المرحلة الثالثة: التواضع «أضواء

(شباب سائرون صوب يسوع برفقة تريز الصغيرة)

 

 

 

١ـ لنتأمل

١ـ ١ المسألة، إذًا، هي إقرارك بأنّك خاطئ لتقدّم نفسك بغفران خلاّق محرّر، غفران يسوع. وهذه المسألة سهلة الفهم، فشعور النفس هذا يتطلّبه التواضع. و التواضع اقتناع بعجزنا اقتناعًا حميمًا ويقين أنّنا لا نستطيع فعل شيء بدون الله، و لا الحصول على أيّ شيء صالح. والمتواضع  هو من يعرف معرفة حقيقية ما هو عليه، وهو من لا يخاف النظر الى ميوله السيّئة، ومحبّة ذاته، وأنانيّته، وخاصة عجزه التام عن معالجة نفسه بمفرده.

١ـ ٢ عمليًّا، جميع الناس يصلون الى هذا المستوى، فمن منهم لم يختبر الفشل وعدم الكفاءة لتجاوز بعض العقبات؟ إنّما يجب التسليم الى هذا المستوى، لأن هنا تقع الحدود. وكلّ إنسان هو اكثر أو أقل قناعة، وبطريقة مُبهمة، بأنه لا يساوي شيئًا؛ حتى إبليس.

أمّا ما يتعلّق بحبّ هذا الموقف، فهو مسألة مختلفة. فقليل جدًا عدد النفوس التي ترضى بمحدوديّتها من دون أن تضطرب. وأكثر بكثير هو عدد النفوس التي ترفس الأرض، وتحسّ بالغمّ، وبكآبة ناجمة عن الارهاق، حتى انها تبغض ذاتها لأنها تحسّ بالصّغارة: وبالضعف. حينئذ، إذًا، لا يقوم التواضع الحقيقيّ على أن يعرف المرء بؤسه فقط، ولكن على أن ينظر الى هذه الصغارة ويرضى عنها.

إنّما الصعوبة وما يميّز القدّيسين هو قبول المرء بأن يكون صغيرًا في عين الله، وبأن يقف أمامه ويداه فارغتان.

١ـ ٣ و تريز كانت تعتبر أن هذه الأنوار التي كشفت لها عدمها، وقبولَها المتواضع بصغارتها، هي كبرى نعم الرب عليها. فلمَ العجب إن نحن وقعنا أو إن نحن ارتكبنا مرارًا الخطأ عينه رغم جهودنا؟ فلنقبل ما يحلّ بنا بسلام قلبٍ، ولنرضَ بحقارتنا بدون تشنّج وبدون إفراطٍ في الكآبة. فأن نكرّر خطيئتنا، وأن نفقد العزم لعدم تقدّم  تقدّمنا في ميدان الفضيلة، يمكن أن يخفي كبرياء خبيثة. المسيح يهب مجانًا، ولكنه، مقابل ذلك، يريد التواضع والحقيقة في قلب من يغدق عليه النّعم. فطالما نحن مكتفون بما قمنا به، بما نتصوّر أننا قادرون على إتمامه بقوانا الذاتية لا يمكن أن يؤثّر الله فينا.

١ـ ٤ تأمّل ما ورد في الإنجيل: لقد وجب أن يصيد الرسل طوال اللّيل من دون أن تعلق سمكة، لكي يتمكّن المسيح، صباحًا، من مَلْء شباكهم بلحظة. فعندما ندرك مغزى هذا الواقع لا نعود نخشى أن نَمثُل فقراء في عين الله. بل العكس يصحّ، فنودّ أن نبقى فقراء لأن فقرنا يصبح الوسيلة لاستدراء قوّته. والواقع يثبت أن الولد يستحثّ النّجدة والاسراع في عونه بقدر ما يكون صغيرًا. وهكذا يستطيع القديس القول: إنّي أفخر بما يبدو من ضعفي (٢ قور ١١/٣٠).

١ـ ٥ من حقّنا، إذًا، أن نقول : يحبّنا الربّ بسبب نقاط ضعفنا. فهذه النقاط تحدث على قلبه قوّة جذب لا تُقهر. وبإمكاننا أن نعتمد خطيئتنا من جديد لنضع نفسنا مجدّدًا في خطّ القداسة معترفين ليسوع عقب سقوطنا في هذه الخطيئة: "أنظر يا يسوع ما لا أزال قادرًا عليه بدونك، وأنا متّكل على نفسي فقط. أسألك الصّفح عنّي. هلمّ لنجدتي. فحاجتي إليك حيويّة. أرحمني يا ربّ". (هذا الموقف يتجسّد في سرّ المصالحة).

١ـ ٦ لكن القبول بأن نكون خطأة لا يعني أن نعقد صلحًا مع الخطيئة. فالغموض هنا قد يكون مؤذيًا. وعليك تمييز الفرق بدقة بين الحالتين. عندما تقول تريز: يجب أن نبقى صغارًا، وأن نرضى فرحين بالبقاء من دون فضيلة، فهي لا تحثّ على التكاسل الرّوحيّ و لا على التّخلي عن المعركة الروحية. والله يعلم كم كافحت لتحبّ في حياتها. وإنّما وفي الواقع، هي تلحّ على ضرورة عدم الثقة بقدرتنا الذاتيّة، وعدم الاتكال على استحقاقاتنا الشخصيّة، لنتمكّن من الاتكال على الله وحده من دون سواه.

١ـ ٧ وبتعبير آخر، عندما تفعل الخير لا تدعْ يمناك تدري بما فعلت يسراك. عِشْ الأمر بتجرّد. هكذا تتصرّف تصرّف تريز فتقامر في مصرف الحبّ: بدل أن تقدّم للربّ الخير الذي فعلتَ ليَنقُدَكَ الفائدة فورًا، تنسى أعمالك الصالحة وأنت على يقين أنّها ستعود عليك بالفائدة آخر العمر (فائدة رأس المال، طبعًا، عنيتُ مئة ضعف). لا تدخّر لنفسك أيّ عمل صالح. وليكن كلّ واحد سببًا لفعل شكرٍ:"حمدًا لك، اللّهمّ، على كلّ خير أحدثْتَهُ في نفسي المسكينة، وعلى كلّ خير فعلتَه على يدها! فجدّد معجزاتك وأعِدْ صنعَ عجائبك! (سيراخ ٣٦/٥)

٢ـ لنستمع الى تريز

٢ـ ١ الشكر يقاوم الاكتفاء بالذات

"فالواهب الني أغدقها الله عليّ ـ من دون أن أسأله ـ تقودني إليه بدل ان تسيءَ إليّ أو أن تحملني الى الغرور، وأرى أنه الوحيد الذي لا يتغيّر، وهو وحده قادر على إتمام رغباتي الوسيعة..."

                               (مخطوط أ ٨١، الاعمال الكاملة ص ١٧١)

" أن نكون صغارًا، هذا يعني، ألاّ ننسب مطلقًا الى أنفسنا الفضائل التي نمارسها، ونظنّ أنّنا قادرون على فعل شيء ما؛ بل أن نعترف بأن الله وضع هذا الكنز في يد طفله الصغير حتى يستخدمه عندما تدعو الحاجة الى ذلك؛ لكن هذا الكنز هو دائمًا كنز الله. وأخيرًا، هذا يعني ألاّ تفتر الهمّة بسبب أخطائنا، لأن الأطفال يقعون غالبًا، لكنهم أصغر من أن يُؤذوا أنفسهم كثيرًا."

                       (الدفتر الأصفر ٦ آب؛ الأعمال الكاملة ص ١٠٥٤)

٢ـ ٢ نعمة تريز الكبرى

"أمي الحبيبة، لم تخافي من أن تقولي لي يومًا أن الله كان يُنير نفسي، حتى أنه منحني، أيضًا، خبرة السنين. يا أماه! أنا الآن أصغر من أن ينالني العجُب بالنفس، وأصغر من ان أصوغ جملاً منمّقة لأوهمك بأني على قدر كبير من التواضع. إني أفضّل أن أقرّ بكل بساطة بأن القدير صنع العظائم في نفس ابنة أمه الالهية، وأعظمُها أنه أراها صِغَرَها وعجزها."

                                              (مخطوط ج ص ٤ ي؛ الأعمال الكاملة ص ٢٠٣)

٢ـ ٣ قوّة تريز في ضعفها

" ولاحقًا، سيبدو لي، بلا ريب، الزمان الذي أنا فيه الآن محشوًا بالنقائص. غير أني الآن لا أستغرب أيّ شيء، و لا يصعب عليّ أن أرى ذاتي بمثابة الضعف عينه. بل، على العكس، إني أفتخر بهذا الضعف، وأتوقع كل يوم ان أكتشف نقائص جديدة في حياتي."

                                         (مخطوط ج ص ١٥ ي؛ الأعمال الكاملة ص ٢١٨)

٢ـ ٤ تريز لا تخجل من فقرها

"إن الشيء الوحيد الذي لن يكون مطلقًا موضع حسدٍ هو المقعد الأخير. فالشيء الوحيد الذي لن يكون باطلاً وكآبة الروح أبدًا، إنما هو المقعد الخير. (لوقا ١٤/١٠).  ومع ذلك، فليس للانسان سلطان على طريقه (إرميا ١٠/٢٣)؛ وأحيانًا نشتهي فجأة ما هو برّاق. لنقف عندئذٍ، متّضعين بين من لا كمال فيهم، ولنعتبر ذواتنا نفوسًا صغيرة يجب أن يساندها الله في كل لحظة؛ فحين يرانا مقتنعين أننا عدم، سيمد لنا يده، وإذا أردنا، بعد، أن نحاول عمل شيء عظيم ولو بحجة الاندفاع الى العمل، فيسوع الصالح يتركنا وحدنا. لكن ما إن زلّت قدمي، عضدَتني، يا ربّ، رحمتُك! ... (مزمور ٩٣/١٨). نعم، يكفي الانسان أن يتّضع، وأن يتحمّل نقائصه بوداعة. ها هي القداسة الحقيقية! لنمسك بيد بعضنا، يا أخيّتي الحبيبة، ولنهرع الى المقعد الأخير... فلن يأتي أحد لينازعنا عليه..."

                                           (رسالة ٢٤٣؛ الأعمال الكاملة ص ٩٢٥)

٢ـ ٥ تريز نحبّ صغرها

" يا أختي العزيزة، كيف يمكنك القول إنّ رغباتي هي علامة حبّي؟... آه! أشعر فعلاً بـأن ليست [هذه الرغبات] ما يُرضي الله في نفسي الصغيرة؛ فما يرضيه هو أن يراني أحبّ حقارتي وفقري، وما لي من رجاء أعمى برحمته... ذاك هو كنزي الوحيد.

أختي العزيزة، أرجوك، إفهمي صغيرتك؛ إفهمي انه حتى نحبّ يسوع، ونكون فريسة حبّه، فبقدر ما نكون في ضعف، بدون أشواق ولا فضائل، بقدر ما نَصلح لما يعمله هذا الحبّ الذي يُفني ويحوّل... إنّ مجرّد الرغبة في أن نكون ضحية تكفي، لكن لا بدّ من القبول بالبقاء فقيرةً وبدون قوّة، وتلك هي الصعوبة؛ لأن فقير الروح الحقيقي أين نجده؟ يجب البحث عنه بعيدًا جدًا، قال صاحب المزامير... لم يقل بأن نبحث عنه بين النفوس الكبيرة، بل "بعيدًا جدًا"، أي في الحقارة وفي العدم... آه! لِنبقَ إذًا بعيدين جدًا عن كل ما يسطع، ولنُحبّ ألاّ نشعرَ بشيء؛ عندئذٍ سنكون فقراء بالروح (متى ٥/٣) وسيأتي ليأخذنا؛ ومهما كان بعيدين فسيحوّلنا الى شعلات حبّ..."

                                           (رسالة ١٩٧ الأعمال الكاملة ص ٨٧٥ـ ٨٧٦)

٣ـ ٦ أقبل ضعفي بدون حزن

أمرّ أنا أيضًا بحالات ضعف، لكنّي أفرح بها (٢ قورنتس ١٢/٥). ولا أضع نفسي دائمًا فوق تفاهات الأرض؛ مثلاً، أنزعج من حماقة قلتها أو ارتكبتها. عندئذٍ أدخل الى ذاتي وأقول لنفسي: للأسف! لا ازال على ما كنت عليه في الماضي! لكنني أقول ذلك لنفسي بلطف كبير وبدون حزن. يا لها عذوبة أن نشعر بأننا صغار ضعفاء!"

                                     (الدفتر الأصفر ٥ تموز؛ الأعمال الكاملة ص ١٠٠٠٥)

٢ـ٧ صلاة تريز لنيل التواضع

"إني أعرف، يا إلهي، انّك تحطّ النفس المتكبّرة، وتمنح مجدًا أبديًا للنفس المتواضعة. فأريد إذًا أن أضع نفسي في المقعد الأخير، وأشاركك في إهاناتك حتى يكون لي نصيب معك في ملكوت السّموات.

لكنك، يا ربّي، تعرف ضعفي؛ ففي كل صباح أقرّر بأن أمارس التواضع، وفي المساء أعترف أنني ارتكبت، بعدُ، أخطاء كبرياء كثيرة؛ وعندما أرى ذلك أتعرّض لتجربة اليأس؛ ولكنّ وهن  العزيمة، حسب معرفتي، هو تكبّر أيضًا. فأريد إذًا، يا إلهي، أن أقيم عليك وحدك رجائي؛ بما أنك تستطيع كل شيء، فتنازل واخلق في نفسي الفضيلة التي ترغب فيها. ولكي أنال هذه النعمة من رحمتك اللامتناهية، سأردّد عليك غالبًا: "يا يسوع، أيّها الوديع والمتواضع القلب، إجعل قلبي مثل قلبك!".

                                (صلاة ٢٠؛ الأعمال الكاملة ص ٩٧١)