعلا في مفاعيل آلام المسيح وصلبه وموته وقيامته.

فاذا كانت صلاتنا وممارساتنا الدينية سعيا جادا عن ارادة الله، فأننا نمتثل بالمسيح، الذي استجاب لمشيئة الأب السماوي وحقٌق ذلك بالمحبة وببذل ذاته من اجل اخوته البشر. وفي الواقع المعاش، قد يجد احدنا نفسه يميل تلقائيا الى القيام بما يريده حسب دوافعه ومصالحه الخاصة؛ فمن الضروري في صلاته وفي ممارساته الدينية ان يطلب مساعدة المسيح ليتمثل به، فيبغي حقا اتمام ما يريده الآب السماوي.

والصلاة التي توحّدنا بأبينا السماوي اتحادا بالمسيح، تتم عمليا بالانفتاح للروح القدس، الذي يكشف لنا تدريجيا مشيئة الأب السماوي ، ويساعدنا على التمثل بالمسيح. فالروح القدس، كما يقول القديس بولس، " يأتي لنجدة ضعفنا، لأننا لا نحسن الصلاة كما يجب، ويشفع لنا بأنّاة لا توصف" (رومة 8/ 26 ).

على هذا، فالصلاة الحقيقية هي في الأساس اتحاد بالثالوث الأقدس، بالله الآب والابن والروح القدس. ولهذا كثيرا ما نجد صلوات الليتورجية، كما في القداس الإلهى، ترفع الى الأب السماوي وتنتهي بالكلمات: بربنا يسوع المسيح، الحي والمالك معك باتحاد الروح القدس، آمين.

2- يسوع علّمنا كيف نصلّي:

يوم من الأيام " كان يسوع يصّلي في بعض الأماكن، فلما فرغ قال له تلاميذه: " يا رب علّمنا ان نصلي، كما علّم يوحنا تلاميذه. فقال لهم " اذا صلّيتم ، فقولوا: " ايها الآب ليقدّس اسمك ، ليأت ملكوتك، ارزقنا خبزنا كفاف يومنا. وأعفنا من خطايانا. فأننا نعفي ايضا كل من لنا عليه، ولا تعرضنا للتجربة" ( لوقا 1/11-4 ) .

كانت حياة يسوع كلّها صلاة، اي إحاد بالآب السماوي، ولكنه خصّص للصلاة اوقاتاً متوافرة، فأصبح لنا في ذلك قدوة ومثالا. فكان يصلي خاصة في الأوقات الحاسمة من رسالته. قبل ان بدأ بالتبشير بملكوت الله، " مضى به الروح الى البرية" (مرقس 12/1)، وذلك للصلاة والصيام. وقبل ان اختار تلاميذه "ذهب الى الجبل ليصلي" ( لوقا 6/ 12 )؛ وقبل ان اختبر ايمانهم في العاصفة، " صعد الى الجبل ليصلي في العزلة" ( متى 23/14 )؛ وقبل ان طلب اليهم الاعتراف والشهادة بالوهيته، " كان يصلي في عزلة" (لوقا 18/9 ).وكان يصلي قبل القيام بمعجزاته، وذلك ليمجّد الله ويحمده.

فقبل معجزة الخبز والسمك " شكر ورفع عينه نحو السماء وبارك" ( متى 15/ 36 )؛ وقبل اقامة لعازر من الموت، رفع عينيه وصاح: " شكرا يا ابت" ( يوحنا 41/11 ). وصلى قبل آلامه، ففي عشائه الأخير "شكر" ( لوقا 22/ 17- 19 ).

وفي وداعه لتلاميذه صلى صلاته الكهنوتية ( يوحنا 17).وفي بستان الزيتون " اكّب لوجهه يصلي" ( متى 26/ 36- 46 ). وعلى الصليب صلى في آخر لحظة من حياته الأرضية: " يا ابت اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون" ( لوقا 23 /34) و " يا ابت، في يديك استودع روحي" ( لوقا 23/ 46 ) و " الوي الوي، لما شبقتاني؟ اي الهي الهي، لماذا تركتني؟"           ( مرقس 15/ 34 ). هكذا، كانت صلاة يسوع مرتبطة ارتباطا وثيقا بتفاصيل حياته ورسالته وعلاقته بالأب السماوي.

3- الصلاة الحقيقية هي تواصل بين واقع الحياة وملكوت الله:

مما سبق، في الكلام عن صلاة يسوع نجد ان الصلاة غير منقطعة عن واقع الحياة. فكل صلاة تنبع وتنطلق من واقع الحياة. ويسوع علّمنا ان نداوم على الصلاة بالحاح وبدون ملل ( لوقا 1/18 )، وأن نطلب منه ما نحتاجه: " اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم." ( متى 7/ 7 ) .

وقد ضرب لنا مثلين على ذلك، مثل القاضي الظالم والأرملة ( لوقا 18/ 2-8 )، ومثل الصديق الملّح ليلا ( لو 11/ 5-13 ). وعندما نطلب الى الله ما نحن بحاجة اليه، علينا ان نطلب ذلك بالمثل لإخوتنا ، والاّ اصبحت صلاتنا نوع من الأنانية وغير منفتحة للآخرين . وفي الواقع، قد يحدث ان دوافعنا، التي تدفعنا الى الصلاة، تتعلق اكثر بمشاكلنا وهمومنا الفردية منها باهتمامات الآخرين. 

من ناحية اخرى، صلاة الطلب الحقيقية تستدعي ان نسمو في طلباتنا، فيسوع، بعدما ضرب مثل الصديق الملّح، ختم المثل قائلا: " فما اولى اباكم السماوي بأن يمنح الروح القدس للذين يسألونه؟" ( لوقا 11/ 13 ). من هذا المنطلق ، علّمنا يسوع ان نخضع صلاتنا لملكوت الله: : " ابوكم السماوي يعلم انكم تحتاجون الى هذا كله. فأطلبوا اولا ملكوته وبرّه، تزادوا هذا كلّه. " ( متى 6/ 32 - 33 ).

على هذا، فالصلاة الحقيقية تجعلنا الاّ نحصر صلاتنا في صلاة الطلب، كما يحدث كثيرا في نمط صلواتنا، بل ان ننفتح دائما الى الله بصلاة الشكر والحمد والتسبحة . فكان يسوع، قبل كل طلب، يبتهل الى ابيه السماوي ويمجّده. ونجد ذلك بشكل خاص في الصلاة الربية التي علّمنا اياّها، ففيها علّمنا ان نرفع قلوبنا الى ابينا السماوي، وذلك قبل ان نطلب شيئا منه، فنسبحه قائلين: " ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، ليكن ما تشاء، في الأرض كما في السماء." ونجد ايضا القديس بولس، في كل رسالة من رسائله، يمزج بصلاة الطلب صلاة الحمد والشكر.

انطلاقا ما سبق، من الضروري جدا ان نوجّه صلاتنا نحو الصلاة المجانية، وان نتخطى صلاة المصلحة السائدة في مجتمعنا المسيحي. وهذا يعني، الاّ تكون صلاتنا مجرد صلاة طلب وانغلاقا اذن على انفسنا ، بل عليها ان تكون منفتحة على الله وعلى ملكوته وعلى الكنيسة والعالم. وعندما يشكو احدنا من ان صلاته لا تستجاب، فانه لا يفقه بأن الصلاة ليست بصلاة الطلب فحسب، وانما هي قبل كل شيء صلاة تسليم الذات الى الله والاستجابة لما يريده وكما يريده الله، ولا لما يريده الانسان وكما يريده. فالصلاة الحقيقية هي اذن تزاوج بين واقع حياتنا في متطلباتها وبين ملكوت الله في مشروع حبّه لنا جميعا.

الأب يوسف بِربي اليسوعي