عيد الثّالوث الأقدس «متفرقات

 

 

 

بعد أن تأمّلنا في عمل الله-الآب  الّذي خلق كلّ شيء حسنًا، والإنسان على صورته ومثاله، وقاد تاريخ الخلاص وكلّم الشّعب بلسان الأنبياء وبأنواع شتّى، ثمّ أرسل ابنه الوحيد الّذي تجسّد قائلاً لنا به كلّ شيء، وأعلن إنجيل الخلاص، وتألّم ومات لفدائنا وقام من الموت لتبريرنا؛ ومن بعده أرسل روحه القدّوس ليحقّق فينا ثمار الفداء والخلاص، ويقود الكنيسة والنّفوس على طريق الخلاص نحو الحقيقة كلّها، نعيّد اليوم لسرّ الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس. إنّ الكنيسة، برعاتها وأبنائها وبناتها ومؤسّساتها، تواصل مسيرتها الحياتيّة والرّسوليّة، تظلّلها محبّة الآب، وتقدّسها نعمة الابن، وتحييها شركة الرّوح القدس.

 

 

 

1. آخر ظهور للرّب يسوع للتلاميذ الأحد عشر كان على جبل في الجليل (متى 28: 16-20)، المعروفة بالمنطقة البعيدة عن أورشليم، وأغلبيّتها من غير اليهود، من وثنيين وكنعانيين؛ والقريبة من ساحل صور وصيدا بفينيقيا. هنا في جليل الأمم ضرب لهم يسوع موعدًا للدلالة أنّ رسالته شاملة تطال اليهود وغير اليهود.

 

ففي الجليل بدأت رسالته، ومن الجليل تبدأ رسالة الكنيسة المتمثّلة هنا بالأحد عشر. إنّه يسلّم تلاميذه الرّسالة عينها التي تلقّاها هو من الآب بالسلطان المطلق، وقد حاز عليه بقيامته المجيدة، في هذا الظّهور وهذا الإرسال، أطلعهم صراحة على سرّ الله الحقّ، الواحد والثّالوث. فعرّفهم أنّ الآب أرسله، وأنّه هو الابن المتجسّد، بقوّة الرّوح القدس، وهو الّذي يرسلهم إلى العالم كلّه. فتظهر ميزة الكنيسة "الجامعة والرّسوليّة".

 

 

2. من الجبل حيث واعدهم، صعد الرّب يسوع إلى السماء، وأرسلهم، وكان "يعينهم ويؤيّد كلماتهم بالآيات" (مر 16: 20). الجبل هو المكان الّذي يُشعرنا بالقرب من السّماء، بعيدًا عن ضجيج العالم وملاهيه. وهو دعوة دائمة للنظر "إلى فوق" إلى الأعالي الإلهيّة، وبالتّالي للصمت والتأمّل والصّلاة. نلاحظ في الإنجيل أنّ الرّب يسوع كان يقصد الجبل ليختلي ويصلّي.

 

 

لهذا السّبب بنى الرّهبان أديارهم على رؤوس القمم والجبال. وبعضهم بنوها في قعر الوادي لكونه هو أيضًا رأس جبل، إنّما بالمقلوب. سواء على الجبل أم في قعر الوادي، نجدهم في أحضان الطّبيعة الّتي تعكس جمال الله. في هذا الإطار نفهم رحلات الحجّ الدّينيّة إلى هذه الأديار. المهم المحافظة على روح الخلوة والصّلاة والمفهوم الرّوحي فيها، وتجنّب جعلها مجرّد رحلة سياحيّة استجماميّة.

 

 

3. بحركة عفويّة سجد الأحد عشر بالرّغم من شكّهم (الآية 17).

 

حركة السّجود هي علامة التّوبة. فالإنسان، عندما يقع في الخطيئة، يخرج من بيت الآب، كما الابن الضال، ويكون بالتالي وجهه معاكسًا لمكان البيت الوالديّ الذي يدير له ظهره. ولكن في مسيرته على درب الخطيئة، يكتشف أنّ دربها ليس لذيذًا كما كان يظنّ.

 

يكتشف عقم الخطيئة. وهذا هو أساس التوبة. فالتوبة ليست مجرّد إحساس بالذنب، وليست عقدة نفسية مخجلة. بل هي وعي لما هو مضرّ لي، ووعي أيضًا لما هو مفيد. لذلك التوبة الحقيقيّة هي إحساس مفرح جدًّا، وإن كان مصحوبًا بالألم، من جراء السقطة.

 

ولذلك، الساجد، ورأسه في الأرض، يرمز إلى العودة إلى البيت الوالديّ. فيقول التّائب في نفسه لن أكمل هكذا. "أقوم لأعود إلى بيت أبي، حيث يفضل الخبز عن الخدم، وأنا هنا أتضوّر جوعًا" (لو 15: 17). إذًا التوبة تفترض تغييرًا جذريًا في التصرّف وفي المسيرة وفي الاتجاه. ليست التوبة مجرّد عواطف ودموع وكلمات صلاة، على أهميّة كلّ ذلك. ولكنّها أكثر من ذلك بكثير.

 

وبما أنّ التوبة ليست بالأمر السهل، فالتائب، بسجوده، يطلب معونة الله، ويقول: "أخلقني يا ربّ من جديد. وحدي لا أستطيع الحياة. أنا بحاجة أن آخذ منك كلّ شيء، وبدونك أنا لا أملك شيئًا. لا يمكنني حتّى أن أتوب، إن لم تساعدني على تغيير حياتي وإن لم تمسك بيدي لتدلّني على الاتّجاه الصحيح وتسير بي في هذا الدرب".

 

إذًا، التوبة هي ولادة جديدة على يد الله، لا تتمّ إلاّ به، تمامًا كما المعموديّة. ومن هنا نفهم أيضًا أنّ التوبة هي دخول في بنوّة حقيقيّة لله، وأن أقبل الربّ كأب لي والمسيح كأخ، وأن أكتشف، كما الابن الضال، أن الله هو خيري الأعظم، وما البعد عنه سوى "حريّة كاذبة".

 

 

4. "سجدوا بالرغم أنّهم شكّوا". كان سجودهم علامة توبة. وفي كلّ مرّة سقطوا في الشّك وتراجعوا، عادوا فسجدوا وتجدّدوا. هذه هي حالنا الدّائمة. فالإيمان مسيرة طويلة، رحلة حجّ لا تنتهي. وهو نموّ دائم، وصراع بين الشكّ واليقين. لن تتوقّف التجارب ولا ليوم واحد، طالما نحن على الأرض. عظمة السجود في أنّ الإنسان يقوم به رغم الشكّ والضعف، كمن يلقي بنفسه بين يديّ أبيه من التعب والجهد. الشكّ متعب، ولكنّه لا يمنعني من الصلاة التي هي دواؤه، على ما يقول النبي داود في المزمور: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ" (مز ٣٤: ٨). بالسجود نتذوق الربّ، فنكتشف أنه الطّيبة وأن طريقنا مرّ. وبذلك نعود إلى بيتنا الأوّل. هذه العودة ليست سوى سجود. إنّها حركة متكاملة.

 

 

عندما نشعر بالفتور والشكّ وعدم الحماسة للصلاة، لا ننتظرنّ أوقات الحماسة الروحيّة لكي نصلّي. ذلك أننا لن نَصِل إلى الحماسة الروحيّة إلاّ من خلال الصلاة. يقول القديس أفرام السريانيّ: "إذا كنت تنتظر أن تشتعل فيك روح الصلاة حتى تركع، فلن تصلّي أبدًا. إركع وسوف يشتعل فيك روح الصلاة".

 

علينا، في صلاتنا، أن لا نهتمّ "بالتركيز" أكثر من اللزوم. طبعًا الصلاة بحاجة إلى تركيز، لكي تكون روحنا حاضرة. ولكنّ البعض يحوّلون الصلاة إلى مجرّد جلسة تركيز. يحصرون فكرهم في الكلمات، وفي كلّ مرّة يشرد الفكر يعيدون الصلاة من البداية. الصلاة هي جلسة مع أبينا السماويّ، وقت من الحبّ العميق والراحة. حتّى ولو شردنا عن بعض الكلمات، ليس هذا هو الأساس. المهمّ أن أشعر بعمق بنوّتي له، وبحبّه لي، وبحبّي له. لا تترك الكلمات الخارجية تأخذ مكان الشعور العميق.

 

 

5. أقامهم الرّب يسوع من سقطة الشّك والضّعف ومنحهم سلطانه الإلهي وأرسلهم ليتلمذوا كل الأمم (سلطان التّعليم)، ويعمّدوا المؤمنين باسم الثّالوث القدّوس لولادتهم الجديدة (سلطان التّقديس)، ويبنوا جماعة المؤمنين على أساسيّ: الحقيقة والمحبّة (سلطان الرّعاية والتدبير) (راجع الآيتين 19 و 20).

 

 

أرسلهم ليتلمذوا كلّ الأمم فيعلموهم ما علّم هو بشخصه وأقواله وأفعاله وآياته. وبما أنّ الكنيسة تقوم بمهمّة التعليم بشخص المسيح وباسمه، عليها الانصات الدّائم له، فهو المعلّم الأساس.

 

 

وأرسلهم ليعمّدوهم باسم الثّالوث القدّوس، ويؤمّنوا لجميع النّاس الولادة الجديدة، فيصبحوا أبناء الله وبناته بالابن الوحيد، يسوع المسيح، وورثة الملكوت، ويشكّلوا جسد المسيح، الّذي هو الكنيسة. ولأنّ الكنيسة توفّر لهم هذه الولادة الثّانية، تدعى أمًّا.

 

 

وأرسلهم ليعلّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصى به، ليساعدوا المؤمنين على حفظ الوصايا، من خلال تنظيم حياة الجماعة على أساس الحقيقة والمحبّة، وهما الرّوح الّذي يساعد على حفظ وصايا الله وتعليم الكنيسة: "من يحبّني يحفظ وصاياي" (يو 14: 21).

 

 

6. يضمن الرّب يسوع نجاح رسالتهم المثلّثة، وهي رسالة الكنيسة بوعده: "وها أنا معكم طول الأيّام إلى نهاية العالم". إنّه "عمّانوئيل" الله معنا. فالله الثّالوث بجوهره وديناميّته حضور ومشاركة. نشعر أحيانًا أنّه غائب عنّا أو بعيد أو غير مبالٍ بحالتنا، وبخاصّة في الشّدة. ولكن سرعان ما نكتشف أنّه كان معنا بشكل أفضل.

 

لفهم هذا الواقع أورد قصّة رجل تائه في الصّحراء كان يسير مطمئنًا إذ كان يرى في الرمال آثار أربعة أقدام. فعرف أنّ الله يسير معه. عندما هبّت العاصفة، نظر خلفه فرأى آثار قدمين اثنين فقط. حزن لأنّ الله تخلى عنه. ولكن عند هدوء العاصفة أتاه الله، فعاتبه الرجل على تخليه عنه. فأجابه الله: "أنا لم أتخلّى عنك". فحكى له الرجل قصّة غياب آثار القدمين. فقال له الله: تلك الآثار هي آثار قدميّ، إذ وقت العاصفة كنت أنا أحملك على كتفيّ.

 

 

*  *  *

 

ثانيًا، الإرشاد الرّسولي فرح الحب

 

نواصل نقل مضمون الفصل الرّابع وعنوانه: "الحبّ في الزّواج". فبعد ميزاته كما وصفها نشيد المحبّة للقدّيس بولس الرّسول (1كور 13: 4-7)، يدعو البابا فرنسيس الزّوجين للنمو في حبّهما (الفقرات 120-125).

 

إنّ نعمة سرّ الزّواج تقدّس الحب الزّوجي وتغنيه، وتنيره، وتشدّده في ما هو عليه كاتّحاد عاطفي، روحي وجسدي، قوامه تبادل هبة الذّات بحنان الصّداقة. هو حبّ يطبع كل واجبات الحياة الزّوجيّة، ويتمتّع بأولويّة النُّبل. ذلك انّه مسكوب من الرّوح القدس، وهو انعكاس للعهد غير المتزعزع القائم بين المسيح والبشريّة، والّذي بلغ ذروته في هبة ذاته الكاملة على الصّليب. فالرّوح الّذي يسكبه الرّب إنّما يعطي الزّوجين قلبًا جديدًا، ويجعلهما قادرين على حبّ الواحد الآخر، كما أحبّنا المسيح.

 

الزواج علامة ثمينة، فعندما يحتفل رجل وامرأة بسرّ الزّواج، "ينعكس" الله فيهما، ويطبعهما بطابع حبّه الّذي لا يُمحى. الزواج هو أيقونة حبّ الله لنا. والزوجان، بقوّة نعمة السّر، ومن خلال اتّحادهما المحب في بساطة الحياة اليوميّة، يشهدان للشركة في حياة الله الواحد والثالوث، ولحبّ المسيح لكنيسته، الّتي من أجلها يواصل، في سرّ القربان، هبة ذاته من أجلها. هذه الشهادة ليست أمرًا سهلاً، لكنّها تشكّل مسيرة يوميّة بصبر وصلاة وفرح.

 

والزواج هو أكبر الصداقات ففيه كل ميزات الصّداقة: السعي إلى خير الآخر، والحميميّة، والحنان، والاستقرار، وتقاسم الحياة بكل ما فيها. لكنّه يضيف إليها الحالة الاستئثاريّة التي لا تنفصم، وتنطوي على الثبات في الحياة الزوجية مدى العمر.

 

إنّ الّذي يحبّ حقًا لا تخطر على باله علاقة لزمن محدّد وعابر. إنّ المشاركين في احتفال قائم على الحبّ الحقيقي يأملون أن يدوم في الزّمن. والأولاد يريدون أن يتحابّ والدوهم، وبخاصّة أن يظلّوا أمناء. ويمكثون معًا دائمًا. كلّ ذلك يدلّ إلى أنّ طبيعة الحب الزّوجي تنطوي على الانفتاح نحو ما هو نهائي. بالنّسبة إلى المؤمنين، الزواج عهد أمام الله يقتضي الأمانة: "يصير الاثنان جسدًا واحدًا. وما جمعه الله لا يفرّقه الإنسان" (متى 19: 5).

 

الزواج تحدٍّ يتطلّب النّضال، والولادة من جديد، وإعادة اكتشاف الذّات، والبدء من جديد حتّى الممات.

 

                   

صلاة

 

أيّها الرّب يسوع، نشكرك لأنّك كشفت لنا سرّ الله، الواحد والثّالوث، الآب والابن والرّوح القدس. ساعدنا بنعمتك لنفتح قلوبنا لمحبّة الآب، ونفوسنا لنعمة خلاصك، وكياننا لعمل الرّوح المحيي. لقد أحببت العالم فأرسلت إليه كنيستك تعلّم وتقدّس وتجمع بالحقيقة والمحبّة. بارك الأزواج في عهد حبّهم لكي يعيشوه بأمانة، ويعكسوا صورة الله، الشركة في المحبّة، وليتقدّسوا بنعمة هذا السّر المقدّس. فنرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدّوس، الإله الواحد، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

التنشئة المسيحية - البطريرك الراعي 

موقع بكركي.