تأمّل 3: الشّعلة الحيّة «أضواء

حجرة القلب

في نهاية عام ١٩٠٠ كانت القديسة إليزابيت تمرّ بما يشبه أزمة نفسية. كان يتنازعها همّان: رغبتها في دخول دير الكرمل، وضرورة الانتظار تاريخ بلوغها سنّ الرشد المقررّ. فتوجّهت بهذه الطلبة الى الله:" بما أنه لا يسعني قطع صلتي بالعالم والعيش في عزلتك، آه! ربّي! هبني، على الأقل، عزلة القلب. ولأعِشْ في اتّحاد حميم وإيّاك، ولا يشغلني عنك شيء، ولتكن حياتي تأملاً دائمًا!". هذه الكلمات تبدو صدًى لقانون رهبنة العذراء مريم سيدة الكرمل. ففي الفصل السابع الذي يتناول "تأمل الدائم في الشريعة" يُقرأ: " ليقم كلّ فرد وحدَهُ، في حجرته أو في جوارها، متأملاً ليلاً نهارًا، في شريعة الربّ، وساهرًا في الصلاة، إلاّ إذا كان منشغلاً  بأمور أخرى مشروعة"

فكانت على غرار كاترينا السيانية، تحاول إليزابيت، في غياب حجرة الكرمل التي لا يزال يفصلها عنها زمن طويل، أن تبني في "قلبها" " حجرة داخلية" لكي يكون اتحادها بالله أكمل وأتمّ. واستباقًا لنذورها الرهبانية، دوّنت المقاصد التي ستلتزمها بإرادة لا تلين :" أعد يسوع بأن أتواضع، وأن أَكفر بذاتي، في كل مرة تسنح لي الفرصة، حبًّا بيسوع؛ وأسأل هذا العروس الحبيب أن يُعينني على ضعفي لكي أجعل من حياتي تأملاً متواصلاً وفعل حبّ. ولا يُشغِلَنّي عنه شيء؛ ولكي أحيا في العالم بدون أن أكون في العالم: فإمكاني أن أكون كرمليّة في داخلي، وأريد أن أكونها".

"آه، يا حبيبي الأعظم! فلْأَقضينَّ هذا الوقت المتبّقي لي أن أعيشه في العالم، بحالة قداسة؛ ولْأَقضينّهَ متّحدة بك وفي علاقة حميمة معك؛ لْأَقضينّهَ وأنا أفعل قليلاً من الخير. يا سيدي! ... حبيبي نظّم رغائبي، ولتكن مشيئتك مشيئتي على الدوام؛ أفلا يسعني أن أكون ملكك في العالم؟ آه، يا يسوعي، لقد وهبتك من زمن بعيد كلّ شيء، واليوم أجدد هذه التقدمة، فأنا ضحيّتك الصغيرة. آه، فلتَتَوارَ إليزابيت ولا يبقينَّ سوى يسوعها!"

"آه، يا حبيبي الأعظم! بينما كان الجلاّدون يخرقون رجليك وراحتيك، وبينما كنتَ تعاني ألف تعذيب على الصليب، كنت تبصر زلاّتي التي لا تُحصى وكذلك خياناتي لك... وكنت تعلم كان عليّ أن احبك، ذات يوم، وكنت تعلم أنني مستعدة لأهبك حياتي ألف مرة، ولأبادلك حبّك، ولأعزّيك، ولأكسب لك نفوسًا أيضًا".

 الارشاد الروحي

كانت إليزابيت تحتاج، بشكل واضح الى  الأحاديث المستفيضة من مرشدها الروحي التي تعود عليها بقدر كبير من النفع. وبدأت إليزابيت تشعر ، بحاجة ملّحة الى أن يفسّر لها أحدٌ ما يحدث في داخلها". ففي هذا الإطار يندرج لقاء حاسم: لقاء أوّل مع الأب Vallée  رئيس دير الدومنيكان في ديجون الذي كان يتمتّع بخبرة كبيرة في الإرشاد الروحي. فقد كان "قائد نفوس" ويطبّق عمليًّا النصائح التي كان يعطيها، هو نفسه حول دور الكاهن لدى من يوجّهه، قال: " على الكاهن ان يكون شديد الانتباه، وفي كلّ مرّة تمرّ نفسٌ بين يديه، وتحمل إليه نفسٌ سرّ الحياة الذي يتخبّط  ويتنامى في داخلها، على الكاهن أن يتمكّن من فهمه، من قراءته، وأنّ عليه أن يميّز في سرّها ما هو من الانسان وما هو من الله، وأن يتلمّس هكذا، بالاختبار، وبنوع من مراقبة دائمة، أي حدّ، هذه الأشياء العظيمة التي قرأها في قلب يسوع، وعلى المذابح، وعلى الجلجلة، أو في الإنجيل، إلى أي حدّ تعمل هذه الأشياء في هذه النفس، وتتحق فيها... أتدركون أن باستطاعته، عندما يخرج من هذه الخلوات الروحية، ومن هذا الاتحاد الوثيق بالله، ويمرّ بقربكم، أن يقول لكم كلمات لم تسمعوها قط في حياتكم، وأن يتنبأ لكم بما عليكم القيام به لتجدوا أباكم الذي في السماء، وأن يمزّق بشكل أو بآخر، كلّ ستار "يحجب عنكم الأفق؟..."

وجرى حديث طويل في دير الكرمل بين إليزابيت والأب Vallée . فوصفت له حالتها النفسية. فتبيّن فيها جوهر ما ينتابها. فقال لها ذات يوم:" أجل، بنيّتي، الثالوث، مجتمعًا، قائم هنا، حسب قول القديس بولس: "أما تعلمون أنّكم هيكل الله، وأنّ روح الله حالّ فيكم؟" (١ قور٣/ ١٦). فنفسُكِ هيكل الثالوث". هي ذي كلمات حاسمة تطبع مرحلة من مراحل تطوّر إليزابيت الروحيّ. وستحتفظ مدى العمر، بعاطفة عرفان جميل له عليها، لأنه أوحى لها، بحصر المعنى بحضور أقانيم الثالوث معًا في نفسها، والتي كانت بدون شك، تشعر به مسبقًا، ولو بنوع مبهم، بقدر ما أنه أكّد لها هذا الحضور وضمنه لها.

لنتأمل مع القديس يوحنا الصليب كيف أن النفس لا يجب أن تشرد وحدها بدون دليل أو بدون توجيه على الدروب الرّوحية، " من يريد أن يكون وحيدًا، بدون معونة معلّم ومرشد، سيكون مثل شجرة منفردة، في الريف، لا صاحب لها: فمهما كثُرت ثمارها، فسيقطفها المارّة، وهي لن تنضج أبدًا". " والنفس المنفردة، بدون معلّم، ولو فاضلة، تكون كالفحم المشتعل وليس من يتدفّأ عليه أو يغذّيه: فيميل الى البرودة بدل من أن يزيد اضطرامًا وحرارة". " ومن يسقط وهو وحده، فوحده يبقى ساقطًا على الأرض، ولا يهمّه أمرُ نفسه كثيرًا، لأنه يوكلها الى ذاته وحده."

 الشّعلة الحيّة

في رسالة بعثت بها إليزابيت الى صديقتها Germaine de Gemaux التي تشرف على ربيعها الخامس عشر، والتي تطمح الى أن تصبح راهبة، تكشف عن سرّ" المحراب الحميم" حيث يتمّ اللّقاء، حسب تعبيرها الخاص مع " هذا الحبّ اللامتناهي الذي يغمرنا ويريد أن يُشركنا، ونحن على الأرض، في كافّة نِعم السماء". وإذ تشير إليزابيت في هذه الرسالة، إلى "كامل الثالوث الذي يستريح في داخلنا"، والذي تتمنّى أن يصبح دير الراهبة المقبلة" تستسلم إليزابيت كمن أثارته الحماسة، إلى نوع من إعلان هويّتها الحقيقية، فهتفت: أنا "إليزابيت للثالوث الأقدس". وهذا يدلّ على إليزابيت المتوارية، المتلاشية، المشرّعة النفس على اجتياح الأقانيم الثلاثة..."

تريد إليزابيت، وهي مُشعّة بروح الكرمل ان تصلنا هذه الروح بورع وحميّة: أجل، يا صغيرتي Germaine ، لنحيَ بالحبّ [...]، مستسلمين دومًا إليه، مُضحّين بأنفسنا، دقيقة إثر دقيقة، ونحن نتمّم مشيئة الله بدون البحث عن الأشياء الخارقة. ومن ثمّ، فلنتصاغرْ، ولنترمِ ارتماء طفلٍ بين ذراعي أمّه فيحملنا مَن هو "كلّيتنا". نعم أخيّتي، نحن ضعفاء جدًا، وأكاد أقول: لسنا سوى بؤس. ولكنه يعلم ذلك تمامًا، ويحبّ أن يغفر لنا كلّ شيء، وأن ينهَضَ بنا، ومن ثمّ أن ينتشلنا إليه، الى طهره، الى قداسته اللامتناهية. وهكذا يطهّرنا بتماسّنا الدائم وإيّاه... بمداعبات إلهيّة." هذه الكلمات الأخيرة تُلمح الى يوحنا الصليب. وتتابع إليزابيت رسالتها وهي تتذكر تعابير أخرى وردت عند صاحب النشيد الروحي  وشعلة الحبّ الحيّة:" يريدنا على منتهى النقاء. وإنما سيكون هو، نقاءَنا: فيجب أن ندعَ انفسنا تتحول و"إيّاه" الى صورة واحدة. وذلك يكون، ببساطة، في أن نحبّ دومًا بهذا الحبّ الذي يتمّم الوحدة بين المتحابين"

إليزابيت لم تصبح قدّيسة عن طريق الصدفة، أو مرغمة على يد الظروف، أو رغمًا منها؛ فالدعوة التي لا تقاوم، والتي دعتها وهي طفلة، لا ينقطع لها دوّي في نفسها، دويّ يزداد وضوحًا، وحِدّةً وحَسْمًا، على غرار الجواب الذي أعطته منذ اللحظة الأولى. وقبولها منذ البدء، كان، بهذا القدر، جذريًا ونهائيًا.