الله يؤمن بك... «أضواء

مع إعلان الكنيسة الجامعة هذه السنة "سنة الإيمان"، يطلّ علينا قداسة البابا برسالته الراعويّة الأولى "نور الإيمان" (LUMEN FIDEI).

رسالة بدأها البابا بندكتس السادس عشر وأنهاها البابا فرنسيس.

لكي نتحدّث عن سنة الإيمان أعود إلى هذه الآية: "مَن هو، فأُومِنَ به؟" (يو 9: 36). وتأتي هذه الآية - المُستقاة من لقاء يسوع بمولودٍ أعمى في إنجيل يوحنا- جوابًا على سؤال يسوع للمولود الأعمى الذي شفاه حينذاك "أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنسان؟" (يو 9: 35). وها نحن أمام حوار بين شخصين أحدهما مبادِر والآخر متسائل.

فيُظهر الإيمان عند يوحنا علاقةً شخصيّة مع الله الذي يجعل الإنسان يولَد ولادةً جديدةً لحياةٍ جديدةٍ هي الأخرى (يو 9). فما هو هذا الإيمان؟ وقبل أن أحاول الإجابة على هذا التساؤل في الأسطر القادمة، أودّ أن أستهلّ حديثي بأن أدعوك يا صديقي القارئ بالتوقّف قليلًا لسؤال ذاتك: بمن أؤمن وبماذا أؤمن؟

من أنا كي أؤمن؟

للتحدّث عن الإيمان لابدّ من التحدّث عن الإنسان. معظمنا يشارك في القداس مرّةً واحدة في الأسبوع على الأقل، ويشترك مع المؤمنين في إعلان الإيمان بتلاوة قانون الإيمان، والذي يبدأه بـ أومن أو نؤمن.

ومنذ البداية نأخذ أوّل تعريف لنا عن الإنسان: أنّه كائن شخصيّ: أيّ إنّه كائن يستطيع أن يتحدّث عن نفسه ويتكلّم باسمه الشخصيّ، وما من أحد يتكلّم باسمه. فأنا من يتكلّم، وأنا من يتّخذ قراراتي وأنا من يخطط لمستقبلي ويقرأ ماضيّ ويُحلّل واقعي. وبالتالي فأنا مسؤول عن ذاتي وعن عالمي. فالإنسان كائن شخصيّ، وهذا ما يميّزه عن الكائنات الحيّة الأخرى.

وقد اعتدنا أن نردّد الآية التي تقول" الإنسان خُلق على صورة الله ومثاله" (تك 1: 26). هذه الآية تؤكّد أنّ الإنسان مدعو ليكون سيدًا وحرًّا في آنٍ واحد. عندما يقول الله أنموا واكثروا (تك1: 28)، فهو يقول: لقد أعطيتك أيها الإنسان المواد الأوليّة والعقل وعليك بالتتمّة. وتكمُن دعوتنا في إتمام عمليّة الخلق، وهذا يُعطي معنىً لحياتنا. فالإنسان هو شخص يسعى كي يبني العالم بمسؤوليّة، وبالتالي هو قادر على أن يقول أؤمن.

الإيمان: ما هو؟

يأتي الإيمان دائمًا نتيجة لقاء. فالإيمان بشخص ما يعني لقاءه، الثقة به. والإيمان يختلف عن المعتقد تمامًا كونه لا يتعلّق بموضوع ما، أو بشيء ما، أو بفكرة أو عقيدة معيّنة، بل بشخص محدّد يقيم علاقة معنا. بهذا المعنى يكون الإيمان من مكوّنات الشخصيّة. أيّ إنّني لا أصبح ذاتي بالفعل إلاّ من خلال فعل إيمان، من خلال انفتاحي على ذاتي وعلى الآخر، من خلال المغامرة التي تدفعني إلى أن "أُسلم" ذاتي له. وبهذا المعنى يأتي اللقاء بالله وبالآخر وبالإيمان بهما أيضًا.

لم يكن الإيمان في العهد القديم ممحورًا على وجود الله (الآلهة) أو عدم وجوده. فقد كان هذا الأمر من البديهيّات آنذاك. الله أو الآلهة في تلك الحقبات كانت تُقدّم على أنّها مجرّد قوّة تتسلّط على البشر. والتغيير الذي أتى به ابراهيم هو بناء علاقة شخصيّة مع الله، علاقة تتجلّى بثقة إبراهيم بكلمة الله المُبادر، بهذه الدعوة وهذا النداء الذي سمعه إبراهيم والذي سيجعل له ذريّة عظيمة بين شعوب الأرض.

وقد تطلّب منه هذا الأمر، أن يترك عمليًا كلّ شيء وأن يغامر في المجهول. ثم تطوّر إيمان ابراهيم مع عهده بالله الذي أظهر له مصداقيّته وضرورة الثقة به. والإيمان عند إبراهيم يعني الأمانة أيضًا، أمانة الله، فالله دائمًا أمين في وعوده مع الإنسان. لذلك نردّد دائمًا في صلواتنا الطقسيّة، الله إله إبراهيم واسحق ويعقوب، فكان له مع كلّ واحد منهم وعد لا يحنث به.

وفي العهد الجديد يتجلّى الإيمان في لقاء يسوع بتلاميذه ومساعدته إيّاهم على أن يعرفوه أكثر، وبالتالي أن يؤمنوا به وبرسالته، فيتبعوه حاملين صليبهم. فالإيمان هنا ينمو ويتضاعف. إنّه ليس وليد ليلة وضحاها، بل هو عمليّة ولادة مستمرّة في معرفة الربّ.

الإيمان هو الدخول في حوار مع الله: فالمسيحيّ المؤمن بالله هو شخص يُعبّر عن إيمانه إزاء مبادرات الله، كآب خالق كلّ شيء وكابن عاش بيننا ومات ثمّ قام، وكروح قدس أُعطي للكنيسة. ونحن عندما نُصلّي نلتقي بالله القائم من بين الأموات والحاضر معنا دائمًا، وعندما نكون فعّالين داخل الكنيسة نكون مدفوعين بقوة الروح القدس التي تقودنا وتقود الكنيسة دومًا نحو الحياة، وتخطّي الصعوبات التي تواجه ضعفها الإنساني.

الإيمان والصلاة

ليس هناك مجال لطَرق موضوع الصلاة وتعريفها، ولكنّ الصلاة باختصارٍ شديد هي حالة؛ إنّها الحياة. فالمطلوب ليس «تلاوة صلوات» بقدر ما هو أن نعيش في الصلاة باستمرار في حضور الله.

الصلاة هي الحبّ: فلِكَي نحقّق ذلك، علينا بناء علاقة مع الله. العلاقة مع الله لا تعني «الارتفاع» نحو الله البعيد، بل أن نعيش حميميّة معه، هو الحاضر في أعماقنا، ينتظرنا ويصغي إلينا. وإن بدا أنّه لا يظهر إلاَّ من خلال الصمت. إنّه الله الذي يحبّنا قبل أن نحبّه.

وبإمكان هذه العلاقة الشخصيّة أن تصل إلى نوع من الاتحاد. لا نسعى لجلب الله، الذي هو في البداية خارج عنَّا، بل نبحث عن مشاهدة الله الذي فينا، وفي كلّ شيء حولنا، لنتحدّث معه.

فترتبط الصلاة من هذا المُنطلق بالإيمان طبعًا. فليس هناك من إيمان حقيقيّ بدون صلاة، أي بدون علاقة بين الله وبيننا.

الصلاة تغني الإيمان والإيمان يغني الصلاة. فنحن نصلّي لأنّنا نؤمن بالله، ولكن، بعضنا قد يُصلّي لإله لا يؤمن به أو قليلًا ما يثق به ولكنّه من أجل الحصول على الإيمان يصلّي... يصلّي كي يجد الله.

أخيرًا، الإيمان والصلاة مترابطان شديد الارتباط ومتماسكان بالغ التماسك. فالإيمان ليس بشيء نمتلكه، الإيمان هو فتح متجدّد باستمرار، حيث الصلاة هي التعبير والوسيلة.

خاتمة

قبل أن نؤمن بالله علينا أن نوقن بأنّه آمن بنا أوّلًا: فهو الذي أحبّنا أوّلًا، ومن حبّه لنا تجسّد وصار إنسانًا، مؤمنًا بأنّ الإنسان بالرغم من ضعفه قادر على أن يصل إلى الحبّ ذات يوم. آمن بنا فأرسل لنا روحه المُعزّي يوم الخمسين لكي نعيش بلغة الحبّ، بلغته هو، لكي نبني سويًّا ملكوته على الأرض. آمن بنا فلم يُقيدنا بل تركنا أحرارًا في اختياراتنا. آمن بنا لأنّه التقانا قبل أن نولد، ونحن في رحم أمهاتنا. فهل نحن اليوم نؤمن به؟ وبأيّ إله نؤمن؟ وبأيّ طريقة نؤمن؟ هل نلتقي الله الذي نؤمن به؟ أم نحتفظ بصورة مشوّهة له فنؤمن بكائن يراقب تصرفاتنا وتحرّكاتنا؟!

أنا أؤمن بإله واحد قادر أن يُحبّني رغم كلّ شيء، يُحبّني لحظات ضعفي ولحظات قوّتي. أؤمن بإله خالق، لا يستأثر بشيء له وحده من الخليقة، بل يضعها أمامي ويجعلني حرًّا. أؤمن بإلهٍ حرٍّ يفرح من أجل حريّتي، ولا يبغى لي سوى الحياة. أؤمن بأنّي خُلقت للسعادة. أؤمن بأنّ كلّ موت ولادة. أؤمن بأنّ الله أبٌ أدعوه أبانا.

أخي وصديقي، أدعوك في ختام كلامي إلى أن تكتب قانون إيمانك الشخصيّ، من وحي لقائك بعمانوئيل القائم من بين الأموات.

بقلم ماريو بولس اليسوعيّ

موقع Jespro